-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تحالف الأحمر مع الأخضر!

تحالف الأحمر مع الأخضر!

قبل عِقدين توفّي ديرك يان سترويك Dirk Jan Struik الذي عاش قرنا وست سنوات، فلو اعتبرنا أن عام 2000 هو أول سنة من القرن العشرين، أو مدّد الله في عمره بشهرين، لجمع بين ثلاثة قرون (19م، 20م 21م)! لقد ولد سترويك يوم 30 سبتمبر 1894 بهولندا، وتوفّي بالولايات المتحدة يوم 21 أكتوبر 2000.

في أوروبا

التحق سترويك بجامعة ليدن (Leiden) الهولندية عام 1912. لكنّه، لم يكن منشغلا كل الانشغال بدراسته إذ وصف ذات مرة الجو الجامعي مشيرا إلى أنه : “لا أحد يقول لك أية محاضرات ينبغي حضورها، فما عليك إلا أن تتبع أسلافك من الطلاب … فلا مدير ولا موجّه ولا مرشد تستنجد به… ولا اختبارات تقييمية للطلاب… فلم يكن هناك سوى امتحانين خلال أربع سنوات من الدراسة!”.

وقد درس سترويك الرياضيات والفيزياء على أيدي كبار العلماء. وغادر الجامعة عام 1917 في الوقت الذي كان سينهي فيه شهادة الدكتوراه وذلك لأسباب مادية. وتولّى تدريس الرياضيات بإحدى مدارس أمستردام. وفي وقت لاحق راسله أحد كبار الرياضياتيين ليطلب منه القدوم إلى جامعة دلفت (Delft) الهولندية عارضا عليه منصب أستاذ مساعد. وهناك أحرز على شهادة الدكتوراه في الهندسة التفاضلية الريمانية عام 1922. وبعد عامK تعيّن أستاذا بجامعة أترخت (Utrecht) الهولندية.

وفي ألمانيا طُلب منه دراسة وتحقيق أعمال الرياضي الألماني فليكس كلين Klein (1849-1925) حول تاريخ رياضيات القرن التاسع عشر. وكان كلين، الذي توفي بضعة أيام بعد وصول سترويك إلى ألمانيا، أستاذا بجامعة غوتينغن (Gottingen) ذاع صيته بإسهامه الذي أحدث “ثورة” في الهندسة، واشتهر أيضا بتأسيسه للموسوعة الألمانية الرياضياتية الضخمة عام 1912. 

ومن ذكريات سترويك في جامعة غوتينغن أن العالم ديفيد هيلبرت Hilbert (1862-1943) كان يدير حلقة بحث، وذات مرة كان أحد المحاضرين يعرض أعماله، وفجأة نهض هيلبرت مخاطبا الجمهور: “اُنظروا، كم هي جميلة هذه النظرية”. ثم سأل المحاضر : “أين عثرتم عليها؟”. فأجاب المحاضر باندهاش : “إنها نظريتكم يا سيدي”!!

في الولايات المتحدة

وعلى الرغم من أن سترويك كان معروفا بأفكاره اليسارية، ففي عام 1926 اختار التوجّه إلى الولايات المتحدة، وظل يعمل في معهد ماساتشوستس للتقانة (MIT) الذائع الصيت، مركّزا اهتمامه على تاريخ الرياضيات فأصبح أستاذا عام 1940. 

وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية، اتجه العديد من الأساتذة إلى ميادين البحث المتعلقة بالجانب العسكري. أما سترويك فكان يقضي وقته في تدريس الجنود. وكانت وزارة الدفاع الأمريكية آنذاك قد طلبت منه التعاون معها، فكتب مقالا يعلن فيه أنه “لن يقوم بأي عمل من شأنه أن يساعد على تقتيل البشر”. ومن ثمّ، خطرت بباله فكرة البحث في أصول العِلْم الأمريكي من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، وهو بحث لم يكد يتناوله المؤرخون من قبل. 

لقد نال كتابه “الموجز في تاريخ الرياضيات ” شهرة واسعة حيث تُرجم إلى عدد كبير من اللغات الأوروبية والآسيوية. وكان سترويك يضيف في كل ترجمة مادة جديدة لكتابه المترجم تخصّ بلد اللغة التي ترجم إليها كتابه. ويَذكر في هذا المجال أن أحد زملائه عثر على ترجمة صينية لكتابه كانت قد صدرت بالصين عام 1956، فأرسل إليه نسخة من الترجمة. وقد وردت في مقدمة المترجم الصيني ملاحظة يعيب فيها صاحبها على الكاتب سوء تناوله للرياضيات الصينية. ولذا أعاد سترويك في الطبعة الثالثة لكتابه الصادرة عام 1966 صياغة القسم الخاص بالرياضيات الصينية!

ومما يروى عن طرائف سترويك في أواخر الخمسينيات أنه كان يحضر ملتقى؛ وكان المحاضر قد انتهى من تقديم عمله، لكن عرضه كان غامضا بشكل لم يستطع أحد تتبع أفكاره. ودار نقاش حاد بين المُحاضر والحضور في نهاية العرض، تبعه صمت ثقيل في القاعة بسبب سوء التفاهم بين المتناقشين. وفجأة رفع سترويك يده موجهًا الخطاب إلى المحاضر : “ناولنا شيئا نحمله معنا إلى البيت”! حينئذ ارتبك الباحث هنيهة، ثم خاطب القاعة بألفاظ بسيطة ومفهومة أوجز فيها ما جاء في محاضرته. فشعر الجميع بالارتياح لما بدا لهم من وضوح.

تحالف الأحمر مع الأخضر

لم يكن سترويك رياضيا عاديا، فأفكاره اليسارية التي لازمته حتى وفاته تسببت له في العديد من المضايقات. وهكذا عندما انتهت الحرب العالمية الثانية وبرزت ظاهرة الماكارتية المعادية للمدّ الشيوعي في نهاية الأربعينيات، اتهمه مكتب المخابرات الفيدرالي (“آف بي آي”) عام 1949 بانتمائه إلى الحزب الشيوعي وبتدريس الماركسية، ومَـثُل أمام العدالة. لكنه رفض الإجابة عن كل الأسئلة المطروحة عليه، وقد بلغ عددها 200 سؤال. ولذا طولب بدفع غرامة تقدّر بـألف دولار فتعاون معه زملاؤه كي يجنّبوه دخول السجن. ومن ثمّ منعته الجامعة من التدريس مع الاحتفاظ براتبه مدة خمس سنوات! 

أعيد الاعتبار لهذا العالم عام 1956، فاستأنف التدريس حتى أحيل على التقاعد عام 1960. وبسبب أفكاره السياسية رفضت الجامعة منْحه لقب “أستاذ غير متفرغ” الذي يحظى به عموما كبار الأساتذة عندما يُحالون على المعاش. 

وحاول سترويك في بحوثه ربط الرياضيات بخلفية اجتماعية اقتصادية متسائلا عن وزن القوى الاجتماعية والاقتصادية في تطوير علم الرياضيات بما فيها الرياضيات البحتة. وصادف عام 1994 عيد ميلاده المئوي، فأقام له معهد ماساتشوستس حفلا تكريميًا حضره عديد الأساتذة من داخل وخارج أميركا. وعندما سُئل سترويك عن فترة المتاعب التي عرفها غضب، وردّ قائلا “دعُونا من الحديث عن تلك الفترة”. 

وقد ألقى سترويك في مطلع التسعينيات محاضرة بهذا المعهد تحت عنوان “تأملات أحد مؤرخي العلوم” ختمها بالقول “إننا دخلنا الآن عهد اشتراكية من نوع آخر تدعونا إلى العمل على حلّ الأزمة المتفاقمة التي نعيشها اليوم : فكوْكبنا بأكمله مهدّد، ولذا ينبغي على الأحمر أن يتحالف مستقبلا مع الأخضر … [للحفاظ] على كوكبنا الأرض”! ذلك هو رأي من عاش أزيد من قرن على سطح هذا الكوكب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
6
  • أ.د/ غضبان مبروك

    شكرا يا دكتورسعد الله. أمثالك قلائل في هذا البلد. لقد أوفيت واستوفيت . نعم آن الأوان للتعاون لكي يحل محل الصراع. مع العلم أنالتعاون بين الأحمر والأخظرقائم منذ مدة. ان أفكار "السلام الأخظر" أوالغرين بييس متقاربة جدا من الأفكار الشيوعية. فالفكر الأحمر والأخظر منبعهما واحدوهو ألمانيا. والخظر في مجال البيئةقريبينجدا منالحمر رغمأن الراسماليةالمتوحشة تريدالتفريق بينهما. فهل "جائحة الكورونا" ستفعل التقارببيناللونين؟ ذلك ما سنراه بعد أن يرفع الله علينا هذا الوباء الخبيث والخطير.

  • ALI_DZ

    عند قراءة المقال تشعر ان الموضوع بعيد كل البعد عن الواقع ولا يمث بصلة لما نحن فيه ، لكن ختامه بالجمة " ولذا ينبغي على الأحمر أن يتحالف مستقبلا مع الأخضر … " اعاد له الصلة بما يجب ان يكون .

  • kabir hacina

    نتمنا ان يقتدي الاساتذة بعلمه

  • عبد الحميد قواسمية

    شكرا أستاذنا، مقال رائع

  • حماده

    كما ينبغي أيضا أن تتحالف المختبرات العالمية لانتاج لقاح كورونا

  • ياسين

    بالفعل:"فكوْكبنا بأكمله مهدّد، ولذا ينبغي على الأحمر أن يتحالف مستقبلا مع الأخضر … [للحفاظ] على كوكبنا الأرض”!"...أي تحالف الشيوعية التي تعني اللون الأحمر ...و الاسلام الذي يعني اللون الأخضر.... فهل يتحق ذلك من أجل سعادة الانسانية و ليس من أجل تدمير الانسانية كما تريده الليبرالية المتوحشة التي يعود أصلها إلى "شعب الله المختار"؟؟؟؟