-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ختامها درٌّ وجوهر

سلطان بركاني
  • 824
  • 2
ختامها درٌّ وجوهر
ح.م

حلّت العشر الأولى من ذي الحجّة، وتوالت حتى مضت سبعة من أيامها الفاضلة، وبانقضاء نهار اليوم، وهو يوم التروية، لن يبقى منها إلا يومان، هما زبدة العشر، وهما المسك الأذفر والدّر والجوهر؛ يوم عرفة ويوم النّحر، أفضل أيام العشر بل أفضل أيام العام وأفضل أيام الدّنيا، ما طلعت شمس الدّنيا ولا غربت على مثلهما فضلا وبركة، ولا رُزق عبد مؤمن في هذه الدّنيا عطاءً ولا منحة أعظم من إدراك ساعاتهما وشهود لحظاتهما.

ساعات معدودة، ويأذن المولى سبحانه بحلول أفضل أيام العمر، بعد انقضاء ساعات يوم التروية المبارك، الذي أحرم في صبيحته حجيجُ بيت الله الحرام، على قلّتهم، بحجٍّ ليس كأيّ حجّ.. حجّ حرم منه الملايين من عباد الله المسلمين، بسبب هذا البلاء الذي نزل بالبشرية.. ربّما تكون أول مرة يشهد فيها المسلمون صحن الكعبة وهو يكاد يكون خاليا من الطّائفين، ويرون مشاعر منى ومزدلفة وعرفة تشكو إلى الله قلّة الوافدين..

في أعوام مضت كان حجيج بيت الله يُحصَون بالملايين، وكانت صورهم في المشاعر تخفق لها قلوب المؤمنين وتغتاظ لها قلوب الكافرين والمنافقين.. لكنّ الأمر بدا مختلفا في حجّ هذا العام. قدّر الله وقضى أن تدمع عيون عباد الله المؤمنين لصور المشاعر، وتتضرّع ألسنتهم إلى الله أن يرفع البلاء ويردّ للبيت الحرام عمّاره وزواره.. كنّا قبل هذا نقرأ حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلم: “استمتعوا من هذا البيت، فإنّه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة”، ونسمع الأثر المشهور: “حجّوا قبل أن لا تحجّوا”؛ فنعجب أشدّ العجب ونقول: أيّان يحصل هذا؟ وها نحن نرى ما يمكن أن يكون إرهاصات لما كنّا نظنّه بعيدا.

الحجّ مواقيت وشعائر ومناسك، وأبدان تطوف وتسعى وترمي الجمار وتقف بالمشاعر، وهذه كلّها أعمال واجبة لا بدّ منها، لكنّها ليست هي الأصل في حجّ بيت الله الحرام، إنّما الأصل إحرام القلوب وحجّ الأرواح، ومهما حيل بين العبد المؤمن وبين أن يكون ببدنه في المشاعر يؤدّي المناسك، ففي وسعه أن يكون هناك بقلبه وجوانحه؛ يحرم ويلبّي ويهلّل ويكبّر ويدعو ويرجو ويبكي ويتضرّع، في انتظار أن يأذن الله له بأن يكون هناك بجوارحه مع جوانحه.. ولعلّ لهذا السّبب امتنّ الله على عباده المؤمنين إذ لم يختصّ بفضائل وبركات وخيرات العشر من ذي الحجّة -وبينها يوم عرفة ويوم النّحر- وأيام التشريق حجيجَ بيت الله الحرام، بل عمّ بها كلّ عباده المؤمنين مهما تناءت بهم الأوطان وتباعدت بهم الديار عن بيت الله الحرام.

أعزّ موقف في الدّنيا

موقف عرفة.. ما شهد الكون أعزّ ولا أجلّ منه.. موقف تخفق له القلوب وتهفو الأرواح وتسكب العبرات.. ما من مسلم في ربوع البسيطة إلا وهو يتمنّى أن يكون من أهل عرفة الذين يشرّفهم الله بذكرهم في الملأ الأعلى وإشهاد ملائكته على مغفرة ذنوبهم وعتق رقابهم وإحلال رضوانه عليهم، في يوم ما رئي الشّيطان أذلّ وأصغر ولا أغيظ وأدحر منه في ذلك اليوم، من كثرة ما يعتق الله من عباده.. هذا الموقف الذي تزول فيه الألقاب وتُنسى المناصب؛ لا فرق فيه بين غنيّ وفقير ولا بين رئيس ومرؤوس ولا بين قويّ وضعيف.. الكلّ يشعر بضعفه أمام القويّ جلّ في علاه وبفقره إلى الغنيّ سبحانه.. تجول ببصرك في ذلك الموقف فلا ترى إلا أيد ارتفعت إلى السماء وألسن تلهج بالضراعة والدعاء وعيون تهمل بالدّموع.. ترى المذنبين وهم يعترفون بذنوبهم ويسألون المغفرة من ربّهم الرّؤوف الرّحيم، وترى الصالحين وهم يجأرون إلى الله أن يكرم وفادتهم ويكتب لهم رضوانه.. كان أبو عبيدة الخواص –رحمه الله- يقول في الموقف: “واشوقاه إلى من يراني ولا أراه”، وكان بعد ما كبر يأخذ بلحيته ويقول: “يا رب، قد كَبرتُ فأعتقني”.. موقف يذكّر العبد المؤمن بموقفه يوم القيامة، فيخشع قلبه وينسى كلّ ما يكابده من حرّ وطول قيام، أمام عظمة الموقف الأصغر، تحسبا للموقف الأكبر، ولا يشعر إلا وعبراته تسابق عباراته.

من جزيل فضل الله على عباده المؤمن أنّه لم يختصّ بنفحات وفضائل ورحمات هذا اليوم حجيج بيت الله الحرام، بل عمّ بها كلّ عباده الذين أحرموا ولبّوا وحجّوا بأرواحهم في ساعاته، ولو كانوا في أقصى الأرض أو أدناها.. يوم عرفة هو يوم العمر لكلّ عبد مؤمن وجد الخشوع في قلبه واستشعر ذله وفقره إلى الله، وتذكر ذنوبه وغدراته وفجراته، وتطلعت روحه إلى رحمة مولاه ومغفرته وعفوه، وهو سبحانه قضى ألا يخيّب رجاء عبد من عباده.

فيا أخي الحبيب.. تذكّر وأنت تعيش ساعات ولحظات يوم عرفة، ممتعا بالصحّة والعافية؛ تذكّر ذنوبك وإسرافك على نفسك وغفلتك وتقصيرك واستهانتك بحقّ مولاك وخالقك.. تذكّر شدّة تعلّق قلبك بالدّنيا وقلّة ذكرك للآخرة.. تذكّر كم تهاونت فيه من واجبات وكم قارفت من محرّمات.. تذكّر كلّ هذا لتشعر بشدّة حاجتك إلى رحمة مولاك في ساعات ذلك اليوم.. وأعلن التوبة لمولاك، وبثّ إليه شكواك من ضعف نفسك وغفلة روحك، واسأله سؤال عبد آبق عاد إلى مولاه أن يرحمك؛ وكن على يقين بأنّه سيتلقّاك بعفوه ورحمته، وربّما يأذن بعتق رقبتك من النّار وكتابة اسمك في سجلّ السّعداء الأخيار. فيكون يوم عرفة هو أفضل وأنفع يوم مرّ عليك مذ خرجت إلى الدنيا.. وإلى جانب توبتك من ذنوبك وسؤال مولاك أن يغفر لك ويرضى عنك ويكتبك في سجلّ السعداء ويسكنك دار كرامته؛ لا تستح من أن تسأل الله حاجات دنياك. تذكّر حاجاتك وديونك. تذكّر همومك وأحزانك. تذكّر كلّ ما يشتّت فكرك ويؤرّق ليلك، واستحضر أنّك تعيش ساعات يوم العطاء الأكبر، وأنّ أبواب السّماء مشرعة والفرصة مواتية والكريم ينتظر أن تبثّ إليه كلّ ما يختلج في نفسك.

هكذا يكون الأضحى عيدًا

بعد غروب شمس يوم العتق الأكبر يوم عرفة، ستتوالى ساعات يوم النّحر؛ غرّة أيام العام وأفضلها.. ما حاز هذه المنزلة ولا حظي بهذه المكانة إلاّ لأنّه اليوم الذي يجمع فيه العبد المؤمن بين عبادتين من أحبّ العبادات إلى الله؛ الصّلاة والنّحر، ولأنّه اليوم الذي يتذكّر فيه كلّ عبد مؤمن واجبه في التضحية لأجل دينه وعقيدته.. يتذكّر كيف كان خليل الرّحمن مستعدا لذبح ابنه طاعة لله، ومعه يتذكّر واجبه في أن يضحّي بشيء من وقته وجهده وماله نصرة لدينه، وأنّه لا ينبغي ولا يليق أبدا أن يُشغل بمال أو أهل أو أولاد عن طاعة ربّه ونصرة دينه.

يوم الأضحى، هو يوم الفرح الأكبر، يأتي في ختام أفضل أيام الدّنيا، ليفرح عباد الله المسلمون في ساعاته بما وفّقوا له من طاعات وقربات في أيام العشر، ويشكروا الله على جزيل نعمته في تسخير الأضاحي والإذن بذبحها والانتفاع بها، وكلّهم رجاءٌ بأن تكون مقبولة عند مليكهم وأن يثيبهم عليها عظيم الأجر.

لأجل هذا ينبغي للعبد المؤمن أن يكون أشدّ حرصا على استحضار نيته منه على شحذ سكّينه؛ فالنية الأولى ينبغي ألا تكون إشباع نهم البطون وإدخال الفرحة على قلوب الأبناء، إنّما التقرّب إلى الله الواحد، ثمّ لا بأس بعد ذلك أن ينوي يستصحب نيات أخرى.. كما ينبغي له أن يحرص على لزوم الهدي النبويّ في شحذ سكينه وتوجيه ذبيحته وإراحتها والإحسان في ذبحها، والحرص على نظافة المكان قبل وبعد الذّبح، لأنّ الله الذي يتقرّب إليه بتلك الأضحية يحبّ التوابين ويحبّ المتطهّرين، وانتهاءً بالتصدّق من لحمها، خاصّة في هذه الظّروف الصّعبة التي تكابدها كثير من العائلات، بعد أن تعطّلت الأعمال وتوقّفت المشاريع وسرّح آلاف العمّال، بسبب تفشّي وباء كورونا.

يوم الأضحى هو أيضا يوم لصفاء النّفوس وطهارة الأرواح، فلا تكتمل فرحة العبد المؤمن حتى يسعى في ساعات هذا اليوم، بعد ذبح وإصلاح أضحيته، إلى كسر الحواجز الزائفة التي وضعها الشيطان بينه وبين إخوانه وأرحامه وجيرانه.. مهما حدّثته نفسه بأنّه هو المظلوم وبأنّه مَن يُفترض أن يُلتمس لديه الصّفح ويطلب منه العفو، فليخز الشّيطان، وليبادر بالصّفح عن إخوانه، وليتواصل معهم يطلب منهم العفو والصّفح لكأنّه هو المذنب، وليدع لهم بمغفرة الذّنوب وقبول الأعمال الصّالحة، وهو في كلّ ذلك يرجو عفو ربّه ومغفرته، ويرجو فرح قلبه وطهارة روحه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • خليفة

    اللهم ارفع عنا هذا الوباء و البلاء و ردنا اليك ردا جميلا ،اللهم لا تعذبنا و نحن ندعوك ،و نستغفرك و نتوب اليك ،لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين ،و لا حول و لا قوة إلا بالله و صلى الله على سيدنا محمد.

  • ابن الجبل

    هذه الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة أيام خير وبركة وقبول الدعاء ... فلنرفع أيدينا ونتضرع الى الله خاشعين : ربما اننا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا لنكونن من الخاسرين ... ربنا ارفع غضبك وسخطك عنا ... ربنا اننا ضعفاء فقونا ، ومرضنا فأشفنا... أنت الذي قلت وقولك الحق لا اله الا أنت سبحانك : ادعوني أستجب لكم .