-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ثورات الشّعوب وحتمية النصر

ناصر حمدادوش
  • 1402
  • 3
ثورات الشّعوب وحتمية النصر
ح.م

لا تزال حالات الشّك تراود عقول الجميع في مدى قدرة هذه الثورات الشّعبية على تحقيق التغيير المنشود الذي ثارت من أجله ضدّ هذه الأنظمة التسلطية الفاسدة والاستبدادية الفاشلة، بسبب حالات الغموض التي أفرزتها سُنَّة التدافع وتصادم الإرادات وتقاطع المصالح بين العديد من الفواعل المؤثّرة في هذه الثورات داخليًّا وخارجيًّا، وخاصّة عندما يغيب الإدراك الواعي بالفروق الجوهرية بين منطق الثورة ومنطق بناء الدولة، وبين مهمة إسقاط الأنظمة ومعجزة الحفاظ على كيان الأمة.

ذلك أنّ عمليات التغيير على مستوى الشعوب والدول والأمم تكون على موجاتٍ ثورية طويلة، وهي أطول زمنًا من عمر الأفراد والجماعات والأحزاب، وهي تأخذ بُعدًا تراكميًّا متصاعدًا في لحظاتٍ متحرّكة من الزّمن في صناعة التاريخ، إلا أنها لحظاتٌ جامدة أو مجتزأة أو معزولة عن السنن الإلهية. وقد أثبت التاريخ أنّه لا توجد ثوراتٌ شعبية تقليدية أو نمطية، وأنه لا منطق لهندستها، وهي تفتقد في الغالب إلى التنظير والتنظيم، وما يرشحُ منه فإنّه غالبًا ما يكون بعديًّا وليس قبليًّا، مع الشّح في التراث الفقهي والفكري لها، وأنها لا تحقّق أهدافها بالضرورة كما يريد أصحابُها، فهي لن تكون مثالية أو نظيفة أو كاملة في إنجازاتها، وبالتالي فإنّ نجاحها ليس مضمونًا وآنيًّا وحتميًّا، وقد تُحرِّر هذه الثوراتُ الشعوبَ والأنظمة من حالة الانحباس التاريخي إلاّ أنها لا تنتهي في كلّ الأحوال إلى الحالة المثالية المنتظرة أو المتوقّعة، ومع ذلك فهي ليست خيارًا مريحًا بل هي حتميةٌ للعبور نحو التغيير والتجديد والتطوير، لارتباطها بالوعي المتنامي بالحقوق والحرّيات ومفهوم السّلطة والدولة لدى الإنسان، وهي حاجةٌ فطرية له تعبّر عن أشواقه نحو الحياة الأفضل، وأنه لا يوجد ما يخسره أمام حالة انسداد الأفق الذي أوصلته إليها هذه الأنظمة المهترئة، بعد أن سُحِقت إنسانيتُه في هذه الدول الظالم حكّامها. ومع أنّ هذه الثورات الشّعبية لم تستأذن أحدًا، وأنها ليست على مقاس الأفراد ورغبات بعض الجهات، ومع أنّ كُلفتَها باهظة وضريبتَها مزعجةٌ للبعض، إلاّ أنه من الناحية الأخلاقية والسياسية لا يمكن الحيادُ أمامها، لأنها تعبّر عن ضمير هذه الأمة وإرادة هذه الشّعوب، وهي تناطح الصّخر وتعانق السّماء ضدّ الظلم والفساد والاستبداد، وهي لا تُقاس بوقائعها ولا بتداعياتها الآنية، بل سيحكم التاريخ عنها بمآلاتها وما ستنتهي إليه ثمراتُها، وهي وإن بدأت عفوية وفوضوية ومفاجئة فإنها ستنتهي إلى أيقونةٍ إنسانية، قد فتحت الأفق للشّعب والدولة بدخول التاريخ العالمي، وسترتقي فصولُها من عالم الأشخاص إلى عالم الأحداث إلى عالم الأفكار، وستنتهي إلى مفاهيم ونظريات ونماذج ملهِمة للأجيال، لأنّها تدفّقٌ طبيعيٌّ نحو المستقبل. لا يمكن الحديث -في الحقيقة- عن ثوراتٍ متفرّقة بل على ثورةٍ إنسانيةٍ واحدة، وهي في عصر المعلوماتية والاتصالات الرقمية والإعلام المفتوح لا تستثني شعبًا دون آخر، وهو ما يرعب الأنظمة المستبدة عندما تتداعى إلى التضامن مع بعضها عبر ثوراتٍ مضادّة. هي إذن ثورةٌ أخلاقيةٌ وقيميةٌ واحدة. فهي انفجرت لأسبابٍ واحدة، وهي الظلم والفساد والاستبداد، وما على عقلاء الأنظمة إلاّ أخذ الدروس منها. وهي اندلعت لتحقيق أهدافٍ واحدة، وهي الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

وهي اهتدت إلى وسيلةٍ ناجعة وهي السّلمية، لسحب البساط من تحت أقدام الأنظمة القمعية التي تتغذّى من استقالة الشّعوب الطوعية من الشأن العام ومن العنف والتطرّف، الذي يضمن لها نصاب البقاء بشرعية مكافحة الإرهاب. وهي اصطبغت بطبيعةٍ واحدة وهي الشّعبية، التي تقفز بها على خبث الأنظمة في العيش على تغذية الفئوية والجهوية والحزبية والإيديولوجية والعرقية والطائفية، بنفس المنطق الفرعوني الذي خلّدته الحقيقة القرآنية في قوله تعالى: “إنّ فرعون عَلَا في الأرض، وجعل أهلها شيعًا..” (القصص: 04).

ومهما واجهت هذه الثورات الشّعبية من عقباتٍ وتحدّيات وخيبات، فإنّ ذلك لن يقلّل من مشروعيتها ومن نبل مقاصدها، ولا يمكن تحميلها فوق طاقتها، وقد قدّمت هذه الشعوب ما عليها، فهي مثل الثورات التحريرية المباركة، لا تضرّ تفاصيلُها المزعجة نصاعةَ عمومها المشرق، لأنّ طريق آمالها يخرج كما هي عادة التاريخ من رحم آلامها، وأنّ إشعاعاتِ الفجر الصّادق تنفرج من رحم أشدّ الليل ظلمة، وأنه مهما نجحت الثوراتُ المضادَّة في تأجيل انتصارات الثورة الشعبية وزادت من كُلفتها فإنّ التاريخ يؤكّد أنّ الثورات تنحني ولا تنكسر، وتتعثر ولا تندثر، ذلك أنّ الثورة الشّعبية قد استُعِير لها كلمةٌ جميلة معبّرة عن الحيوية ومفعَمة بالحياة، وهي الرّبيع العربي، وجلال الدّين الرّومي، عليه رحمة الله، يقول عن الرّبيع: (إنّ النّاس يقدِّرون الرّبيع أكثر ممّا يقدّرون الشتاء، لكنْ لا ربيع من غير شتاء يمهِّد له)، وأنّ المشاهد المؤلمة لتعثّر هذه الثورات الشعبية هي مَن تدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام. وإذا كان من الطبيعي أن تخضع الثورات إلى حالةٍ من النّقد اللاذع والمحاكمة القاسية، فإنّها لا تختلف عن غيرها من الثورات الشّعبية في العالم، فالثورة الفرنسية التي قامت سنة 1789م لتحقيق أهدافها الإنسانية الثلاثة: الأخوّة والحرّية والمساواة، والتي تُعدُّ أيقونة الثورات الشعبية في العالم، لم تُسقِط النظام الملكي إلاّ بعد 04 سنوات، ثم عادت الديكتاتورية عبر نابليون سنة 1804م وقد نصّب نفسه إمبراطورًا، ثم عادت الملكية سنة 1814م، وبالرّغم من الثورة ضدّها سنة 1848م إلاّ أن الديكتاتورية عادت مرّةً أخرى على يد نابليون الثالث سنة 1852م، ولم تنشأ الجمهورية إلاّ بعد هزيمته على يد بروسيا سنة 1870م، وهو ما يعني أنّ أهداف الثورة الفرنسية لم تتحقّق إلاّ بعد حوالي قرنٍ من الزّمن، ومع ذلك فهي في النهاية: ثورةٌ نبيلة، رغم الجراح والآلام والخيبات والانكسارات والانقلابات. وإذا كان هناك من نموذج تاريخي يمكن القياس عليه في نجاح الثورات الشّعبية رغم كلفتها الزّمنية والبشرية والمادية الباهظة، ويمكن أن يوفّر العبرة في الفهم والتحليل لمآلاتها، فإنّ خلاصاتها تنتهي إلى أنها تندرج ضمن نظريات الموجات الديمقراطية الحتمية التي تتوسّع في العالم، وأنها تعبّر عن إرادة الشعوب في رحلتها نحو الديمقراطية والحرّية السياسية، حتى تتناغم إرادة الحاكم مع إرادة المحكوم، وتتجسّد المصالحة مع الذّات، وأنها مسارٌ مستقبليٌّ تتويجيٌّ لن يعود إلى الوراء رغم الأعباء التاريخية المرهِقة. لا يمكن الإنكار بأنّ من أهمّ الإنجازات الإستراتيجية للثورات الشّعبية هي يقظة الشّعوب وانخراطها في الشّأن العام، وأخذها لزمام المبادرة، وعدم التسليم لأي سلطةٍ فيما تقوله أو تفعله، والجرأة بالطرق غير التقليدية في معارضة الأنظمة، والتحرّر من عقدة الخوف أو العنف أو الفتنة، والانتباه إلى أقوى سلاح وهو المقاومة السّياسية والثورة السّلمية، وانتشار الفكر الثوري وانتقال عدواه مخترقًا كلّ الحدود، وأنّ الإنجازات الثورية المحلية لا غنى لها عن إنجازات الشّعوب الأخرى، وجعل الحكام عبرة لحكّامٍ آخرين، وانتقال الرّعب من الضّفة الشعبية إلى الضفّة الرّسمية، وكسب ثقافةٍ سياسية جديدة تقفز فوق كلّ ما هو تقليدي من الأنظمة والأحزاب والشّخصيات، وعودة الأمل في الشعوب والثقة في التغيير، وأنه مطلبٌ جماهيري وليس نخبويا، وأنها اختبارٌ فعليٌّ لعديد الشّعارات والأقنعة والإدّعاءات..

وهو ما يجعلنا نقول بكلّ ثقة لكل الأنظمة الجاثمة على صدور شعوبها بغير حقّ: إنّ الزّمن والثورات ستقضي عليكم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • عمر

    حزبك يأكل مع الذيب و يبكي مع الراعي و مازلتم تنظرون علينا في الثورات الشعب فاق بيكم و انتم مافقتوش لعماركم

  • Ahmed

    وهل الثورة الفرنسية اللتي تستشهد بها حق لا ياتيه الباطل من بين يديه. اقرأ ان شئت le livre noir de la revolution francaise
    او Les Franc massons et la revolution francaise .

  • أحمد

    فلتصمتوا ..اصمتوا. أولم يبلغكم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". تبا لكم تبا، تبا، تب