-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حريم السلطان!

حريم السلطان!

علماء الشريعة هم ورثة الأنبياء وأمناء الله على وحيه، وقد أخذ عليهم الميثاق أن يبيّنوا الحق للناس ولا يكتمونه، وفي تاريخنا المجيد نماذج باذخة لهذا الرهط الكريم الذين يقف على رأس القائمة فيهم الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة رضي الله عنهم أجمعين .
بيد أن الحقيقة لم تكن دوما مشرقة، فإلى جانب أولئك العماليق نجد نماذج شوهاء أكلت الدنيا بالآخرة، ولوت أعناق النصوص الصريحة ورضوا بمنزلة حريم السلطان (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
إن للقيادات الروحية والسلطات الدينية دورا فاعلا في ترسيخ مفاهيم الاستبداد في نفوس الناس حتى يتقبلوها، فما كانت القيادات السياسية الجائرة لتصل إلى أغراضها إلا على جسور يهيّئها القادة الروحيون، لا فرق في ذلك بين ما كان في الأمم السابقة وما رُزئت به هذه الأمة. والمستقرئ للتاريخ يجد أنهم إنما وصلوا إلى مبتغاهم من إذلال الناس والبطش بهم والتحكم في أرواحهم وأموالهم بما كان للكهنة من دور تضليلي لعقول الجماهير.
كان سنوحي طبيبا للفرعون (أمفسيس) الذي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد، وقد كتب مذكراته عن حياة هذا الفرعون وعن الشعب المصري الذي كان يعاني استبداد أمفسيس.
يقول سنوحي في مذكراته: كنت أمشي في شارع من شوارع مصر وإذا بالرجل الوجيه الشريف الثري المعروف (إخناتون) ملقى على الأرض مضرجا بدمائه، وقد قطعت يداه ورجلاه من خلاف، وجُدع أنفه وليس في بدنه مكان إلا فيه طعنة رمح أو ضربة سوط وهو قاب قوسين أو أدنى من الموت، فحملته إلى دار المرضى وجاهدت جهادا عظيما لإنقاذه من الموت، وبعد شهرين أو أكثر وعندما أفاق من غيبوبته قصّ عليّ قصته المحزنة قائلا: لقد أمرني الفرعون أن أتنازل له عن كل شبر أرض أملكه، وأن أهبه زوجاتي وعبيدي وكل ما أملك من ذهب وفضة، فاستجبت لما أراد بشرط أن يترك لي داري ومقدارا من المال لأستعين به، فاستثقل فرعون هذا الشرط واستولى على كل ما كان عندي ثم أمر بأن يُفعل بي تلك الأفاعيل الشنيعة، وأن أطرح في الشارع عاريا لأكون عبرة لمن يخالف أوامر الإله أمفسيس.
ودارت الأيام وإخناتون المسكين يعاني الفقر والحرمان وكل أمله في هذه الدنيا هو القصاص من الفرعون الظالم ولو على يد غيره.
ومات الفرعون وحضرت مراسيم الوفاة بصفتي كبير الأطباء، فكان الكهنة يلقون خطب الوداع مادحين الراحل العظيم وكانت الكلمات التي يرددونها لازلت أتذكرها جيدا…
ويضيف سنوحي: وبينما كنت أصغي إلى كلام الكهنة ودجلهم في القول، واندب حظ مصر وشعبها المسكين وبينما الجماهير المحتشدة تجهش بالبكاء، سمعت رجلا يبكي بكاء الثكلى، وصوت بكائه علا كل الأصوات، ويردد عبارات غير مفهومة، فنظرت مليا، وإذا صاحب البكاء هو إخناتون المعوق العاجز الذي كان مشدودا على ظهر حمار، وأسرعت إليه لأهدئه بعض الشيء فقد ظننت أنه يبكي سرورا على وفاة ظالمه، ولكن إخناتون خيَّب آمالي عندما وقع نظره عليَّ، وأخذ يصرخ عاليا بقوله: ياسنوحي لم أكن أعلم أن أمفسيس كان عادلا وعظيما وبارّا بشعبه إلى هذه المرتبة العظيمة إلا بعد أن سمعت ما قاله كهنتنا فيه، وها أنا أبكي لأنني حملت في قلبي حقدا على هذا الإله العظيم بدلا من الحب والإجلال طوال سنوات عدة، حقا لقد كنت في ضلال مبين.
ويقول سنوحي: وعندما كان إخناتون يكرر هذه الكلمات بإيمان راسخ، كنت أنظر إلى أعضائه المقطوعة وصورته المشوّهة وأنا حائر فيما أسمع، وكأنه قرأ ما يدور في خلدي، وإذا به يصرخ: “لقد كان أمفسيس على حق فيما فعله بي لأنني لم أستجب لأوامر الآلهة، وهذا هو جزاء كل من يعصي الإله الذي خلقه وأحبه، وأي سعادة أعظم للمرء من أن ينال جزاء أعماله الذي يستحق على يد الإله لا على يد غيره.”
لقد كان عهد أمفسيس أسوأ عهد عرفته مصر في تاريخ الفراعنة الذين حكموها… لقد مات وترك خرابا شاملا شعبا ممزقا، ومع كل هذا بكته الجماهير المحتشدة متأثرة برثاء الكهنة وخطبهم، ومن بين تلك الجماهير إخناتون المسكين.
وهكذا كان الحال عند الرومان، إذ كان الأباطرة يتحكمون في أرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم من غير أن يكون لأحد رأي أو حرية، وعندما اعتنقوا النصرانية لم يلبث البابوات أن اتحدوا معهم فروَّضوا لهم الجامح وذللوا لهم الصعب.
وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن، وإذا بأمة التوحيد وهي أمة العدل والمساواة والخيرية تصاب بأدواء الأمم قبلها، وإذا بروح الاستعباد تسري في أوصالها سريان السرطان في الجسم المعافى فتقضي على أسباب العافية فيه.
وللأسف الشديد هناك نصوصٌ نبوية تساق من أعناقها سوقا لتحشر في ميدان محدد لها سلفا، يراد من ورائه أن تورد الأمة موارد الهوان والرضا بالاستعباد وهي فرحة مسرورة لأنها قد أدت (كما أوحى لها رجالُ الدين) واجبا شرعيا مقدسا فليس أمام المسحوقين إلا الإكثار من كؤوس الذل واحتساب ذلك الأمر من جلائل الأعمال عند رب العباد.
ومن أشهر النصوص النبوية التي عبثت بها أيادي التحريف ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قائلا: “دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا…. وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان” رواه الشيخان.
والمقصود بأهله هنا هم المؤمنون كافة، فلا يفتئت عليهم أحدٌ في هذا الأمر ابتداء، ولا ينازع من اختاروه انتهاء، فكما لا يغصبهم أحد حقهم في اختيار من يرونه أهلا للإمامة، كذلك لا يحل منازعة من اختاروه بعد الشورى عن رضا بلا إكراه، ويحرم الخروج عليه ومنازعته الأمر الذي ولته الأمة إياه. ولعلنا نعود في فرصة أخرى إلى بعض النصوص التي يتخذ منها حريم السلطان تعاويذ يخدرون بها عقول الأمة التائهة عن معالم دينها أصلا.
إنه في الوقت الذي تتجه فيه الدساتير الحديثة إلى النص على مبادئ الحق والعدل بين الراعي والرعية، إذا ببعض المشايخ عندنا يكذبون على الله باسم الله كأنهم أشباح شيوخ بني أمية تبعث من جديد! .
يروي التاريخ أنه لما أراد الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك أن يسير في الناس بسيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز جاء إليه جماعة من شيوخ بني أمية فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه إذا ولى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات.
يقول الإمام أحمد بن عبد الحليم معلقا: “كثير من أتباع بني أمية أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء والله أمرهم بذلك ” .
وإذا كان هؤلاء الشيوخ قد أصبحوا في عهدة التاريخ إلا أن داءهم قد استفحل في هذه السنوات العجاف فهناك نماذج أكثر نفاقا وتملقا منهم، بل صار العقلاء يترحمون على شيوخ بني أمية لما ابتلوا بأفراخهم الشائهة، لقد سمع الناس مشدوهين لذلك الجمل العائر الذي كذب على الله قائلا: إنه يمكن لولي الأمر أن يشرب الخمر ويفجر كل يوم على شاشة التلفزيون ولا يجوز لأي كان أن ينكر عليه هذا الفجور المستعلن، ولا أن يأخذ على يد هذا العربيد المتهتك!
تُرى هل يدرك حريم السلطان فداحة الجرم الذي يقترفونه في حق الدين والأمة بإشاعة الروح الإرجائي، وإطفاء جذوة الغيرة في النفوس تحت شعارات زائفة؟
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إن إذلال الشعوب جريمة هائلة وهو في هذه المرحلة النكدة من تاريخ المسلمين عمل يفيد العدو، ويضر الصديق. بل هو عمل يتم لحساب إسرائيل نفسها، فإن الأجيال التي تنشأ في ظل الاستبداد الأعمى تشب عديمة الكرامة، قليلة الغناء، ضعيفة الأخذ والرد.. ومع اختفاء الإيمان المكين، والخلق الوثيق، والشرف الرفيع،
ومع شيوع النفاق والتملق والدناءة مع هذا كله لا تتكون جبهة صلبة وصفوف أبية باسلة. ” .
وهذا الدور المريب هو الذي يقوم به الفكر المدخلي للأسف الشديد باسم السلف والسلفية المفترى عليها.
للمقال مراجع

إن للقيادات الروحية والسلطات الدينية دورا فاعلا في ترسيخ مفاهيم الاستبداد في نفوس الناس حتى يتقبلوها، فما كانت القيادات السياسية الجائرة لتصل إلى أغراضها إلا على جسور يهيّئها القادة الروحيون، لا فرق في ذلك بين ما كان في الأمم السابقة وما رُزئت به هذه الأمة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • عبد الله

    قال الشيخ ابن باز رحمه الله:" ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير". وقد روى عياض بن غنم الأشعري، أن رسول الله ﷺ قال: " من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه".

  • واحد برك

    انا لست مدخليا والحمد لله ولكن الحق اولى ان يقال ويصدع به وعليه: اولا هات مراجعك نتحقق منها لان قصة فرعون وطبيبه غريبة جدا وكيف نقلت ووصلت الينا بدون تحريف رغم ان صحف موسى حرفت ولم تصلنا؟؟؟؟؟ ثانيا صحيح ان هناك من المشايخ من يداهن السلطان ووزره وأمره الى الله ولكن العلماء الربانيين امثال الامام احمد رحمه الله في فتنة خلق القرآن او من هو أعلى منزلة منه وهو عبد الله بن عمر رضي الاه عنهما الذي عاصر الحجاج لم يداهنا ولكن في نفس الوقت نصحا لله ووعظا ولم يحرضا الرعية وعامة الناس على الحكام آنذاك بل أدوا ماعليهم وأرحعا الأمر الى الله لانهما يفقهان "تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء"