-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حالة أمومة

سناء الشعلان
  • 687
  • 0
حالة أمومة
ح.م

لم تكن تعلم بزرع الجدار العازل على أرض قريتها في فلسطين، وهي تقبع في غرفتها الصّغيرة المعزولة في مستشفى إحدى العواصم العربيّة بعد أن حصلت على منحة علاج من إحدى المنظّمات الطّبيّة الخيريّة الدّوليّة بعد طول انتظار لتُعالج من مرض السّرطان الخبيث الذي غزا ثديها الأيسر منذ أن وضعت ابنها الوحيد هاشم، ومنعها من أن ترضعه ولو لمرّة واحدة في حياتها، ثم ألجأه إلى حضن عمّاته الثّلاثة العوانس اللّواتي يشاركنها السّكنى في البيت نفسه، كما يقاسمنها أعباء الحياة القاسيّة في مواجهة عدوّ اعتاد جنوده على مهاجمة بيتهم في دوريات تفتيشيّة مداهمة مكرورة منذ أن اعتقلوا زوجها في مواجهات احتجاجيّة في الشّهر الثّاني من حملها.

وكذلك زوجها لم يعرف شيئاً عن مرضها أو عن سفرها خارج الوطن برفقة والدها من أجل العلاج، فقد أخفت أمر مرضها عن زوجها بناء على رغبة شقيقاته اللّواتي آثرن التّكتّم على هذا الخبر كي لا يزدن من عذابات معتقله، وبوائق أحزانه وآلامه.

كانت تحلم بأن تعود إلى بيتها بعد طول غياب كي تضمّ صغيرها إلى صدرها الذي فقد ثديه الأيسر قرباناً للمرض، فتشمّه، وتغيب معه في احتضان طويل دافئ يجفّف برد حرمانها منه، وما كانت تعلم أنّها ستجد وطنها قد سُرق من جديد، وأن بيتها قد أصبح محض ذكرى سرابيّة بائدة، وأنّ شقيقات زوجها قد توزّعن على بيوت الأقارب مهجّرات بعد أن صادر العدّو بيتهم وأرضهم، وحوّلها إلى مساحة جرداء تحتضن جداراً إسمنتياً يحوّل الوطن إلى سرادق ضيقة ومصائد فئران وسجن انفراديّ.

تلاشى حلمها الوردّي بأن تحتضن طفلها الصّغير، بعد أن تحوّل إلى كابوس تعيشه بتفاصيله القبيحة الموحشة، وها هي قد أصبحت لاجئة في وطنها، وعلقت مع أبيها في بيت حجرة يسكنه أفراد عشرة من أقاربها، ومن جديد بات عليها أن تحارب سرطان الألم والوحدة والنّبذ.

حاولت دون جدوى أن تعود إلى أسرتها خلف الجدار، واشتدّت محاولاتها إلحاحاً عندما علمت أنّ زوجها قد خرج من المعتقل، واكترى بيتاً صغيراً في أطراف قريته، وجمع شمل أسرته من جديد، وجعل شغله الشّاغل أن يجد طريقة تسمح لزوجته بالعودة إلى بيتها وأسرتها وابنها، ولكنّه كان يخفق المرّة تلو الأخرى في تحقيق مراده، ويعود إلى سريره الحزين مخذولاً محروماً.

وكانت الفرصة الوحيدة للّقاء هي عبر الحصول على تصريح زيارة حصلت عليه بشقّ الأنفس، ولو كان هناك سفر للشّمس لكان أيسر من الحصول عليه، وأخيراً استطاعت أن تضمّ طفلها إلى صدرها تحت عيون الرّقباء غير الوامقين من الجنود الصّهاينة، بدا لها أنّه بالغ الإعياء على الرّغم من تلك الحمرة الوراثيّة التي تعلو وجنتيه، جفل منها عندما أمطرته بقبلها الهوجاء الملوّعة، ولكّنه استسلم سريعاً إلى رائحة أمومتها الفيّاضة التي تزكم أنفه وهي تدسّه في حضنها بانفعال واضطراب.

عيناه موئل لحزن عتيق، ورائحته تعجّ برائحة عشرات النّساء اللّواتي تناوبن على إرضاعه بعد أن فقد أمّه كي يحافظن على حياته من الهلاك، فأصبحت له عشيرة من الأمهات المرضعات والأخوة بالرّضاعة، ضمّته أكثر إلى صدرها؛ لعلّها تكسوه برائحتها الحانية، فتنزع عنه رائحة الأمهات المرضعات الكُثر اللّواتي يشاركنها  أمومتها بوحيدها الصّغير.

سريعاً ما انتهى وقت زيارة التّصريح، وتلقّف زوجها ابنهما منها، وضمّه إليه بشجاعة يحاول أن يصطنعها على كره وإصرار، ولكنّه يخفق في إتقانها، طبعتْ قبلة سريعة على جبين ابنها، وهمستْ في أذنه: “سأعود في القريب. صدّقني”. ثم غادرت المكان، وهي تخلع قدميها المرة تلو الأخرى من الأرض التي يصعب عليها أن تغادرها، ومزقة من قلبها تضطرب بعجزٍ بين يدي زوجها الذي يسير نحو البعيد مهدّماً ضعيفاً، وكأنّه شاخ بمقدار قرن أو اثنين في أسابيع قليلة.

مضى يومان وهي تحلم بأن تضمّ طفلها إلى صدرها من جديد، وهي أسيرة عينيه الزّائغتين في فراغ مجهول، عندما رفض العدوّ أن يعطيها تصريحاً للزّيارة ولو لدقائق قليلة، هزأت من جبنه المتجبّر على طفل صغير وأمّ مريضة وحيدة، وقررت أن ترى ابنها أوافق العدوّ على ذلك أم أبى.

في المساء كانت قد عبرت الجدار الفاصل رغم أنوف الجنود الصّهاينة المدجّجين بالسّلاح والخوف والحذر، ولكنّها لم تكن تسعى حيّة على قدميها عندما عبرته، بل كانت جثة هامدة مخرّقة بالرّصاص، وموصومة بجريمة التّخريب، ركلها الضّابط المناوب على الحراسة الليليّة بحذائه العسكريّ الغليظ، وأمر جنوده بأن يبعدوها عن البوّابة، ففعلوا، وكوّموها إلى جانب الجدار وكفّ يدها متخشّبة على ثديها الأيمن الذي كانت تحلم بأن ترضع ابنها منه ولو لمرّة واحدة في حياتها المهدورة على بوابة الجدار العازل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!