-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حرب ضد الفساد العلمي!!

حرب ضد الفساد العلمي!!

الطبيب الباحث جون إيونيديس Ioannidis أستاذ في جامعة ستانفورد Stanford الأمريكية الشهيرة، تولّى مسؤوليات كبيرة في مجال الطب وعلم الأوبئة. في يوم 30 أوت 2005، نشر هذا الباحث الذي له باع أيضا في العلوم الاجتماعية، مقالا أثار ضجة منقطعة النظير في الوسط العلمي، وجاء هذا المقال تحت العنوان “لماذا جلّ نتائج الأبحاث المنشورة خاطئة؟”!

الخطأ أكثر من الصواب

تحدث الكاتب عن الأبحاث التطبيقية في المجال الطبي والبيولوجي فقال على الخصوص: “يتم في بعض الأحيان دحض الأبحاث المنشورة عن طريق أدلة تأتي في وقت متأخر”. ثم يضيف: “في الأبحاث الحديثة، هناك قلق متزايد من أن تكون الكثير من النتائج المنشورة، بل جلّها، ادعاءات خاطئة. ينبغي ألا نستغرب في ذلك”! ويستخلص: “إنه يمكن إثبات بأن معظم النتائج التي يزعمها البحث العلمي غير صحيحة.”!!
وفي يوم 20 نوفمبر الجاري واصل الأستاذ إيونيديس دراسة الموضوع محاولاً مع زملائه وضع مقاييس جديدة للحد من هذا الداء، وملاحظًا أن الاهتمام المفرط اليوم بعامل الإنتاجية -بدل التركيز على الشفافية في الأبحاث العلمية وتقاسم المعلومات والانفتاح على الآخر- خصوصيات سلبية لأن الانفتاح والشفافية من شأنهما أن يساعدا على تقليص الأخطاء التي يمكن أن نرتكبها جهلاً أو عن قصد.
وفي 14 نوفمبر الحالي أعلن الأستاذ أنتوان بوتيPetit، مدير المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي (CNRS) حربًا ضد الغش في مجال البحث العلمي، مؤكدًا أن هيئته ستكون من دون “رحمة” ضد السلوكات التي تسيء للعلم وللثقة به. حدث ذلك بعد أن توالت وقائع الغش والتزوير في فرنسا لدى كبار الباحثين، سيما في المجال التطبيقي (الطب والبيولوجيا)، وآخرها كانت قضية الباحثة اللامعة كترين جيسوس Jessusعام 2017، وفي العام الجاري قضية آن بيروش Peyroche، التي كانت المشرفة العامة على المركز المذكور!
يقول مدير المركز أنتوان بوتي، الذي تولّى منصبه منذ عشرة أشهر، أنه أنشأ لجنة مهمتها متابعة مسألة “النزاهة العلمية” للباحثين، ستنظر في كل ما تتلقى من تنبيهات بخصوص كل أنواع السرقة والتزوير والغش في مجال البحث العلمي. وقد شرح في ندوة صحفية مستويات الغش التي يعاقب عليها القانون، من تعمّد “تجميل الصور من دون تزوير النتائج” إلى حدّ “تلفيق الصور والنتائج والرسومات”.
وفي هذا السياق تبيّن الإحصائيات التي كشف عنها الموقع الأمريكي المتخصص في تتبع هذه القضايا، والمعروف باسم “رتراكشن ووتش” (Retraction Watch) أن عدد الدراسات والبحوث التي سُحبت (بعد نشرها) بسبب الغش والتزوير خلال العام الماضي تقدَّر بنحو ألف بحث… بينما لم يتجاوز هذا العدد 650 بحثا خلال العام 2016!

لِــمَ اللجوء إلى الغش؟!

في معظم الأحيان، يلجأ الباحث إلى التزوير والغش بسبب السباق الشرس نحو النشر والنشر السريع. وهذه السرعة مآلها الكثرة على حساب الكيف. والكثرة هي عموما الركيزة الأولى في الحصول على التمويلات: كيف نثبت جدّيتنا في البحث ما لم ننشر البحوث؟ وكيف نثبت فعاليتنا ما لم تُنشر تلك البحوث تباعًا في المجلات المحكّمة؟!
ذلك هو السبيل للحصول في البلدان المتقدمة، سيما في الولايات المتحدة، على ملايين، وعشرات ملايين الدولارات عند طلب تمويل البحوث. وهذا التمويل يضمن به الباحث بقاءه في مجال البحث، ويؤمّن منصبه في الجامعات وفي المراكز الأكاديمية فضلا عن الترقيات. يصف الأستاذ أنتوان بوتي هذا السباق نحو تكاثر النشر بأنه “كارثة” حلّت بالبحث العلمي وأهله!
ومع ذلك راحت أوروبا تقلّد أكثر فأكثر هذا النمط من السلوكات عدا بعض الاستثناءات. والكل يعرف أن النشاطات العلمية لا يمكن تقييمها بعدد المنشورات بل بنوعيتها. ويلاحظ المتتبعون أن ما يزيد الطين بلة هو أن كثرة المنشورات البحثية في المجلاّت المحكمة تتطلب المزيد من الخبراء لمراجعة تلك الأعمال. وهذه المراجعات تعاني الآن من كثرة الطلب عليها. ومن ثمّ فإن تقارير التحكيم اتجهت هي الأخرى نحو السطحية وعدم التعمّق في مادة البحث.
وهكذا فالخبراء لا ينتبهون أحيانا إلى أخطاء تكون فادحة. ولعل الكثير من القراء لا يعلمون بأن هؤلاء الخبراء يقومون بهذه المهمة مجانًا. كل ذلك يقلّص الوقت الذي يخصصه الخبير لمراجعة المقالات التي تُسند إليه فلا يركّز على دقائق العيوب الواردة في متنها!
ينبغي أن نشير هنا إلى أنه من الصعب تحكيم البحوث في العلوم التجريبية ما لم نعد القيام بالتجربة! والقيام بمثل هذه التجارب يتطلب مالا ووقتا طويلا قد يدوم سنوات! ولذا فالتأكد من قيمة نتائج مثل هذه الأبحاث أمر عسير. وهو ما يفسّر كثرة الأخطاء والغش في هذا المجال وعدم اكتشافها إلا بعد سنوات… وهذا خلافا للرياضيات، مثلا، التي يصعب التزوير فيها إذ أن كل نظرية يتبعها برهانها، والمقيّم الضليع يمكن أن يحكم تلقائيا على صحة البرهان من عدمه.
وقد أصبحت مؤسسات التمويل، مثل المؤسسة القومية للعلوم (NSF) الأمريكية، تقيّد الباحث في طلب التمويلات فوضعت في شهر أوت 2018 قيودا جديدة للحصول على التمويل. ومن شأن ذلك منع الباحثين من إعادة تقديم طلبات تمويل سبق رفضها، حيث يلجأ الكثير من هؤلاء إلى إدخال تغييرات طفيفة على المشروع وإعادة الكرّة في الطلب. وقد لقيت هذه الاجراءات في سبتمبر الماضي استياءً لدى عدد معتبر من الباحثين.
وكمثال عما يجري في مجال السعي في الحصول على التمويلات، نشير إلى أن أحد الباحثين في البيولوجيا بجامعة ديوك Duke الأمريكية، رفع عام 2015، دعوى قضائية ضد الجامعة زاعماً أن المشرفة عليه استخدمت بيانات مزيّفة في 60 طلب تمويل تصل قيمتها الإجمالية إلى 200 مليون دولار!!
وبعد مرور ثلاث سنوات ونصف سنة، ما زالت هذه القضية عالقة ولم تبتّ المحكمة فيها لحد الآن. وقد تضطر الجامعة إلى إعادة ما يصل إلى ثلاثة أضعاف هذا المبلغ للحكومة الأمريكية حسب ما ينصّ عليه القانون!! والطريف أن القانون ذاته يتيح للمخبرين الحصول على نسبة 30% من المبلغ المذكور إذا صدقت مزاعمهم. ولذلك يخشى المتتبعون أن يسيل هذا القانون لعاب المخبرين أكثر من اللزوم!
ذلك ما يحدث في العالم المتقدم. فمتى سندخل نحن جبهة القتال في هذه الحرب ضد الفساد في مجال البحث العلمي وما يحيط به من أعمال أكاديمية؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • Farid

    المعلق محمد العربي وضع إصبعه على الجرح. ما يحدث في الجامعات الغربية لا يمكن فصله عن تدهور الوضع العام و تلاشي القيم الأخلاقية المسيحية التي قامت عليها الحضارة الغربية.

  • Farid

    شكرا للأستاذ على تناول هذا الموضوع. لست أدري إن كان من حق الإخوة القراء ذكر ما يحدث في الجامعات الجزائرية في سياق التعقيب على المقال لأن "الجامعات الجزائرية" في رأيي ما هي إلا مراكز لتجميع الشباب ولا تمت بصلة للنشاط العلمي والأكاديمي وأغلب من يعمل فيها جهلاء لا علاقة لهم بالعلم والثقافة وبلغوا مناصبهم بالطرق المعروفة. من جهة أخرى يمكن أن يقال أن تردي الجامعات الجزائرية صورة من التردي العام في الجزائر الذي هو جزء من الفساد العالمي الشامل والأزمة الفكرية والأخلاقية التي تنخر الإنسانية بسبب انتصار القيم الرأسمالية الداروينية و تحلل القيم الروحية والأخلاقية والجمالية في كل أنحاء العالم.

  • محمد العربي

    الفساد العلمي ليس في منأى عن الفساد السياسي فلا يمكن محاربة الاول في ظل وجود الثاني

  • محمد المباني

    السلام عليكم
    لو ندخل جبهة القتال تلك لكشف أمر كثير وكثير من الدكاترة والأساتذة أما إن توسع الأمر إلى طلبة الماجستير فحدث ولا حرج وإن نزلنا إلى طلبة الماستر فتلك المصيبة بعينها...يا أستاذ اٍى أنك قللت من مرض السطو العلمي في تخصص الرياضيات لو زرت أو باأخص إطلعت على بعض جامعات الغرب والشرق لبهت بما ترى وتسمع وتقرأ...
    بروركت يا أستاذ عى تفننك في الكتابة وتمكنك مما تكتب ...