-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دور الشعب في عملية الإصلاح بين التهمة والبراءة

دور الشعب في عملية الإصلاح بين التهمة والبراءة
ح.م

من أكثر الإشكاليات السياسية والسسيولوجية والنفسية إثارة للجدل هو الحديث عن الرأي العام أو ما يسمى “الشعب”، خاصة عندما يتمّ ربط هذا المفهوم بمصطلح “الإصلاح” ودور الشعب فيه بعدما تحدّثنا في عنصر سابق عن دور الثالوث المهمّ (الإعلام والمجتمع المدني والنخبة).

هذا المفهوم المعقد الذي اختلف الناس في تقييمه ودراسته وتشخيص دوره والذي يمكن حصر النقاش المتعلق به في الرواقات التالية:

01- جزء من الباحثين والدارسين والمراقبين ينفي نفيا قاطعا ويدفع التهمة كلية عن الشعوب على اعتبار ألا حول ولا قوة له في عملية التغيير والإصلاح وأن المسؤولية كل المسؤولية تقع بالكامل على السلطات الحاكمة التي بيدها: الأمن والإدارة والمال والمؤسسات والقوة العمومية مستدلين بمنطق أن التغيير يأتي من فوق.

02- جزء كبير من النخب والدارسين والباحثين يحمِّلون المسؤولية كاملة للشعب كونه شعبا صامتا وراضيا بأوضاعه على سوئها واعوجاجها بل وقسوتها، لا يطالب بحقوقه، لا ينتفض، راض بما هو كائن، وبالتالي يستحق الوضعية البائسة التي يعدّ السبب الرئيس فيها، ويدعم هذا الرأيَ كثيرون بما فيه قطاعات واسعة من الشعب تقرُّ بتقصيرها، وأن ما وصلت إليه من أوضاع لا تُحتمل إنما بالدور السلبي لها، مؤكّدين أن التغيير يأتي من أسفل.

03- أما الرأي الثالث فهو الذي يتوسط الرأيين السابقين، والذي يرى أن الشعب له جزء من المسؤولية بالإضافة والتشارك مع عوامل وفضاءات أخرى مختلفة كالإعلام على سبيل المثال لا الحصر والنخب والسلطة والمجتمع المدني والسنن الكونية التي تتعاقب بين فترة وفترة أخرى إذا ما وجدت من يحركها ويستثمرها.

حجج الرأي الأول:

هذا الرأي لا يحمِّل الشعوب أيَّ مسؤولية في عملية التغيير، بل هي عادة ما تكون ضحية أو مستقبِلا سلبيا لكل موجات التغيير التي تتعرض لها الشعوب والمجتمعات.

– عادة الشعوب هو الاهتمام بالمطالب الاجتماعية البحتة، والتي تتلخص عموما في لقمة العيش وتحسين القدرة الشرائية، ما يؤدي إلى الانعزال التدريجي عن الحياة العامة والشأن السياسي أو حتى الفعاليات الاجتماعية (المجتمع المدني).

– الاستبداد في مجتمعاتنا العربية والذي حاصر الشعوب قهرا وعنفا بل وتجفيفا لكل ينابيع الإبداع التي توجد عادة في الشعوب فطرة أو اكتسابا، وهناك في التاريخ القديم والمعاصر من التجارب التي تشهد كيف قمعت هذه الأنظمة المستبدة ثورات شعوب ومطالب الرأي العام فانزوى الشعب ومحرِّكوه ونخبُه خوفا من تكرار هذه التجارب المريرة والسيئة الصيت.

– الشعوب لا تتحرك من تلقاء نفسها، وهذه عادة الشعوب، بل تتحرك بتأطير من النخب والتي للأسف الشديد لا تزال في عالمنا الثالث مستسلمة ومتقاعسة، وأنصار هذا الرأي لا يحمِّلون مسؤولية التغيير للشعب ويركزون على هذه النقطة تحديدا وهي أن الشعوب لا يمكنها المبادرة دونما تحريك أو تأطير أو توجيه.

– الشعوب ليست كيانا متشابها أو منسجما بل هو كياناتٌ مبعثرة ومشتتة من حيث اختلاف المستويات والانتماءات والعادات والتقاليد، ما يعزز نظرة أن الشعوب لا يُعوَّل عليها في إحداث أي عملية تغيير، حسب أنصار هذا الرأي.

– ببساطة الشعوب لا تمتلك أدوات التغيير كالمال والسلطة والأمن والإدارة والاستخبارات والإعلام، والتي تملكها حصرا السلطات والأنظمة الحاكمة، وهي تمتلكها وتوجهها وتتصرف فيها كيفما تشاء.

حجج الرأي الثاني:

هذا الرأي الذي يركز على الشعوب في إحداث تغيير بأنها هي المحركة والموجهة لكل الأحداث، كونها الفاعل من جهة والضحية من جهة أخرى إذا ما استسلمت الشعوب لصالح السلطات السياسية الحاكمة، وأدلة هذا التيار يمكن ذكر بعضها في النقاط التالية:

– هناك تجارب كثيرة في التاريخ البشري القديم والمعاصر على السواء كان بطلها الشعوب التي ثارت على الاستبداد والطغيان والظلم وغيَّرت واقعها من النقيض إلى النقيض.

– “كيفما تكونوا يُولى عليكم” دليل هذا التيار القاطع والجازم على أن الشعوب هي التي تصنع تغييرها وتصنع قائدها ومخلصها لأنه بالنهاية سيخرج من بينهم.

– الشعوب هي الحامية لكل مشروع تغييري لأنه بالنهاية هي من تدفع ثمن من يحكمها سواء بالسلب أو بالإيجاب.

– اهتدت الديمقراطية الغربية التي صنعتها الشعوب في الثورة على الاستبداد الطبقي والملكي إلى فكرة أن الشعب هو من يختار حكامه ويراقبهم ويحاسبهم، والديمقراطية هي الوسيلة الأنجح إلى يوم الناس هذا كأداة للتداول على الحكم والاستقرار والتنمية.

حجج الرأي الثالث:

يدافع هذا التيار بواقعية كبيرة وببعد نظر أعمق عن أن الإشكالية لا ترتبط بمدى التهمة المطلقة في تقاعس الشعب عن أداء مهمته، وما بين البراءة المطلقة في تحمل مسؤوليته في التغيير المنشود، ولعل أبرز أدلته في تعزيز هذه القناعة ما يلي:

– يتحمل كل شعب مقهور المسؤولية في تغيير واقعه الأليم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، لكنها مسؤولية تشاركية تحرِّكها النخب وتؤطرها، يحتويها الإعلام والمجتمع المدني وينخرط فيها الشعب حماية واستجابة، والأهم من هذا كل ضمان استقرارها كتجربة فتية ولاستمرارها في الزمان والمكان بالانتباه الدائم لكل المخاطر التي تحرك هذا الحَراك السلمي الواعي.

– لا يوجد شعبٌ بالعالم يتحرك من تلقاء نفسه، وإنما يسبق ذلك تمهيدٌ وحراكٌ تقوم به النخب نتيجة الظلم المستشري والاستبداد العنيف والقمع المتفاقم.

– من أهمِّ عوائق تحرُّك الشعوب هو عدم قدرتها على التخطيط الجماعي والتفكير المنتظم والهادف لتباعدها وعدم تناسقها وأحيانا كثيرة الاختلافات الثقافية والإيديولوجية والإثنية والمذهبية التي تطبع العلاقات الداخلية داخل منظومة الشعب الواحد تعيقه عن هذا الحراك.

– لا يمكن تحميل الشعب المسؤولية كاملة لوحدها حفاظا على عملية التغيير نفسها؛ فالشعوب عندما تتحرَّك من دون تأطير وتوجيه واع قد تُفسد أكثر مما تصلح، بل قد تنتقم على طريقتها من الظالمين والمستبدين كردة فعل عفوية، ما قد يؤثر سلبا في كل حَراك قد دفع الكثيرون جهدا ووقتا وتضحية كبيرة في التحضير له، والتجارب العالمية كثيرة جدا في حَراك الشعوب التي فشلت في تحقيق مبتغاها نحو فضاءٍ أرحب ومستقبل مشرق.

– عندما تتحرك الشعوب بمفردها قد تتحكم في الانطلاقة وحتى زمانها ومكانها وظرفها، لكن لن يكون لنا نفس الحظ والفرصة في معرفة مآلات هذا الحَراك ما يؤدي قطعا إلى الفشل أيضا، كما يرفض مؤيدو هذا الطرح أن يتم محاسبة الشعوب واتهامها بالتقاعس.

يبدو التيار الأخير أكثر واقعية ومنطقية وإقناعاً.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!