-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خطيب جمعية العلماء: الشيخ العباس بن الحسين (2/ 2)

خطيب جمعية العلماء: الشيخ العباس بن الحسين (2/ 2)

عندما أعلن الجهاد في 5 ربيع الأول من عام 1374 هـ (1 نوفمبر 1954) كان رئيس الجمعية- الإمام الإبراهيمي- في القاهرة، وقد غبّر في وجوه قادة الأحزاب الجزائرية، عندما أصدر في العشر الأوائل لقيام الثورة المباركة بيانا يؤيد فيه تلك الثورة، ويحث الشعب الجزائري على مساندتها ومؤازرتها، وقد اعتبر أولو النّهى ذلك البيان “فتوى شرعية”، توجب على كل الجزائريين نصرتها بجميع أنواع النصرة.

وبعد فترة قصير من ذلك البيان، بدأت ألاعيب السياسيين- الجزائريين وغير الجزائريين- رأت قيادة الجمعية في داخل الجزائر أن تطلع رئيسها في القاهرة على ما عندها من معلومات عن الثورة وقيادتها، فوقع اختيار قادة الجمعية في الداخل على الشيخ العباس للقيام بتلك المهمة، فسافر إلى القاهرة والتقى الإمام الإبراهيمي، وأطلعه على الأمور، ثم توجه تلقاء بيروت، حيث كان الأستاذ الفضيل الورتيلاني مقيما (8)، لأنه صار من المغضوب عليهم من نظام “الثورة المصرية”، وإن كان عند ربه مرضيا- إن شاء الله.

وقد أخبرني الشيخ العباس أنه وجد الأستاذ الفضيل الورتيلاني يعيش في “غرفة”، يستنكف من هم أقل من الورتيلاني علما ومكانة أن يسكنها، لقد كانت المسؤولية عند أمثال هؤلاء تكليفا لا تشريفا، وغرما لا غنما.

وفي أفريل من عام 1956، طلبت قيادة جبهة التحرير الوطني من بعض قادة الجمعية أن يلتحقوا بالوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني، تعزيزا للنضال الدبلوماسي، فكان الشيخ العباس أحد هؤلاء (9)، إضافة إلى الشيخ محمد خير الدين، نائب رئيس الجمعية، والأستاذ أحمد توفيق المدني، الأمين العام للجمعية..

وبعد مدة، رأت قيادة الثورة أن تعين الشيخ العباس ممثلا للثورة في المملكة العربية السعودية. والسعودية بما لها من إمكانات مالية، وبمكانتها المعنوية في العالم الإسلامي تحتاج فيها الثورة إلى وجود شخصية متميزة، فكان الشيخ العباس، الذي صار سفيرا للجزائر في السعودية في السنتين الأوليين بعد استرجاع الاستقلال.

لابد من أن أشير إلى أن السعودية هي أول دولة عرضت القضية الجزائرية على الأمم المتحدة، وذلك في شهر ديسمبر من عام 1954 (10)، كما قدمت السعودية مساعدات مالية مهمة للثورة، وقد أخبرني الشيخ العباس أنه كان يتحرج من تدخلات أحمد بن بلة- رئيس الجزائر- ضد السعودية التي كانت تناصر الملكيين في اليمن في صراعهم مع الجمهوريين، الذين كان يؤيدهم جمال عبد الناصر. وكان من رأي الشيخ العباس ألا تنحاز الجزائر إلى أي طرف. ولعل هذا هو سبب انتهاء الشيخ العباس في السعودية.

رجع الشيخ العباس إلى الجزائر، ولم يكن راضيا عن سياسة المسؤول الأول آنذاك- أحمد بن بلة- خاصة أنه أبدى سوءا للإمام الإبراهيمي، الذي أصدر بيانا في 16 أفريل 1964، ينتقد فيه سياسة ابن بلة، وقد وقف الشيخ العباس إلى جانب الإمام الإبراهيمي، إلى أن انتقل إلى جوار ربه، وأطيح بابن بلة في 19 جوان 1965، من طرف هواري بومدين ومن سانده في ذلك. وكان الشيخ العباس في هذه الفترة يعمل في مكتب مقاطعة إسرائيل في رئاسة الدولة.

بعد تشكيل حكومة هواري بومدين الأولى، تداعى ثلة من العلماء إلى تأسيس ما سموه “المجلس الإسلامي الأعلى”، ليكون ردءا لوزارة الأوقاف في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه ضد خصومه من التيارات السياسية والتغريبيين، وقد عين على رأس هذا المجلس الإسلامي الأستاذ الصديق سعدي، الذي لم يستمر طويلا في رئاسة هذا المجلس واستقال، فعهد برئاسته إلى الشيخ العباس الذي استقال هو أيضا ليعين على رأسه مؤقتا الشيخ سعيد صالحي، الذي خلفه بعد فترة الشيخ أحمد حماني.

في بداية الثمانينيات، رأت الحكومة الجزائرية أن تتولى الإشراف على مسجد باريس، وأجرت اتصالات مع عميده آنذاك- حمزة بوبكر- الذي كان من معارضي الثورة، ومن المتآمرين عليها في قضية “فصل الصحراء”، وقد أرضته الحكومة الجزائرية- لأسباب سياسية- ببعض الأمور المادية، وإعادة الجنسية الجزائرية إليه، فسلّم إدارة المسجد والإشراف عليه ماديا ومعنويا إلى الدولة الجزائرية التي اختارت الشيخ العباس ليكون المسؤول الأول لذلك المسجد.

وأشهد، ولا أشهد إلا بما رأيت وعلمت، ويشهد كثير غيري، أن الشيخ العابس نفخ من روحه في ذلك المسجد فأحياه، وصار ليس قبلة لمسلمي فرنسا فقط، بل أصبح مرجعا لأغلب المسلمين في أوروبا، ويمكن إطلاق صفة “العهد الذهبي” لمسجد باريس في عهد الشيخ العباس، وممن اختارهم لمساعدته في تسيير شؤون المسجد، الدكتور عبد الرزاق قسوم، والأستاذان عبد الرحمن بن غمراني ومصطفى بوغابة- رحمهما الله.

كما أشهد أنه بالرغم من علو سنه وتعدد أمراضه، كان- بنشاطه- يتعب “الشبان” العاملين معه، وقد كسب احترام أكثر سفراء الدول الإسلامية، والمسؤولين الفرنسيين، ورجال الدين النصارى واليهود غير الصهيونيين.. كما وقف في ائتلاف قلوب كثير من “الحركى” الذين استنزلهم الشيطان فوقفوا إلى جانب فرنسا الاستعمارية، وعندما يعبرون له عن حنينهم إلى الجزائر التي لم يسمح لكثير منهم بزيارتها لما ارتكبوه من جرائم، كان الشيخ العباس يخفف من لوعتهم وحزنهم بقوله: “ضيعتم وطنكم فلا تضيّعوا دينكم”.

لم تكن إدارة الشيخ العباس لمسجد باريس سهلة، فقد كان يواجه عدة خصوم وأعداء منهم:

“الحركى” الذين لا يزالون يصرون على خيانتهم لدينهم ووطنهم.

“الأقدام السوداء”، وهم الفرنسيون الذين كانوا في الجزائر، ولا يزالون يحلمون بما سماه الجنرال دوغول “L’Algérie de papa” أو “الجزائر الفرنسية”.

“اليمين الفرنسي المتعصب”، الذي يؤمن بـ “فرنسا البنت البكر للكنيسة”، وتضيق صدورهم من وجود مسجد في قلب عاصمتهم في الحي اللاتيني، وغير بعيد من كاتدرائية باريس.

اليهود الصهاينة، وما يمثلونه من ثقل مالي وإعلامي، وحقد متأصل في أنفسهم على الإسلام والمسلمين.

الفرنسيون الأصليون الذين أسلموا، ويعتبرون أنفسهم الأولى بالإشراف على مسجد باريس، وربما يسميهم البعض “ممثلي الإسلام الفرنسي”.

المغاربة، والتونسيون، والمصريون، والسعوديون، والإيرانيون، وآخرون من دونهم وكل له “دعواه” في أهليته للإشراف على مسجد باريس، لرمزيته وأهميته في نظر مسلمي فرنسا وأوربا عموما، وفي نظر السياسيين الفرنسيين.

المعارضة الجزائرية للحكومة، خاصة بعدما استقر ابن بلة في الخارج، ونزع عنه لباس “ماوتسي تونغ” الشيوعي، و”تمسلم” فصار يدعو- لغرض سياسي- إلى “إسلام”.

“ودادية الجزائريين”، وهي تنظيم تابع لحزب “جبهة التحرير الوطني”، مكلف بمراقبة الجزائريين، وكان أكثر العاملين في هذا التنظيم من أسوأ العناصر، وكانوا يريدون أن يرفعوا خسيستهم ويبيضوا وجوههم وأعمالهم، بعدما ساءت أعمالهم وسمعتهم عند أغلب المغتربين.

لقد ساعد الشيخ العباس على أداء مهمته التي عهد بها إليه مجموعة من الصفات منها: العلم الواسع. الذكاء المتوقد. العمل الدائب. الدهاء. الذاكرة القوية. الأخلاق الإنسانية السامية؛ من رأفة، ورحمة، وسماحة، ونجدة، ومساعدة الغير في حدود الإمكان.

كان الشيخ العباس ممن لا يغرقون في جزئيات القضايا، خاصة في الأمور الدينية، فقد كان من أصحاب النظرات الكلية للإسلام، والبعد المقاصدي فيه، ومما كان يردده على الأسماع في دروسه ولقاءاته قوله: “إن الدين كالدواء، إما أن تأخذه كما ينص الطبيب توقيتا وكمية، فيشفيك بإذن الله، وإما ألا تأخذه، أو تأخذه بفوضى وحسب هواك فيرديك”.

ومن أقواله في خطبة منقولة على “إذاعة الشرق في باريس، مخاطبا اليهود: “إن أوربا التي أنجبت هتلر وموسوليني قادرة على أن تنجب مثليهما- إشارة إلى اليميني المتطرف جان ماري لوبان، ولن تجدوا في هذه المرة الحضن الذي آواكم من قبل، وهم العرب والمسلمون”.

ومما يدل على مكانة الشيخ العباس في عيون كثير من وجهاء الفرنسيين، ما قصّه عليّ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي من كون الرئيس الفرنسي جاك شيراك قال له ما معناه: “إن من أكثر ما أسفت عليه، أنني لم أستطع أن أتواصل بشكل جيد مع الشيخ العباس بسبب حاجز اللغة”.

وأما أنا- كاتب هذه السطور- فآسف على أنني لم أسجل بقلمي ما سمعته من الشيخ، ولم أسع لتجسيد ما اقترحته على الشيخ من تسجيل صوتي له لما علمه من أمور، ولمن عرفهم من أشخاص.

لبّى الشيخ نداء ربه، فالتحقت روحه بعالمها الأسمى يوم 3 ماي 1989. ومن عجائب الأقدار، أن الشيخ العباس كان يرجو لقاء المناضل ياسر عرفات، فلما قدّر له أن يلقاه في باريس بمناسبة أول زيارة له إلى باريس دهمته أزمة قلبية فكانت القاضية.

رحم الله الشيخ العباس رحمة واسعة، وجميع علمائنا العاملين.

8) البصائر في 30-12-1955 و24-2-1956.

9) أحمد توفيق المدني: حياة كفاح (مذكرات) ج3.

10) مولود قاسم: ردود الفعل الأولية عن ثورة نوفمبر ص203، (نشر دار البعث – قسنطينة).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • Hacene bejaia

    مقال رائع والأروع فيه " إن الدين كالدواء، إما أن تأخذه كما ينص الطبيب توقيتا وكمية، فيشفيك بإذن الله، وإما ألا تأخذه، أو تأخذه بفوضى وحسب هواك فيرديك”. ما أحوجنا إلى هذا المنهج في التفكير والى هؤلاء الاجلاء في أيامنا هذه يا أستاذ. فشكرا.

  • حموش صادق بجاية

    مقال ممتاز ،وشهادة حية على أحد رموز الجهاد الأكبر والأصغر ومسيرته الشاقة في معترك الحياة في أصعب مراحل التاريخ الجزائري ، بارك الله فيك استاذنا الفاضل الهادي الحسني على هذا التنوير والتذكير بأحد شخصيات الجزائر وبأحد أساطين الجمعية الذين غبرهم الإعلام الأعمي وهمشهم الفكر الإستئصالي ،بل خونهم وإسود صحائف تاريخهم الذي يجعل من تاريخنا الوطني قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا منها فهم اشبه باليهود في إخفاء حقائق السماء وآي الوحي مزيدا من هذا التنوير جعلها الله في ميزان حسناتكم

  • عثمان شاوي

    بارك الله فيك يا شيخنا على تعريفنا بهذا العلم من أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين زشكرا لك على المعلومات التاريخية الهامة التي وردت في المقالة
    يا شيخنا، ليتك تنجز لنا موسوقة لأعلام الجمعية ورجالاتها الذين نشطوا بهياكلها وفروعها . شكرا جزيلا مرة أخرى

  • عقبة بن نافع

    شكرا وبارك الله فيك شيخنا وإمامنا الفاضل.

  • مدني مزراق

    بسم الله الرحمن الرحيم .. هذه شهادة مهمة ومفيدة ، في مقال قيم فصيح .. واستنطاق الذاكرة ، يعينك على كتابة شهادات أخرى كالتي بين أيدينا .. وإذا كان النسيان قد فعل فعلته ، بسبب التفدم في العمر ، وبعد المدة الزمنية .. فإن أهمية الشهادات ، تستحق العناء والمحاولة ، وما لا يدرك كله ، لا يترك جله ... بارك الله فيكم ، وأسعد أيامكم بكل خير .