-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تحوُّلاتٌ إستراتيجية عميقة في الوطن العربي

صالح عوض
  • 970
  • 0
تحوُّلاتٌ إستراتيجية عميقة في الوطن العربي

نواجه الآن مرحلة ما قبل بروز النتائج النهائية الواضحة لحراكٍ استمر سنوات عدة في المنطقة العربية.. حراك استخدمت فيه كل الوسائل والأساليب من مظاهرات مليونية سلمية إلى عسكرة المظاهرات إلى الخيار العسكري في حسم العملية وبجانب ذلك تدخلات دولية وإقليمية وتبدلات في المواقع والأدوار.. ولهذا كله نتائج سياسية واقتصادية تمس الجغرافيا السياسية والاقتصاد والتحالفات وطبيعة الدول والأنظمة والتركيبة الثقافية في البلد.. إنها نتائج تتمثل في تغيرات إستراتيجية على كل المستويات.. نتائج سترسم ملامح المنطقة لعشرات السنين القادمة.

في هذه المرحلة التي نمرُّ بها اختلط الديني بالسياسي والأمني بالاقتصادي فلم يعد بالإمكان الفصل بين الدوافع حيث تبدو جميعها موظفة توظيفا مكثفا في معركة طحن دامي القى الجميع فيها بكامل أثقالهم.. وخرجت إلى السطح أعمق الدوافع غورا في النفس وأكثرها غرائزية محمَّلة على جهل وتحلل الناس معها من كل ضابط أخلاقي وديني فأصبح ذبح الإنسان وحرقه وإغراقه وتمزيق جسده يتم باسم الله وباسم الدين، كما أن الضحية الثابتة في كل أعمال القتل هو الشعب والجماهير المعذبة.. فيما يتم ركيب تناقضات في جسم واحد؛ فالسكين المجرمة الغبية مع مظاهر تديُّن فجة واستعداد دائم للتدمير والتخريب بلا رادع من قيم أو دين.

لا نريد تقديم حصيلة السنوات الأخيرة من الحرب الجنونية وإن كان هول الأرقام يصيب الإنسان بالذعر وهو يستعرضها كما جاءت في إحصائيات محايدة عن عدد المهجّرين من بيوتهم وعدد الأيتام وعدد الأولاد المحرومين من الدراسة خلال سنوات طويلة وعدد القتلى والمصابين والبيوت المدمَّرة والأحياء المخرَّبة والثروات المستهلَكة في غير وجه حق بل في تدمير البُلدان.. حصيلة ثقيلة ستكون من ضمن ما سيؤثر على كل شيء في حياة أبناء الأمة ومؤسساتها وفي عميق تكوينها النفسي.

نريد فقط أن نشير إلى حقيقة واضحة وهي ان كل مكونات الأمة وكل الأطراف الإقليمية سقطت في الكمين الذي نصَّبه العدو فخسرت جميعها وبنسب متفاوتة من قوتها وأمنها واستقرارها.. لم ينجُ أحد لا المتآمر عليه الذي لم يجِد فهم اللعبة قبل وقوعها ولا المشترِك في المؤامرة الذي أغراه الموقف الإقليمي والدولي.. إن الجميع دفع ويدفع فواتير متجددة لم تنته آجالها بعد.. فلئن وقع الأذى العنيف على اهل العراق وسورية وليبيا إلا أن تلك الدول الإقليمية التي زوّدت المقاتلين بالمال والسلاح ووفرت لهم منابر إعلامية وسياسية وفتحت لهم الحدود وأقامت لهم المعسكرات لم تنجُ من العواقب التي لن تتوقف بمجرد انتهاء الأزمات.. ففضلا على مئات مليارات الدولارات التي انفقت في الحرب على العراق وسورية، هناك خسائر فادحة امنية وسياسية وأخلاقية تلحق بكل الأطراف العربية التي ساهمت في ذلك، وستكون مشكلاتها المؤجلة على بوابة الانفجار في أكثر من اتجاه، فلا يخلو بلد عربي من إثنيات ولا من مصالح لاستعماريين، وكل هذا عبارة عن فرص القابلية للانفجار.

إن النتائج التي ستترتب على هذا الحراك الدامي في المنطقة العربية سترسم ملامح الدول في المرحلة القادمة.. وهنا نطرح أسئلة عدة برسم الاستشراف لما سيكون عليه مستقبل منطقتنا: هل يغفر اليمنيون ما يجري بأرضهم وبلداتهم من حرق ودمار وتخريب وقتل منذ 26 مارس 2015 إلى حدّ الساعة بحجةٍ سياسية ذرائعية؟ كيف سيبني اليمنيون علاقتهم بالإقليم؟ أم أن اليمنيين سينقسمون إلى إقليمين واحد متمرد وآخر موال للإقليم؟ هل ستكون دول الإقليم قادرة على استيعاب ما حدث؟ وإلى أي مدى ستستمر في الدور والوجود في ظل تهديدات غربية وأمريكية لها وفي ظل احتقان قنابل موقوتة؟ 

ثم أي مستقبل سيكون للعراق بعد أن أدرك القادة العراقيون الذين اتكاوا على البُعد الطائفي والعلاقة مع الأمريكان أنه ليس بإمكانهم أن يسودوا في ظل تغييب المكوِّن الرئيس في البلد، وأن التطهير الطائفي الذي نهجوه تحت عناوين عديدة باء بالفشل، وأن العراقيين المسلمين السنة مكوِّن أساس ووجوده يحفظ للعراق توازنه وشخصيته ومن دونه لا عراق فهم نصف الروح ونصف القلب ونصف الجسد ونصف الجغرافيا، من دونهم لا وجود لأي شيء فليس أمام العراقيين إلا التحرر من أسر الطائفية والتكفير ليتحركوا إلى الأمام فلا حل أمني ولا حل سياسي إنما هو حل حضاري قائم على المواطنة.. كيف سيتحرك العراقيون بعد فترة وجيزة في الإقليم وهم يكتنزون ألما من دول الإقليم التي أسهمت بقوة في تدمير البلد وتشتيت أهله ومن العالم الخارجي كله المشترك في العدوان على العراق؟ كيف ستكون علاقتهم بمن استباح حدودهم وثرواتهم وعاث في أمنهم الفساد وقتل علماءهم وفعل ما فعل..؟ 

وكيف سيكون موقف السوريين من الدول التي أغرقت بلادهم شرا ودما بلا ذنب وتسبَّبت في قتل مئات الآلاف وتشريد الملايين من أبناء سورية؟ كيف سيتعامل السوريون مع من استهدفهم من دول إقليمية أو دولية وأحزاب وقوى سياسية؟ ما الموقف من الجوار والعالم؟ وكيف تتطوّر العلاقات مع روسيا والحلفاء؟ وماذا سينبثق عن هذه العلاقات الحالية..؟ وأي مستقبل للتحالفات الدولية والعلاقات مع الأمريكان والغربيين؟ ما هو مصير التحالف السوري الروسي الايراني؟ هل انتهى أجله أم أن مجيء ترمب يدفع به إلى التعمق والتوسع؟ وهل يصم العراق ومصر والصين ودول في أمريكا اللاتينية في مرحلة لاحقة؟ وحينذاك ما هي الآثار المترتبة على القضية الفلسطينية؟

كل هذه الأسئلة تقود إلى إجابات على الأرض بصناعة مستقبل بدأت تلوح تقاسيمه.. من الواضح أن تقاسيم المستقبل وملامحه لن يتشابه بالماضي بل سيأخذ منحى آخر تماما سيترتب عليه إعادة صياغة للواقع وللخطاب السياسي لدى الدول والأحزاب وترتيبات لاهتمامات المكوّنات السياسية وبرامجها بل وحتى لكتب أولاد المدارس في الجغرافيا والتربية والتاريخ.

إن دخول عاصفة ترمب في الملعب الدولي والإقليمي ستدفع بمقولات إلى الإمام وبمقولات أخرى إلى الخلف، كما ستقدم قوى وتلقي بقوى أخرى خارج المسرح.. فالرئيس الأمريكي الجديد يحمل معه سياسة جديدة تمس العلاقات الاقتصادية الكونية لاسيما مع أوربا والصين، الأمر الذي سيفتح أبوابا عديدة من الاحتمالات في صراع اقتصادي يفرض أجواء من التحالفات على المنطقة التي ستشهد تصاعد التنافس الدولي عليها.. ترمب ورؤيته للعلاقة بالدول ستكون عاملا إضافيا في إحداث التغييرات وإكمالها على وجه يغيِّر معالم العلاقات الاقليمية والدولية.

أجيالٌ جديدة ستفتح اعينها على واقع جديد امتزجت فيه المذابح بالتخطيط المنهجي للدول الاستعمارية.. كما يبدو أن  قوى المقاومة في الأمة بدأت تثبِّت أقدامها في المنطقة العربية وتبدأ من مثقفين عرب انصهرت أعصابهم بالنكبات فاكتشفوا المفيد من المسيء وعرفوا قيمة الأشياء بلا رتوش.. ففي فلسطين أصبحت اللعبة الغربية الأمريكية أكثر جلاء ولم يعد ينطلي على الشعب الفلسطيني ألاعيب التسوية العبثية ولا شعارات التضخمات الوهمية للقوة وأصبح الناس أكثر وعيا وفهما لكيفية إدارة الصراع، ومن المؤكد أن أجيالا فلسطينية في كل فلسطين وفي الشتات أصبحت أرسخ قدما على أرضية وعي حضاري بصراع تقود فيه فلسطين الجولة القادمة نحو انتصارات متتالية في الأمة.. كما أن سورية ستكون أكثر حيوية بعد محاولة الأشرار تدميرها.. ستصبح سورية أكثر نشاطا وانهماكا في واقع المقاومة ليس فقط بالإسناد وبالخطاب إنما بالفعل المتنامي المباشر، كما أن العراق لن يستقر للطائفيين بل سينبني على قاعدة المواطنة العراقية التي ستفضي به أن يكون خطا أماميا في مواجهة المشروع الغربي الاستعماري وقاعدته المتقدمة الكيان الصهيوني.. 

وعندما يصحو المستقبل عن استقرار داخلي لسورية والعراق سيبدأ العرب مرحلتهم القادمة: انتصارات وصعود حضاري، وستنزوي أيادي الأشرار التقليميين من المنطقة، وسيعرف العالم كيف يتعامل مع المنطقة بما قد خبر منها من شكيمة وإرادة حياة.. وسيكون لنهوض سورية وتماسك العراق الفضلُ الحقيقي في إقامة علاقاتٍ متوازنة مع إيران تسمح ببناء القاعدة الاساسية في وحدة الأمة.

التغييرات الاستراتيجية العميقة تتجه ليتم تتويجها مع صمود أهل فلسطين والعراق وسورية للخروج من فتنة التكفيريين والطائفيين والعبث السياسي، ستخرج بلاد الشام والعراق بسلام من نار كادت أن تحرق قلب العرب والإسلام.. تولانا الله برحمته.

لئن وقع الأذى العنيف على أهل العراق وسورية وليبيا إلا أن تلك الدول الإقليمية التي زوّدت المقاتلين بالمال والسلاح ووفرت لهم منابر إعلامية وسياسية وفتحت لهم الحدود وأقامت لهم المعسكرات لم تنجُ من العواقب التي لن تتوقف بمجرد انتهاء الأزمات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!