-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
صيحة الشروق

تشكل الهويات “المعاشية”

عمار يزلي
  • 1792
  • 0
تشكل الهويات “المعاشية”
ح.م

“طبيعة المعاش” كما يسمّيها ابن خلدون، من العوامل المحركة للصّراع بين مختلف الانتماءات الجغرافية ـ طبيعة المعاش، المتقاطع مع الانتماء القرابي، قد يفتت العلاقة القرابية إلى علاقات مهنية مصلحية في آخر المطاف. هذا العنصر، سيكون حاسما في الصراعات الداخلية، ومحددا أيضا، ذلك أن “المصلحة” في نهاية المطاف.

هكذا، وإذا أخذنا بعين الاعتبار التقسيم الذي وضعه ابن خلدون، وبعده ليون الإفريقي في “وصف إفريقيا” لسكان شمال أفريقيا، بمختلف الانتماءات العرقية و”المعاشية” والجغرافية، سوف نجد أن محرّك الصراع، بقدر ما كان “قرابيا”، كان أكثر منه “معاشيا”.

فالصراع كان على الفضاء أكثر من أيّ شيء آخر، وهذا يبدو بديهيا كون “المعاش” هو العنصر المحدد في التحالفات والتعايشات، وهو ما يصطلح أن يعبر عنه اليوم “بالمصالح الاقتصادية”.

وإذا كانت الملكية الفردية، لم تظهر بعد إلا ضمن ملكية الأسرة والجماعة، على أساس أن الأراضي كانت سائبة ومشاعة، فإن المجموعات السكانية مستقرين كانوا أم رحلا، قد تملكوا ممتلكات جغرافية، لتكون مشاريع مستعمرات متوسعة باستمرار لاستيعاب التوسع الطبيعي لسكان العشيرة أو القبيلة أو كنفدرالية القبائل.

هكذا، سوف نجد هذا التملك، يحُدث نوعا من التحالف المكره ما بين القبائل الرعوية البربرية من زناتة والقبائل العربية البدوية. تحالف غير طوعي فرضته ظروف “التعايش” واقتسام الفضاء الرعوي، حيث شساعة المساحة الرعوية. كما أنه في الوقت نفسه، يحدث صراعٌ هوياتي، نتيجة التقاطعات الأفقية والعمودية (المعاش والقرابة) والتي قد ينضاف إليها فيما بعد، عنصر المعتقد، الذي قد لا يتناغم دائما مع العنصرين السابقين، فيحدث تقسيما عموديا من شأنه أن يجزئ المجزأ إلى أجزاء أصغر.

طبيعة المعاش، ستشكل “طبيعة الجماعة” السلوكية. سيجعل الانتماء الفضائي من سلوك الجماعة سلوكا “خشنا” أو “مرنا” حسب الانتماء لهذا الفضاء، ولهذا المعاش أو ذاك. فالخشونة في المعاش، مرتبطة بالترحال والبداوة، كون طبيعة الترحال هي نفسها تفرض تشكل بنية سلوكية نفسية مختلفة عن نظيرتها في المدن وحياة الاستقرار التي عادة ما تكون أكثر “تحضرا” وأكثر تهذيبا.

فالتوحش، الذي يلصقه بعض المؤرخين الغربيين ومنهم “Procope”، وحتى “ليون الإفريقي” ببعض الأقوام وأفخاذ قبائل عربية وبربرية على حد سواء، إنما هو لصيق طبيعة المعاش، وليس طبيعة بشرية. هذه الطبيعة “الطبيعية”، قد تتحول إلى “ثقافة ونمط سلوك” حتى مع تغير المعاش. فقد يبقي الاستقرار،  كثيرا من الخصائص النفسية والسلوكية المتولدة عن الترحال، وهذا ما نلاحظه في سلوكات ساكنة المدن المغاربية والجزائرية والعربية عموما (التمدن البدوي أو ما نسميه بتبدي المدينة أو تريفها).

التخصص في معاش معين، يكسب التجمع المعين عنصرا هوياتيا إضافيا يسمح له بالتميز عن الآخر، وسوف يأخذ هذا البعد الهوياتي الجديد شكلا ثقافيا متمثلا في اللباس وفي الهندام بشكل عام. يضاف إلى ذلك تقاطع آخر، كما أسلفنا وهو تدخل المعتقد (أو الدين) ليجمع أو يقسّم المقسم سابقا إلى أقسام صغرى. يحدث هذا مع نزوع الفرد  إلى التماهي مع أفراد آخرين من غير دمه، ولا معاشه ولا دينه. فالتماهي هنا سيكون متمثلا في “القوة” والهيمنة والسيطرة و”التحضر”، وهذا ما سيفسر ظهور الفرق الدينيّة، والطوائف والمذاهب داخل الديانة والمعتقد الواحد.

هكذا نخلص إلى أن تشكل الفضاءات المغاربية على ما هي عليه اليوم من حدود، إنما هي سيرورة ومسار قديم تأتيان من بداية تشكل الهويّات ذات الأصل المشترك (دم وتراب)، وذات العناصر الهويّاتيّة المكتسبة عن طريق التقاطعات الأفقية، والعمودية التي فرضت نفسها عبر التاريخ لتتشكل كما هي عليه اليوم، وكأن التاريخ لم يغير كثيرا، إلا في بنيات مناطق التّماسّ، والفواصل (الحدود الإقليمية)، والتي كانت مناطق غير مستقرة “سياسيا”، وخاضعة لتحولات وتغيرات مستمرة وتقاسمات وانصهارات كبرى، تجعل من سكان ضفتي الحدود، شعبا واحدا بعنصر هوياتي مختلف ضمن إطار الهوية الكيرى، الأمازيغية، العروبة، الإسلام.

هذا ما يفسر وضعنا الهوياتي الحالي ونمط سلوكنا الخشن مع ثقافتنا السمحاء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!