-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حمزة خلِّيف… ذلك العصامي!

حمزة خلِّيف… ذلك العصامي!
ح.م

دأب الناس على التعريف بالسلف الصالح، والثناء على علية القوم من ساسة وأصحاب نفوذ وهم أحياء، ورثاء الأموات ممن برزوا في مجتمعاتهم… وفي كل ذلك نجد الصدق والرياء. أما في ما يلي من الكلمات فسنعرّف برجل عصامي متعفّف عمره 74 سنة، عاكف في بيته بمدينة الوادي (الجنوب الجزائري). ولا يزال إلى يومنا هذا يتبحّر في دنيا الرياضيات بكل تواضع، ويبدع فيها رغم ما تعانيه صحة الإنسان في هذه المرحلة من العمر.

مسيرته

هذا الشيخ هو الأستاذ حمزة خلِّيف الذي لم يغادر حجرات الدراسة ولم يُلْق طبشوره إلا حين أحيل على المعاش. ففي مطلع سبعينيات القرن العشرين ساعده الحظ على أن يلتحق، كطالب، بقسم الرياضيات في جامعة العاصمة، فقضى بها 3 سنوات، نال على إثرها شهادة الليسانس في الرياضيات. ومن ثمّ التحق بمسقط رأسه ليزاول مهنة التدريس في المرحلة الثانوية. وظل على هذه الحال دون كلل… ودون أدنى طموح في تولّي مناصب سياسية أو تربوية (مدير مؤسسة أو مفتش المادة…) تعفيه من استعمال الطبشور والسبّورة!

فلا شيء كان يمتعه سوى تدريس الرياضيات والغوص في متاهاتها كما يفعل الباحثون الحقيقيون. وهكذا كان يولي اهتماما بالغا للمسائل المستعصية، مثل تلك التي تطرح في منافسات الأولمبياد. لو بحثت عن شخص من رجال التربية في مدينة الوادي وضواحيها لم يسمع بالأستاذ حمزة خلِّيف، لخاب سعيك. فقد كان مرجعا لزملائه إن تعذر الوصول إلى حل المنشود في مسألة من مسائل الرياضيات المعقدة. ولأن له هذه السمعة الطيبة، طلبت منه جامعة الوادي- بعد أن أحالته وزارة التربية على التقاعد- مساعدتها في تدريس بعض المقررات لطلبة الليسانس والماستر. وقد لبى النداء خلال عدة سنوات وأدى المهمة بجدارة.

لا ندري كيف يقضي حمزة وقته في الاستمتاع بمواضيع الرياضيات، لكن المؤكد أن جزءا كبيرا منه قد خصص لدراسة الهندسة. وقد فتح منذ سنوات موقعا إلكترونيا ثريا، سماه “فضاء رياضياتي”، وكرّر هذا العنوان بالفرنسية، ثم الروسية، ثم الإنكليزية؛ ولم ندرك مغزى هذا الترتيب. وفي صفحة النشاطات نجد عرضًا لأبرز أعماله تعلوها الآية الكريمة: “وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا”.

ومن بين إسهاماته انشغاله بوضع معجم للرياضيات ثلاثي اللغات لا يزال قيد الإنجاز. وعلى الرغم من كون اللغة الفرنسية طغت على جلّ أعماله، وكثيرا ما عبْنا عليه ذلك، إلا أنه أنجز عملا معتبرًا في مجال الترجمة. فها هو قد عرّب موقع الرياضيات الفرنسي “أبعاد” الذي تُرجم إلى حد الآن إلى 10 لغات، منها العربية. كما راجع وصحّح الطبعة الأولى لفيلم “أبعاد”، وترجم طبعته الثانية. وأدى نفس الدور بخصوص الفيلم الرياضياتي “الشوّاش”، وكذا موقع “ألعاب هندسية” المعروض بـ 8 لغات، منها العربية. وهو ما يشهد على أن الأستاذ حمزة خلِّيف قد أسهم في نشر الثقافة الرياضياتية باللغة العربية، وهو قادر على المزيد… لو أراد!

ومن جهة أخرى، عكف حمزة خلِّيف منذ 2010 على كتابة مقالات تعميمية بالفرنسية في الرياضيات نُشرت في ركن “صور من الرياضيات” في موقع المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي. ووضع كتاب “تمارين ومسائل في الجبر” لطلبة الجامعات باللغتين العربية والفرنسية (مرقون لكنه لم ينشر).

من المنحنيات… إلى السطوح!

ومع ذلك، فالعمل الذي اشتهر به حمزة خلِّف أكثر من غيره في مجال التأليف كان في الهندسة، وبالتحديد في المنحيات والسطوح. فقد صدر له في نوفمبر من عام 2010 عن الدار الفرنسية “إليبس” (Ellipses) عمل سمّاه “حديقة المنحيات” (Jardin des courbes)، وهو بمثابة معجم للمنحيات المستوية يقع في 500 صفحة. والجدير بالذكر أن هذا الجهد كان محلّ إشادة واسعة من الذين اطلعوا على هذا المعجم.

ففي نشرية الجمعية الفرنسية لأساتذة الرياضيات صدر عرضٌ لـ “حديقة المنحيات” أنهاه صاحبه بالتوصية التالية: “لذا، أوصي جميع الرياضياتيين بقراءة هذا المؤلّف، بل أُوصي بذلك أيضا الفيزيائيين، وكذا التلاميذ والطلاب الفضوليين والفنانين البلاستيكيين الذين يبحثون عن مصادر للجمال.”

وفي مجلة رياضياتية أخرى تصدر في فرنسا، جاءت إشادة مطوّلة نقتطف منها هذه العبارات: “يجب علينا أن نشيد بحمزة خلِّيف الذي قام- كما يفعل الراهب البينديكتي في العصر الحديث- بجمع بيانات لا تعدّ ولا تحصى حول المنحنيات المستوية وتشريحها في أكثر من 500 صفحة… نأمل أن يصبح هذا المجلّد مرجعا من المراجع الكلاسيكية في مكتبات الرياضيات التي نحرص على العودة إليها”.

والآن، أعدّ المؤلف طبعة مزيدة ومنقحة لهذا المعجم لم تنشر بعد، وهي تقع في 960 صفحة. وبالموازاة مع ذلك عكف الأستاذ حمزة منذ 10 سنوات على إعداد معجم آخر باللغة الفرنسية خاص هذه المرة بالسطوح سماه “حديقة السطوح” (Jardin des surfaces) يقع في 2030 صفحة!

لا يمكن تقديم عمل حمزة خلِّيف دون الإشارة إلى الأستاذ إتيان جيس (Etienne Ghys): إنه رياضياتي فرنسي، نال عدة جوائز عالمية في الرياضيات وفي نشر ثقافتها، وهو عضو أكاديمية العلوم الفرنسية، بل هو أمينها الدائم. وقد أعجب بعمل حمزة خلِّيف إلى حدّ أنه كتب له تقديما في صدر المعجم عام 2010. ثم عاود الكرّة قبل أيام، وخطّ تصديرًا، جاء في صفحتين، لـ”حديقة السطوح” الذي سينشر قريبا. نقرأ في مستهل هذا التصدير:

“قبل عشر سنوات، كتبتُ تصديرا لمعجم ‘حديقة المنحنيات’. والآن أنا أمام معجم “حديقة السطوح”. أَلْفَا صفحة من الإبحار العلمي، وعشر سنوات من الكدّ! فهل سيكون حمزة خلِّيف راهبا بنديكتيا؟ إن المعجم الذي بين أيديكم منجم من المعلومات. إنه ملخص لأكثر من ألفيْ عام من الرياضيات، وكأنه دعوة للسفر في عالم الهندسة حيث كل شيء فيه نظام وجمال وازدهار وهدوء ومتعة، وفقط”. ويختم إتيان جيس تصديره بالقول: “يبقى لي أن أشكر حمزة خلِّيف، العاشق الهائم في الهندسة، لإنجازه هذا العمل الذي سيسمح بمائة ألف مليار رحلة في عالم السطوح”!

إن مثل هذه الشهادات من أهل الاختصاص الأجانب تبيّن أن عصامية حمزة خلّيف آتت أكلها وزيادة… وهو المتعالي طيلة حياته عن الشهادات والدبلومات الجامعية. ألم ينل من الناحية العلمية أكثر مما تمنحه تلك الدبلومات؟! فهنيئا له على هذه الإنجازات. وكل ما نتمناه هو أن تكون مثابرته وكدّه في طلب العلم قدوة للأجيال!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
20
  • عبد الحميد

    استاذي خليف كان له اثر بالغ في مسيرة حياتي العملية لقد كنت تلميذه سنة 1990 و كان نعم الاستاذ.لكل من لديه طريقة التواصل معه ان يفيدنا بها .

  • محمد قذيفه

    رجل بأمة ، ومن فعل فعله

  • الاخضر عدوان

    تحيةو تقدير لجهود الاستاذ حمزة خليف اخ صديقي المحترم عمران خايف . كان لي شرف.الالتقاء به العديد من المرات بثانوية عبد العزيز الشريف بالوادي في بداية تسعينات القرن الماضي

  • بن بلقاسم أحمد

    شكرا للجميع: الأستاذ خليف على هذا العمل الضخم ، للأستاذ سّعد الله ، الذي أسعدنا طوال 20 عامًا بمقالاته العلمية والثقافية الجميلة جدًا ، للأستاذ ضو الذي تسّلم المشعل مؤَّخرا.

  • محمد

    هذا الاستاذ العصامي هو مصدر فخر لي كجزاءري نتمنى له المزيد من العطاء ودوام الصحة والعافية.

  • محمود زواي-القبة القديمة

    رمضان كريم وشكرا للاستاذ ابو بكر سعد الله الذي عرفنا بهذه الجوهرة المفقودة.وقد طلبت منكم عدة مرات التعريف بالاستاذ النابغة"" المكي داهش""El mekki Daheche والمنحدر بدوره من سوف او المغير وقد درسنا مادة الرياضيات بثانوية الاخوين حامية بالقبة سنوات 1975-1976-1977 ثم سافر واستقر بولاية المدية وقد كرمته ثانوية حامية(طلبته القدماء) كان ضليعا في تعليمية الرياضيات باللغتين العربية والفرنسية وانسانا ملتزما في عمله واخلاقه وهو من جيلكم.فهد تتكرمون بالتعريف به للقراء.شاكرين اياكم على كل جهودهم في نفض الغبار عن تاريخ مبهر لفطاحل الرياضيات والعلوم بصفة عامة.رمضان كريم علينا وعليكم وبلادنا بالخيرات.

  • باهي أحمد

    أولا :الإسم الصحيح لأستاذي المحترم هو : خليف حمزة .درسنا و تتلمذنا على يده في بداية الثماننيات بثانوية عبد العزيز الشريف وله كل الفضل على دفعات تلك المرحلة، إلا من كان جاحدا أومنكرا لعطائه أو غير متتبع،أستاذنا لم يكن بارزا ومتمكنا من الرياضيات فحسب ، بل كنا نمحوا السبورة من ما تبقى من درس المادة التي تلقيناها قبل دخوله القسم حتى لا يطرح علينا بعض الأسلة عن ذلك الدرس مهما كان ، تاريخ،جغرافيا،فلسفة...الخ.سنبقى نكن له كل الإحترام و التقدير ونسأل الله العلي القدير أن يمده بالصحة والعاقية

  • ALI_DZ

    شكرا على هذا المقال الذي اخرج للنور هذا الاستاذ .

  • محمد الحبيب فروي

    الأستاذ حمزة خليف قامة في الرياضيات ذو أخلاق عالية وهذا لايستغرب فوالده الطالب محمد خليف رحمه الله وهو أصيل كوينين علم الكثير من ابناء المنطقة علوم القرآن وأصول اللغة العربية وكان عصامي أيضا فلا عجب أن يكون الأستاذ حمزة على هذا الحال من العلم والثقافة.حفظ الله شيخنا وأطال في أنفاسه.

  • محمد العربي

    الاستاذ خليف أصيل منطقة ورماس الواقعه شمال غرب مدينة الوادي ، درست عنده الرياضيات اواخر السبعينات بثانوية عبد العزيز الشريف بالوادي و هو استاذ كفؤ و مجتهد في عمله

  • ابو سفيان

    الى الاستاذ خالد المحترم اضيف ايضا الى معلوماتك ان الاستاذ حمزة خليف هو حافظ لكتاب الله مند العاشرة من عمره و صلى به صلاة التراوييح و سنه 13 سنة و ايضا شاعر قبل ان يدخل الجامعة اي في سنوات الثانوية ، و متضلع في الادب العربي و الفرنسي و النحو ، و لك مني جزيل الشكر و الاحترام .

  • عباس الجزائري

    كذلك لا تنسى البروفيسور الجزائري بوجلخة التجاني مكتشف التكاملات بالرياضيات هو كذلك من واد سوف كل طلبة الجامعات في الجزائر يعرفونه أو يسمعون به قبل العشرية السوداء و قبل أن يهاجر .أنا شخصيا درست عند ه الرياضيات عندما كان استاذا في جامعة باب الزوار ستنة 1980. مع الأسف لقد تم سجنه ظلما وبهتانا وبعدما خرج من السجن هاجر وهو الآن في أحد الجامعات الأمركية العريقة.
    للأسف هكذا يعامل نبغاء الجزائر ويهملون ولا يعطى لهم أي تقدير ...... يا آسفاه على الجزائر.

  • rachid boumahdi

    شكرا للجميع: الأستاذ خليف على هذا العمل الضخم ، للأستاذ سّعد الله ، الذي أسعدنا طوال 20 عامًا بمقالاته العلمية والثقافية الجميلة جدًا ، للأستاذ ضو الذي تسّلم المشعل مؤَّخرا.

  • قناص بلا رصاص

    موضوع جميل جدا. النقطة الوحيدة التي لم تعجبني هو إقحامك موضوع اللغة. السيد نابغة و منتوجه العلمي زاخر و غني و شخصية علمية ذات صيط دولي و أنت تعيب عليه إستعماله اللغة الفرنسية. إلى متى نبقى نحكم على الناس سلبيا لمجرد أنهم يستعملون اللغة الفرنسية.

  • رمضان مأمون

    ما شاء الله على أستاذنا بل أستاذ أجيال أدام الله عطاءه و حفظه من كل مكروه

  • حنكه عبدالله

    الأستاذ الباحث خليف حمزة من خيرة ما أنجبت الجزائرومن خيرة ما أنجبت وادي سوف هو قامة من قامات العلم ورقم مهم في معادلة علماء الرياضيات وان كتب هو كتاب حديقةالمنحنيات أو حديقة المساحات فإن علمه أوسع من يحصر في هذه الحديقةوبحثه المضني والمستمر في مجال الرياضيات هو مكسب لم تقدره مقبرة العلماءالتي تزخر بعباقرةفي عدة مجالات من أمثال الشيخ حمزةكما يحلو لي ان اسميه بارك الله له في علمه وبحثه وارجو ان يكون بحثه يدرس في كبرى الجامعات الجزائريةوان يشجع لتطويره وان تنسخ كتبه وتكون مراجع للطلبة والباحثين في علوم الرياضيات.

  • هشام ا

    إلى الاستاذ المتمكن المحترم Lahcen CHORFI: لا تنس أيضا أن زميلك الاستاذ القدير لمين ن هو أيضا من الرياضياتيين الذين أنجبتهم ولاية الوادي وهو رغم تمكنه غاية في الاخلاق والتواضع -ولا نزكي على الله أحدا-

  • kabir hacina

    نتمنا ان يكون ضيفا في المدرسة العليا بالقبة ذات يوم,

  • سليم

    على فكرة, اللقب هو خليف بدون شدة على اللام. والعمر 71 سنة.

  • Lahcen CHORFI

    بارك الله في الأستاذ حمزة، كما نشكر زميلنا أبا بكر الذي عرّفنا برجل علم من رجالات الأمة، مثال يقتدى به. أطال الله في عمره وجازاه خير، يوم لا ينفع مال ولا بنون ـ