-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ثمانية أسس للإصلاح الإداري

محمد بوخطة
  • 1037
  • 0
ثمانية أسس للإصلاح الإداري
ح.م

إن ملف الإصلاح الإداري هو الملف الوحيد الذي لم يحرك فيه نظام الرئيس السابق شيئاً إذ اكتفى بإنشاء ما سماه “لجنة إصلاح هياكل الدولة” وتوقف عندها. وحين نتحدث عن الإدارة فنحن نتحدث عن واجهة الدولة، التي ينظر المواطن من خلالها إلى المسئول وإلى النظام الذي يحكمه، ومن ثمَّ فهي مؤشر مؤثر جداً في العلاقة بين المواطن والسلطة السياسية ـ أو النظام ـ يمكن أن تكون عامل استقرار وطمأنينة، كما يمكن أيضاً عامل استفزاز وإثارة.

1 ـ إن أي إصلاح إداري لن يكون مفيداً إلا إذا انطلق من قضية مركزية وهي “تغيير عقيدة الإدارة” يعني ذلك جعل الإدارة خدمة عمومية حقيقية هدفها تسهيل حياة المواطن وخدمته بأفضل الأساليب وأيسرها وأسرعها وأقربها إليه، يعني ذلك أن يتحقق موظف الإدارة أو المشرف عليها بأنه مسئولٌ ومحاسَب أمام المواطن أولاً قبل أن يكون مسئولاً أو محاسباً أمام رئيسه.مظاهر كثيرة تطبع سلوك الإداريين: عدم الالتزام بأوقات الدوام الرسمي، التعامل مع المواطن بفوقية وعدم اعتبار الممارسة البيروقراطية المريضة التي تهدر وقت المتعامل وتفرض علية الذهاب والإياب وتطيل أمد المشكلات بلا داع… وغيرها كثير، كلها سلوكات توحي بأن الموظف يتصور الوظيفة الإدارية مجرد ممارسة سلطوية يسعى من خلالها إلى إثبات ذاته وفرض سلطانه على المواطن بما يُشبع شهوته في التسلط وكأنه يملك الإدارة ويملك المواطن أيضاً.

إن مثل هذه السلوكات تتنافى تماماً ومفهوم الخدمة العمومية التي تعني الحرص على خدمة المواطن وكسب رضاه والتودد إليه من خلال جودة هذه الخدمة والاجتهاد في تحسينها دوماً وجعل رضاه المعيار التي تقيِّم وتقوِّم به الخدمة العمومية وفقاً للنظام العام.

إن تغيير عقيدة الإدارة يعني بالضبط ألا يشعر الموظف أنه في خدمة نفسه أو في خدمة رئيسه المباشر أو غير المباشر يسعى لكسب رضاه، إنما هو في خدمة الدولة المجردة غير المجسدة في السلطة أو في صاحب السلطة بل يجسدها “الشعب” كأهم ركن من أركانها.

2 ـ من أهم عوامل الإصلاح الإداري “الاقتصاد في التشريع واستقراره”، إن المثل القائل “من كثر لغطُه كثر غلطه” ينطبق تماماً في مجال التشريع، ذلك أن كثرة النصوص القانونية يعقد التعامل معها ويعسّر على المواطن فهم تعاملاته وحسن التعبير عن حاجاته في مجال الإدارة ـ أتكلم هنا عن المواطن المتعلم والمثقف فضلا عن غيره ـ فتصبح المعالجة اختصاصا يحتكره الإداري، هذا إن أتقنه طبعاً. إن كثرة التشريعات لا تدل أبداً على الرُّقِي بل على العكس من ذلك، إن الدول المتحضرة لا تسنُّ قانوناً إلا إذا ألغى ثلاثة قوانين على الأقل، التشريع إذن استبدال نص بنص أفضل وأدقّ وأيسر وليس إضافة نصٍّ إلى نصٍّ لتكون النتيجة تخمة تشريعية متناثرة متداخلة غير منضبطة ولا محددة بل متناقضة أحياناً فيكثر التفسير ويكثر الاختلاف عليه ليضيع المقصود.

فضلاً عن ذلك فإن صياغة النصوص القانونية في حد ذاتها تحتاج إلى ذكاء خاص وعبقرية في بنائها، فما أكثر النصوص التي لا تفوق قيمتها الحبر الذي تُكتب به.

3 ـ من عوامل الإصلاح الإداري أيضاً “تفعيل دور القضاء الإداري في مراقبة تطبيق القانون من قبل الإدارة” ولأن القضاء هو البوصلة التي ينضبط بها النظام والمجتمع أصبح الضروري أن يبسط سلطانه في ممارسة الرقابة الحقيقية على سلوك الإدارة واحترامها للخدمة العمومية بتطبيق القانون التطبيق السليم بقرارات ملزمة النفاذ، لأنَّ واقع الإدارة اليوم يجعلها سلطة فوق السلطة في أحيان كثيرة تتجاهل حتى الأحكام أو القرارات القضائية أو تتعمد تعطيلها وفق رغبة المسئول من دون أدنى اعتبار للجهة التي صدّرتها، أتكلم هنا عن واقع مشهود نعايشه يومياً، والحال كذلك لا يمكن الحديث عن أي إصلاح قبل أن تصحيح العلاقة بين الإدارة والسلطة القضائية..

4 ـ من عوامل الإصلاح كذلك “تحديد الآليات والآجال في الخدمات التي تقدمها الإدارة”، إذ متى كانت الآلية مجهولة والأجل غير محدد أصبح ذلك وسيلة في يد الإداري كي يعبث بوقت المتعامل ويعطل أعماله

عندما يتقدم مستثمرٌ ما بملف استثماري لدى إدارة مختصة ولا تكون هناك آجالٌ محددة وملزِمة للإدارة بكل صرامة، ذلك يصبح وسيلة في يد مسئول الإدارة كي يمارس التعسف أو التربُّح أو التعطيل وهو باب كبير من أبواب الفساد.

نفس الشيء عندما لا تحدد الآليات ومعايير دراسة المعاملات في أي مجال، فإن المسئول الإداري المعقد أو الفاسد يُثقل كاهل المتعامل بالطلبات والوثائق وتغييرها في كل مرة.. كم تعطلت مشاريع وكم فرَّ مستثمرون بسبب تسلط الإدارة واستماتتها في خدمة الفاسدين.
لعل إدارتنا الوحيدة في العالم التي ترفض منحك “وصل استلام” بأي وثيقة أو ملف حتى تتهرب من المسئولية القانونية، ويعتبر المسئول الذي يمارس ذلك نفسه عبقرياً بتحايله الغبي على القانون الذي لم يجد له رادعاً، وما أكثر الأمثلة هاهنا.

5 ـ يبقى “الاستثمار في المورد البشري بحسن تكوينه” وهو الأمر الحاضر شكلاً والغائب مضموناً؛ فعندما نتحدث عن مفهوم الخدمة العمومية وعن ضرورة تغيير عقيدة الإدارة، ذلك لن يحدث منحة من السماء، إنما يتحقق بالاهتمام بتكوين المورد البشري الذي يمارس الخدمة العمومية وتلقينه أصولها وفق منهجية واقعية ولكن أصيلة معبرة عن القيم التي يقررها مشروع المجتمع والدولة، ليس ذلك بالأمر الهين ففاقد الشيء لا يعطيه، عندما يقابلك الموظف وهاتفه على أذنه وسيجارته بين شفتيه يحدثك بفضول كلماته، ينظر إليك مرة ويلتفت عنك مرات وهو سلوك يكاد يكون عاماً، أعتقد أن مرد ذلك غياب منظومة تكوين محترمة أو قصورها عن ترسيخ قيم الاحترام والخدمة العمومية.

6 ـ “العناية المادية بالموظف” لا يمكن أن نتجاهل أن منظومة الأجور عندنا هي من أدنى المنظومات في العالم إن لم تكن أدناها، إن الموظف الإداري الذي نريد منه الخدمة الراقية في عمله لابد أن نضمن له الحياة الكريمة والمعيشة اللائقة براتب محترم يكفيه ذلك، فمن كان همُّه في مأكله ومشربه ومسكنه الذي لا يكاد يجده، لا تنتظر منه الابداع، إن من يحيا المعاناة سيصدِّر المعاناة.

عندما أتحدث عن العناية المادية بالموظف وتحسين شروط أدائه فأنا أقصد ما يحفظ الكرامة ويضمن العيش الحميد لأن ذلك حقه، أما قيم الوفاء والأمانة والصدق والإخلاص في التعامل فهي قيمٌ لا تباع ولا تشترى، فأنا لا أؤمن بالمنطق الذي يقول ادفع أكثر للموظف حتى لا يرتشي، فالأخلاق ليست سلعة بالمزاد تُباع وتشترى فتشتريها من الموظف براتب تدفعه له.. أبداً، إنما يستحق الموظف راتباً تقديرا لجهده ولنضمن له العيش الكريم.
إن المرتشي سيبقى كذلك ولو امتلك مال قارون، لعل الفلسفة التي بُنيت عليها منظومة الأجور هي ذاتها بحاجة إلى مراجعة.

7 ـ يحتاج الموظف إلى نوعين من الحماية: “حماية من تعسف المسئول وحماية من تعدي المواطن”..

قد تكون إدارة بأكملها ضحية مسئول عديم الكفاءة متعجرف معقد يغطي ضعفه بإثارة الرعب بين مستخدَميه وتسلطه عليهم بل وتسليط بعضهم على بعض مستغلاً في ذلك منصبه وسلطانه.

أبسط مثال على ذلك ما يقوم به بعض الولاة والمديرين من استعراضات فلكلورية أمام وسائل الإعلام تتضمن محاسبة علنية وتعنيفاً في صخب لا مبرِّر له سوى استعراض القوة على الضعفاء، لا أحد منعك من متابعة مستخدَميك ومحاسبتهم ولكن مكان ذلك المكاتب وحجرات العمل… إنه سلوكٌ جائر يفترض أن يقع تحت طائلة القانون ويُحمى منه الموظفون.

إن أكبر محفز على العطاء والتفاني لدى الموظفين هو القدوة التي يجسِّدها المسئولون الكبار حين يخلصون ويبدعون فيقدِّمون النموذج والبرهان على ما يدعون إليه.

إن توفير الحماية للموظف من تسلط المسئول ضروريٌّ جداً لتحرير الأداء وحفظ الكرامة، لا يعني ذلك أبداً التسيب وعدم تحمل المسئوليات، ولكن الفرق كبير بين من يطبق القانون بدافع احترامه له، ومن يطبق القانون استغلالاً له استجابة لأمراض نفسه وعللها، الموضوع عميقٌ ودقيق.

ومن الضروري أيضاً حماية الموظف من تجاوز المواطن واعتدائه، فكون الموظف يقدم خدمة للمواطن لا يعني بحال أنه عبدٌ له، بل على العكس من ذلك تماماً يستحق منه التقدير والاحترام.

ختاماً أقول إن رقمنة العقول يجب أن تسبق رقمنة الإدارة؛ فالرقمنة لا تُبدع ولكنها تجسِّد إبداع العقل البشري عندما يتنوّر.
والكفاءة هاهنا هي عبقرية التسيير والقدرة على إدارة الأشخاص واستخراج أفضل ما عندهم، حين تستلم إدارة جامعة في ذيل الترتيب فترتقي بها إلى رأسه فأنت بذلك فقط مسيِّر كفؤ، حين تستلم إدارة شركة مفلسة فتحولها بعبقريتك إلى شركة رابحة فأنت بذلك فقط كفؤ… والحديث قياس.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!