-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خلّوا بين الناس وميولهم

جمال غول
  • 216
  • 0
خلّوا بين الناس وميولهم
ح.م

يقول الله تعالى: (ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).

 إن المسلم بإعلانه الشهادتين فإنه يقر بالوحدانية لله تعالى وأنه خالق كل شيء ورب كل شي ومليكه وأنه هو المستحق للعبادة دون غيره مما عُبد ويُعبد إلى يوم القيامة. والناظر في هذا الكون الفسيح نظرة تأمل وتدبر يدرك هذه الوحدانية إدراك فطرة، كما قال الأعرابي: “إذا كان الأثر يدلُّ على المسير والبعرة تدل على البعير أفلا تدل سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج  على الخالق الكريم”، صنعُ الله الذي أتقن كل شيء فاستحق الله تعالى الطاعة دون مناقشة (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم).

وشاءت إرادة الله تعالى أن يتعدَّد خلقه في الجنس والصفة والقدر فكان الإنس والجن، والجماد والحي، والإنسان والحيوان والنبات ومن كل جنس ذكر وأنثى وأبيض وأسود…

وشاءت حكمة الله البالغة أن يتفاوت الخلق في القدرات العقلية والبدنية والروحية والسلوكية قال تعالى “وربك يخلق ما يشاء ويختار”،

فجاء تركيب الله الواحد لعقول البشر متعددا غير واحد متناسبا مع الشرائع السابقة إلى أن اكتمل العقل البشري نضجا فختم الله الرسالة بنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أسست لمنظومة اجتهادية دقيقة يكون للمصيب فيها أجران وللمخطئ أجر واحد.

وإذا كان الله الواحد المتصرف في ملكه كيف يشاء الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون يُقرُّ لعباده بالاجتهاد المفضي إلى تعدد الآراء والأحكام في أخطر شيء وهو دينهم، أفلا يسمح من هو دون الله في التصرف والملك بالاجتهاد في ما هو دون أمر الدين من أمور الدنيا والمعاش؟

وإذا كان المجتهد الذي أخطأ في أمور الدين يستحق أجر الاجتهاد تنبيها على كون الخطأ مستساغا ولا جريمة في ذلك فما بالك بأمور الدنيا والسياسية على وجه الخصوص؟

إن الطبيعة البشرية تقتضي هذا التعدُّد في الرؤى والاختلاف في التفكير وكل محاولة لتوحيد ذلك فهي إلى العبث أقرب وعن المنطق السليم أبعد، وكل جهدٍ يُبذل في سبيل حمل الناس على رأي واحد مهما كثر أنصارُه فهو جهدٌ ضائع لا يُجنى منه غير التعب والتعصُّب ومزيدا من التعقد، كما أن تخوين المخالفين في الرؤى الاجتهادية والتشنيع بهم هو من التعدي وتجاوز الحد المفضي إلى النزاع والشقاق والتشرذم الذي لا يخدم إلا الأجنبي المتربص أو الوطني غير المخلص .

وإذا كان علماؤنا قد قرروا قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) في مجال الاجتهاد الفقهي المبني على الدليل، فمن باب أولى ألا يكون الإنكار في مجال الاجتهاد السياسي المبني على الظن والتخمين والحنكة والتحليل.

إننا بحاجة في هذا الزمن إلى رؤية ثاقبة كرؤية الشافعي رحمه الله في قيمة الحرية وإبداء الرأي المخالف التي جسَّدها في قاعدته الأصولية التي حقها أن تُكتب بماء العيون قبل ماء الذهب وتصلح لكل مناحي الحياة وهي “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” (وهو من هو في العلم والذكاء والتخطيط)، فلم يرد من أن يحتمل رأيه الخطأ ذات الخطأ، ولكن لينبه أن ما يُتوصل إليه من آراء لا تكون بالضرورة هي الأصوب، فيكون ذلك منطلقا لمسار يكثر فيه أتباع الصواب والحق، الذين لا يمنعهم كِبرٌ ولا غرور من الرجوع إلى آراء غيرهم، وتلك إحدى الآليات التي تُقلِّص من الانقسام المجتمعي .

ولو كان من أوتي الحكمة في أكمل صورها يستطيع الاستغناء عن رأي الآخرين لكان ذلك خاصا بنبينا عليه الصلاة والسلام الذي كان يوحى إليه وما ينطق عن الهوى، ولكن  شريعتنا جعلت الأمر للشورى وأبطلت المبدأ الفرعوني القائم على “ما أريكم إلا ما أرى” فقال تعالى (وشاورهم في الأمر) فكان النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوحى إليه يشاور أصحابه رضوان الله عليهم جميعا في مَواطن كثيرة كما في غزوة بدر وقضية تأبير النخل وغيرها.

وها نحن اليوم نرى بعض الدول التي تعتمد في نظامها على الهيئات والمؤسسات الشورية الحقيقية لا الصورية من أقوى الدول وأكثرها رفعة ومنعة، ذلك لأن الشورى آلية لا يُستغنى عنها لتقليل نسبة الخطأ التي كثيرا ما ارتفعت وجنت على مشاريع مجتمعية مادية ومعنوية .

إنّ تعدُّد الآراء قد يُنتج آراء متطرفة لا تقبلها العقول السليمة ولا مناص حينئذ من علاجها بالفكرة الصحيحة، ولذلك قال مفكر الحضارة الجزائري مالك بن نبي رحمه الله: “عندما تغيب الفكرة يبزغ الصنم”، وببزوغ الصنم ماذا ستفعل القوة؟ وماذا سيفعل الإكراه في غياب الإقناع الذي هو آلية أخرى لامتصاص الصدمات العنيفة الناتجة عن تعدد وجهات النظر التي يُعمل على صدِّها بدل احتوائها بتصحيحها؟

فخلوا بين الناس وميولِهم ما لم تكن حراما، وبين المواطنين وقراراتِهم ما لم تكن مصادِمة للقانون، ولنمارس آليات التعايش في ظل هذا التعدد، بوحدانية لا تكون إلا لله المتفرد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!