-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حصاد أكل الحرام

سلطان بركاني
  • 1873
  • 5
حصاد أكل الحرام

يروي أحد الدّعاة إلى الله يقول: زرت مدينة من المدن، فذكر لي بعضهم أنّ في مدينتهم رجلاً كبيراً في السن، وله 13 ابناً، كلّهم من الصالحين، ويعيشون حياة مستقرة هانئة، فتساءلت وقلت: لا شكّ في أنّ ما هم فيه هو من فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء، لكنْ لا بدّ من أنّ هناك سبباً لِما هم فيه من سعادة واستقرار وطمأنينة، قال أهل المدينة: لفت نظرنا هذا الأمر، وبدأنا نبحث عن السبب، فوجدنا أنّ هذا الرجل عامل يملك بيتا متواضعا، وشاحنة ينقل للناس على متنها الرّمل والتّراب وموادّ البناء، وكان حريصاً على اللقمة الحلال، حتى إنّه كان إذا أراد ملء الشّاحنة بالرمل أو التراب يحرص على أن تكون ممتلئة ويتأكد من ذلك بيده، ثمّ يضع فوقها غطاءً خوفاً من أن يَنقص منها شيء خلال الطّريق.. فنشأ أبناؤه وتعلّموا ودرسوا وتخرجوا، بعضهم دكاترة، وبعضهم أساتذة جامعة، وبعضهم مسؤولون في دوائر حكومية.. لكنّ الأب بقي في بيته وبقي يعمل في عمله.. حاول أبناؤه أن يقنعوه بترك عمله والانتقال إلى بيت أفضل وقالوا: يا أبانا قد أغنانا الله وأكرمنا، فلو تركت هذا العمل وانتقلت من هذا البيت إلى بيت واسع؟ فكان يردّ عليهم قائلا: يا أبنائي، هذه المهنة الحلال التي يسيل معها عرق جبيني هي التي جعلها الله سببا لِما أنتم فيه من خير، وما دمت أستطيع السّعي، فلن أترك عملي هذا، لأنّي أجد معه راحتي.
هذا رجل بسيط، لم يدرس في معاهد ولا جامعات، لكنّه علم أهمية تحرّي الحلال والبعد عن الحرام، فكان حريصا أشدّ الحرص على أن يطعم أبناءه الحلال الزّلال، فربّى 13 ولدا، وعلّمهم وبلغوا ما بلغوا بفضل الله أولا ثمّ بفضل لقمة الحلال التي فقه الصّالحون من هذه الأمّة أهمية تحرّيها، وعلموا أنّ الحلال خير وبركة وعافية وسعادة في الدّنيا ونجاة في الآخرة، فكان الواحد منهم يتحرّى ما يدخل إلى جوفه من طعام كما يتحرّى ما يلفظ لسانه من كلام، وكانوا يتركون كثيرا من الحلال ويجعلون بينهم وبين الحرام مفاوز ومسافات حتى لا يغريهم الشّيطان بقربه ومواقعته؛ فهذا مثلا صدّيق الأمّة أبو بكر رضي الله عنه، أتاه غلامه يوما بشيء ليأكله، فلمّا وضع لقمة منه في فيه واستساغها، قال له الغلام: أتدري ما هو؟ قال الصدّيق: لا، وما هو؟ قال: تكهّنت في الجاهلية لأحدهم وما أحسِن الكهانة ولكنّي خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه وقال: “لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني أعتذر إليك ممّا حملت العروق وخالط الأمعاء”. كاد- رضي الله عنه- يهلك نفسه بسبب لقمة حرام لم يطعمها متعمّدا. وهذا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، شرب يوما لبنا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهي على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده، فاستقاء، وزجر الرّجل زجرا شديدا.. وهكذا كان أصحاب النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- جميعا، وهكذا كانت نساء الصحابة والتابعين والصالحين من عباد الله المؤمنين؛ كانت الواحدة منهنّ توصي زوجها إذا أراد أن يخرج لطلب الرزق، قائلة: يا هذا اتق الله في رزقنا، فإنّا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
هكذا كان الصالحون من هذه الأمّة يخرجون الحرام والمشتبه من بطونهم وقد دخل إليها من غير علمهم، ويتركون كثيرا من الحلال مخافة الوقوع في الحرام، بل كانوا لا يرون أيّ فائدة للاجتهاد في العبادة إذا لم يتحرّ صاحبها الحلال ويترك الحرام، فكان الواحد منهم يقول: “لو قمتَ قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام”، ويقول آخر: “إذا تعبّد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء، قال: دعوه، لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب، فقد كفاكم نصيبه”، ويقول آخر: “لَتركُ دينار مما يكره الله، أحبّ إليّ من خمسمائة حجّة”، ويقول آخر: “ردّ درهمٍ من شبهة أحبّ إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم، ومائة ألف، حتى بلغ إلى ستمائة ألف”.
كانوا يحرصون أشدّ الحرص على تحرّي الحلال واجتناب الحرام، فرزقهم الله قلوبا خاشعة وعيونا دامعة، وأصلح ذرياتهم، ونصرهم على أعدائهم، ثمّ خلف من بعدهم في الأزمنة المتأخّرة خلف يعلمون الحرام ويملؤون به بطونهم وبطون أهليهم وأولادهم، ويُفتون لأنفسهم ويجدون لها الأعذار والمعاذير!.. فهل نعجب بعد كلّ هذا لقسوة القلوب وقحط العيون؟ هل نعجب لفساد الذرية وتيهها وضياعها؟ هل نعجب عندما نسمع أطفالا يتربّون على الكلام الفاحش وعلى سبّ الله -جلّ في علاه- وعلى الاستهزاء بالدّين؟ إنّه الحرام الذي ملأ أجوافهم.. الحرام الذي ملأ بطونهم هو ما جعل أخلاقهم تهوي إلى هذه الدركات وألسنتهم تقذف بأقذع وأشنع الألفاظ والكلمات. في الحديث الصحيح أنّ نبيّ الهدى صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يأتي على النّاس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه ماله أمن الحلال أم من الحرام).. أليست هذه حال زماننا هذا الذي نعيشه؟ ربا وقمار وسرقة.. تطفيف في الكيل والميزان.. غشّ في البيع وكتم لعيوب السّلع.. سحر وشعوذة.. أكل لأموال اليتامى وغدر وخيانة.. إضاعة للوظائف والأعمال وغيابات لأتفه وأوهى الأسباب، وتلاعب بالعطل المرضية، وسرقة واضحة من ساعات العمل…ثمّ في النّهاية عندما يُبتلى الواحد منّا بمرض أو همّ أو مصيبة يقول: أنّى هذا؟ ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • أبو نحر المهاجر

    ما أخذه الغزاة المسلمون غصبا من الشعوب المغلوبة على أمرها وما كانوا يسبونه من نساء وأطفال ينتزعون قهرا من عائلاتهم ليُتّخذوا جواري وغلمان تمارس فيهم الفاحشة كان حلالا!! ما معنى الحلال والحرام إذن؟

  • أبو نحر المهاجر

    لا ينكر عاقل طبعا أن الإسلام "الشعبي" ضمن حياة أخلاقية وروحية للبسطاء لكن الأمم تقوم بالدولة و بالمؤسسات وبسلوك حكامها وعلاقتهم بمحكوميهم.

  • أبو نحر المهاجر

    الأسطوري؟ زمن الخلفاء "الراشدين"؟ أولهم قاد حرب إبادة وسبي سميت حروب الردة ضد من لم يكفر بالله و رسوله و الثلاثة الآخرون قُتلوا!! منذ ذلك الحين والشر يلاحق هذه الأمة. لا تكون أمةٌ خيرةً إلا إذا بنت دولة عادلة تضمن الإجماع والوئام والاستقرار. متى عرف المسلمون الإجماع و العدل والاستقرار ؟ ستقولون أن المسلمين غزوا وبنوا امبراطورية. الجواب: المغول أيضا غزوا وبنوا امبراطورية فهل إمبراطوريتهم بلغت ما بلغته الإمبراطورية الصينية أو الفارسية أو الهلينية أو الرومانية؟ امبراطورية العمامة لم تكن يوما متحدة مستقرة هادئة بل كانت دائما قهرا وسيلا من الدماء ثم دويلات وإمارات وعصبيات متناحرة.

  • أبو نحر المهاجر

    أساطير الأولين سمعناها منذ صغرنا حتى سئمناها. والله ثم والله لو كانت هذه الأمة كما تدعون وكما تروج له له هذه الأساطير لما جعلها الله مضحكة بين الأمم الأخرى ولما صارت عار خلق الله لا تستطيع حتى إنتاج خبزها. ستردون كعادتكم طبعا أن الفضيلة والاستقامة كانت دأب الأوائل وأن الأواخر فرّطوا فسقطوا. الشر (والأنانية والفتنة والحقد والأثرة والظلم والتسلط وسفك الدماء) بدأ قبل دفن الرسول وأول ضحاياه الأنصار الذين لولاهم لما انتصر الإسلام فقد اقتسموا مع المهاجرين حتى نساءهم ثم قيل لهم بعد ذلك أنهم أقل شأنا من "النبلاء" القريشيين وكان جزاءهم أن قُتلوا واغتصبت نساؤهم وبناتهم. أين ومتى كان هذا الإسلام

  • kaddour31@gmail.com

    كفيت ووفيت
    لا يرفض كلامك إلا من غلبه الشيطان
    لا يرد كلامك إلا من سيطر عليه دينار الحرام
    اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك