-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حوار مع صديقي الإسكافي الحكيم

حوار مع صديقي الإسكافي الحكيم
أرشيف

صديقي الإسكافي هذا الذي سأحكي لكم عن مأساته المبكية في محله وجحره المظلم الذي يقتات منه لقيمات لا يكاد يُقيم بهن صلبه، ليس من عمري ولا من عمر جيلي، بل هو شاب في مقتبل العمر وسنه كسنّ أكبر أبنائي، لم يتجاوز بعد الخامسة والعشرين من العمر البائس الحزين.

وصديقي البائس الحزين هذا، الذي لا تفارقه ملامح اليأس والقنوط والخوف من المستقبل المجهول.. الذي أتألم عندما أتأمل روحه ونفسه الممزوجة بالألم والمعاناة والحقد والكراهية والتسامح والصبر.. تعرّفت عليه منذ سبع سنوات عندما احتجت إلى إسكافي يصلح لي ولأسرتي ما رثَّ من أحذية.. وبدأت العلاقة تتوطد بيننا من خلال طريقته في العمل، فهو شاب جاد وماهر ومتقن لهذه الصناعة رغم مضارها ومخاطرها القاتلة، فتارة تقتضي طبيعة المهمة السرعة والاستعجال، وتارة تتطلب الصبر وأخذ الموعد، فإن كانت المهمة سهلة وخفيفة وسريعة تراه يستبقيني عنده في المحل لدقائق لينجز المهمة بسرعة ويدعني أنصرف بسرعة، ولعله يحتاج إلى تلك الدنانير الزهيدة ليعالج بها حاجة مستعجلة عليه كشراء الشمة أو الدخان أو القهوة أو الكل معا..

وكانت العلاقة تتوطد بيني وبينه عندما كان يستبقيني عنده تلك الدقائق القصيرة، ووقتها نتداول الحديث القصير والمقتضب والمؤلم جدا.. لأنه الحديث الذي يتناول مأساة جيل ضائع بأكمله.. ولم يكن محله فارغا كغيره من الإسكافيين الشيوخ، بل كان محله كمحل الحلاق الحافل بالزوار والمستأنسين لحديث وأنس.. وعلى الرغم من قذارة رائحة الأحذية والأقدام الكادحة.. لأنه لا يصلح الحذاء إلاّ الكادحون والسائرون على الأقدام وركاب وسائل النقل العمومي.. كان محله عامرا بجيله من الأصدقاء الضائعين والتائهين والعاطلين وصغار الخدم والمهنيين المساعدين ومن العمال اليوميين.. ومنهم خريجو الجامعة من حملة شهادة الماستر، ومنهم من لم يوفق في إنهاء دراسته الجامعية، وصنف آخر منهم وُفق في الوصول إلى المرحلة الإعدادية ثم طرد، ومنهم من لم يوفق في نيل شهادة البكالورية، ومنهم من طرد من المرحلة الابتدائية.. وشهرا بعد شهر.. وسنة بعد سنة صار يفضي إليَّ بهمومه ويسرد لي أحزانه وضياعه.. وكنت أثناء جلوسي أحاور الشبان الحاضرين لأتعرف عن كثب على مستوياتهم الدراسية وحالهم من عالم الشغل والتوظيف والمهن.. إلى أن جاء اليوم الموعود وبعد سبع سنين من الصداقة الأبوية.. فكشف لي المسكين المقهور عن تفاصيل قصته المحزنة رفقة لفيف من أصدقائه الضائعين.. الذين ذابت أجسادهم من القهر والعطالة والبطالة واحتساء القهوة السوداء ونفث سموم الدُّخان والشمة.. وقبل أن أحكي مأساته ونظرته إلى الأشياء ورأيه في الأشخاص وفلسفته في الحياة، ورؤيته للمرأة والزواج والعمل والتوظيف والسكن واللباس والعبادة وفعل الخير.. أودُّ أن يتعرف القارئ الكريم على منهج الله سبحانه وتعالى في توزيع الأرزاق بين خلقه، وكيف يرزق الله عباده بنعم إن حرمهم نعما أخرى.. ولعل صديقي هذا أوتي نعمة لم يُؤتها الكثير من الكتّاب والباحثين وأساتذة الجامعة.. وهي الحكمة البالغة.

وصديقي الباتني الأوراسي هذا هو أشبه بأصدقائي التبسيين الثلاثة الذين كتبت عنهم يوما مقالا ودافعيتهم إلى القراءة، وهم عامل في حمام عمومي، حارس في شركة سوناطراك، معاون صيدلي، وهم أشبه بوالد الشاعر محمد إقبال، فإن كان والد محمد إقبال يُنعت بالفيلسوف الأمي، أو الخياط الحكيم، أو الحكيم الأمي، فإن صديقي هذا فيلسوفٌ من غير أن يدرس في كلية الفلسفة، وحكيم دون أن يدرس في أي كلية من كليات العلوم الإنسانية.. وهو عميق التفكير والنظر.. حرمه المفسدون من نعم الدنيا، ولكن الله لم يحرمه من نعمة العقل والهدوء والتفكير والاتزان والاقتصاد في الكلام.. فهو بليغٌ في القول، وإذا تكلَّم كان كلامه منتظما وفق سلك الأمثال والمعاني.. وقد سمّيته بالإسكافي الحكيم.

ولعلني أقتطف لكم نتفا من حواراتي الشيقة معه، وقد سألته يوما عن حل مشكلة البطالة التي يعاني منها اثنان من أولادي، ما حلها؟ وقد سألته بحكم كونه شابا وولديّ شابين في عمره، وبحكم اختلاطه بعالم الشباب، وبحكم معرفته بأسرار المهن والوظائف المربحة والخاسرة، فأعطاني حلولا سحرية في كيفية تشغيل شاب أو فتاة شريطة توفر رأس مال محترم.. ولكن أصحابه تدخّلوا في الحوار وأخبروني أن السبيل الوحيدة لانتشال أنفسهم من جحيم الضياع والبطالة وإدارة ظهر السلطة لهم.. هو الهجرة، وهيهات هيهات لمن يستطيع الهجرة نحو الخارج بطريقة قانونية.. أما “الحرقة” فهي أيضا ليست متاحة للجميع لأنها تحتاج المال أيضا.. وأنى لهم بالمال؟

وسألته مرة أخرى: لماذا لا تتخذ لك زوجة موظفة أو عاملة من طوابير وملايين العانسات تعينك على مصاعب الحياة؟ فتنهد طويلا، وأجابني بحدّة وقسوة وانفعال قائلا: بماذا أتزوج؟ أنا وجيلي لا نملك أن نُطعم أنفسنا حتى نستطيع أن نُطعم امرأة ونتحمل مسؤوليتها ونضع حياتها في رقبتنا.

قلت له: تزوَّج امرأة عاملة أو موظفة وهن بالملايين ممن وجدن وظائف. فقال على لسان أصحابه جميعا: نحن لا نتزوج امرأة تُحشر مع الرجال من الصباح إلى المساء.. ونحن لا نتزوج امرأة تخرج متزينة بزينتها نحو مكان العمل.. نحن لا نستطيع الزواج أصلا لأننا لا نمتلك الباءة التي حدَّثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 وانطلق صديقي الإسكافي الحكيم يشرح لي حديث الباءة والزواج (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام فهو له وِجاء)، وسمعت شرحا لم أسمعه في حياتي العلمية والدينية من قبل، وسألتهم: كيف حصلتم على هذه المعارف الدينية؟ قالوا لي: من الحياة القاسية التي عشناها ونعيشها إلى حد كتابة هذه السطور، وقال لي صديقي الإسكافي الحكيم: هل رأيتني منذ سنوات وأنا ألبس قميصا قصيرا كميشا وقد أطلقت لحيتي وادّعيت أنني صرت سلفي الاتجاه؟ قلت له: لا أعرف، فقال لي: والله لم أكن لأملك دراهم كي أشتري سروالا وقميصا.. حتى قيَّض الله فرجا ومخرجا..

ثم ازداد الحوار اشتعالا وتشعُّبا وازدادت موضوعاته واتجاهاته، ولكنني حصرته في نسقه الأول، وقال لي الحكيم: نحن لا نتزوج امرأة تتقاضى أجرا، وتنال سكنا، وتتحكم في سائر شؤون البيت، بل فينا نحن أيضا، ولا تصير لنا قيمة في البيت، فهي حصلت على كل شيء منحه لها النظام (العمل، المنصب والنفوذ، الأجر والمنح والعلاوات، السكن، السيارة،) وماذا بقي لها سوى الحصول على عنكبوت تبني به بيتا أوهن من بيت العنكبوت.. وهناك أطرقت مليا، لأن حججهم كانت مفحمة، ولأنني لا أملك حلا، فصمتت وقلت لهم: لكم الله.

يا أيها الحكام، سيأتي يوم تُسألون فيه عند الله ويقول لكم ملائكة العذاب: (وقفوهم إنهم مسؤولون* ما لكم لا تناصرون* بل هم اليوم مستسلمون)، ولن يُغني عنكم جنازة مهيبة ولا قبر في مقبرة العالية أو سيدي أمحمد.. والحمد لله الذي حد أبصارنا، وحجب عنا ما ادّخره للظلمة في كتابه العزيز.. فاتقوا الله في ملايين الشباب الضائع، فنحن مهددون من حصون الداخل أكثر من الخارج، فإذا أردتم القوة والعزة والمنعة فحصِّنوا أنفسكم بهؤلاء الشباب، وقوُّوا حصون الداخل، ولن يستطيع عدو أن يخترق صفا ولا بنيانا مرصوصا.. وقديما قال الحكيم:

وكونوا حائطا لا صدع فيه **** وصفا لا يُرقع بالكسالى.

اللهم اشهد بأني بلَّغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • الاسكافي عملك لن ينفي كيانك

    فحيثيات المشكلة انه اخذ،حميع الاحذية بين يديه وعمل واعطى لنفسه من وقته مايشد به حذاء الاهر ويترتب عليه اجرا زهيد يقلل من انسانيته ليتمتع بزوجة و عائلة وبيت لكن الاسكافي الذي اخاط ثقب في حذائي طلق زوجته لانها كانت تشرب الخمر وهو ياتي بخبز وحليب اخر اليوم ولا يعيل الا نفسه ولماذا سيبحث عن اخرى ويستغل وضعه ويفشي باسراره كرامة الانسان التقوى وخوف من الله لحظة ابر بها ربه سيكرمك ربك ما لم عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على بال بشر

  • صديقي الاسكافي

    خرجت من المحل وكل المواد اختزلتها في وضع لا يليق بالزواج ان يفقد مقدساته وممر الامان لن يكون بحذاء فقط انه مشروع حضاري قديم ما زال البحث في طياته لكن المهزلة الاخيرة عندما دخلت الى حصة دكتور الدعوة احمد عيساوي وهي حصة تطبيق لسنة ثانية في مرحبة كلاسيك قديما رحب بي وقال لست هنا حكواتي بينكم انني ارى فيكم منزلة المجاهد الذي لا ينزع حذاءه خشية الموت اننا في حالة من اليقضة ولتستبيح الدولة وما تريد ان تفعل لكن ان تجيدوا الاخذ بالقوة تلك هي المادة التي تدرسونها ان بلادكم هذه حال الاسكاقي
    لن تصنع لكم مجدا بل تدفعون الثمن اضعافا لتمشوا حفاة عراة كغثاء السيل فلتتمسكو ا ج٠

  • صديقي الاسكافي

    العمل جزؤه عبادة والجزء الاخر اختلاط مع الشعب والاهم ان الحذاء ان انت ادركت ما تفعله وصلت الى ما يصل اليه الشهداء فلك ان تفهم ان الحذاء ما هو الا فصل اخر في قصة بديع زمان الرومي فانتكس وسقطت دموعه امامي قال من تقبل بي ابحث عن خدامة شهريتي لا تكفي فظهر لي انه انسان منهمك بالموضوع اكثر من الحذاء !؟