-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ذَنْبُه: مُقيم في إيران!!

ذَنْبُه: مُقيم في إيران!!

لقد تضاعف عدد المجلات الأكاديمية في العالم، وتضاعف معها عدد البحوث المنشورة، ورغم ذلك فهي في الظاهر لا تفي بالحاجة المتزايدة للباحثين الذين يرغبون في نشر المزيد من البحوث، منها الغثّ، ومنها السمين، ومنها الجدّي، ومنها ما لوّثها النصْب والاحتيال.

المحتال والضحية…

من غرائب ما قرأنا مؤخرا أن مجلة عالمية راقية في الاقتصاد تصدر في الغرب تلقت بحثا للنشر من قِبل باحث هولندي معروف، كان قد أرسل إليها بحثه عبر عنوانه الإلكتروني التابع لـ”ياهو”! ومن عادة الباحثين استعمال العنوان الإلكتروني التابع للمؤسسة الأكاديمية التي ينتسبون إليها. ولذا استغرب رئيس تحرير المجلة في استعمال الباحث لهذا العنوان بدل عنوانه في مؤسسته. وبما أن المجلة تعرف هذا العنوان للمؤلف راسلته عليه لتسأله عن السبب فكان جوابه أنه لم يرسل أي بحث للمجلة!

فزاد استغراب مسؤولي المجلة وقيّموا البحث وراسلوا صاحبه على العنوان الذي راسلهم به (عنوان “ياهو”). عندئذ وصل الرد إلى رئيس التحرير عبر نفس العنوان يشكر المجلة، ويوضّح لها بأن الباحث الهولندي هو مشارك في البحث، لكنه لم يرغب في ظهور اسمه، وهذا هو سبب عدم ظهور اسمه في قائمة المؤلفين الحقيقيين (وهم 3 أو 4)، وكلهم منتسبون لجامعات إيرانية!

وقد تعقدت القضية عندما علم أحد المؤلفين المزعومين (الإيرانيين) بوجود اسمه ضمن مؤلفي المقال المذكور، وهو لا علاقة له بهذا الموضوع… فراسل المجلة معبّرًا عن استيائه وأدانها بشدة لأنها أساءت لسمعته مهددا إياها برفع قضية قضائية ضدها. أما أحد المؤلفين الآخرين فاعترف بأنه لجأ لهذه الوسيلة غير الأخلاقية لأنه كان على يقين بأن المجلة لن تنشر له المقال لو علمت أنه مقيم في إيران! ولا ندري كيف انتهت القضية.

السلطات الإيرانية تتأسف!

واطلعنا أيضا على حالة باحث إيراني آخر في مجال الفيزياء نشر عديد المقالات باللجوء إلى حيلة شيطانية تتمثل في أن يكون هو محكّم بحثه لدى المجلة! كيف ذلك؟ على سبيل المثال، هناك العديد من المجلات الأكاديمية في العالم تطلب من الباحث أن يقترح أسماء وعناوين خبراء (عموما 3 خبراء) لتحكيم بحثه. نعتقد أن هيئة التحرير تتعامل عموما بذكاء مع هذا الاقتراح الذي تطلبه من صاحب البحث… فليس من المؤكد أن المجلات ترسل دوما البحث لتحكيم هؤلاء الخبراء، أو بعضهم، بل تسأل المؤلف ربما بهدف تفادى من يقترحهم عليها من خبراء سعيا وراء نزاهة التحكيم!

على كل حال، فالباحث المحتال يمكن أن يرسل اسم خبير مرموق لكن بعنوان إلكتروني ليس عنوانه الحقيقي بل بعنوان مموّه يوصل طلب التحكيم إلى صاحب المقال ذاته وليس إلى المحكّم الذي تتصوّره المجلة! وعندئذ يحرر كاتب المقال تقرير خبرة على بحثه (باسم المحكّم) يوصي فيه المجلة بنشر المقال! عندما تكتشف هيئة التحرير مثل هذه التلاعبات تسحب البحث من المجلة (حتى بعد نشره) وتوبّخ الكاتب في موقعها.

ويستغرب المرء كيف استطاع هذا الفيزيائي الإيراني مخادعة مجلات دار “إلسيفير” Elsevier الشهيرة في 24 بحثا قامت بسحبها بعد نشرها في مختلف مجلاتها! وقد استنكرت السلطات الإيرانية في ربيع 2018 سلوك هذا الأستاذ وأقالته نهائيا من منصبه بعد توبيخه، وراسلت الجهات المعنية في دار “إلسفيير” للتعبير عن شديد أسفها لما حدث.

ومع ذلك يعترف الإيرانيون بأن هذا الباحث ليس الإيراني الوحيد الذي استعمل طرقا غير أخلاقية في مجال البحث، ويذكرون أن عدد البحوث المنشورة من قِبل الإيرانيين تضاعف 20 مرة خلال العقود الأربعة الماضية، ويشيرون مثلا إلى أن ثمّة 58 بحثا نشرها 282 باحثا إيرانيا قد تم سحبها عام 2016 في مجلات دار “شبرينجر” Springer الألمانية الشهيرة وذلك لأسباب مختلفة تسيء كلها لأخلاقيات النشر العلمي.

تجاوز يَنْدى له الجبين!

هناك أحداث كثيرة من هذا القبيل تبيّن كيف أن دور النشر تراقب عن كثب ما ينشره الإيرانيون بوجه خاص وتكشف منهم المحتالين، وهذا جميل! لكن هذا “الجمال” يتجاوز أحيانا حدوده فيتحوّل إلى بشاعة لا توصف.
فقد عُرف ريتشارد يايلور Taylor (1781-1858) بكونه كان من أوائل ناشري المجلات العلمية في بريطانيا حيث أنشأ دار نشر عام 1798. ولما ألتحق به عام 1852 الكيميائي وليم فرنسيس Francis أصبحت دار النشر تسمى دار “تايلر وفرنسيس” Taylor & Francis. وتطورت الدار وأصبحت دار نشر عالمية لها مراكز في أكبر مدن العالم وتشرف الآن على إصدار أكثر من ألفين وخمسمائة (2500) مجلة، إضافة إلى إصدار خمسة آلاف (5000) كتاب جديد سنويا!
ومن بين المجلات التي تصدرها هذه الدار مجلة “النظم الديناميكية” Dynamical Systems، وهي مجلة فصلية راقية تصدر باللغة الأنكليزية منذ أزيد من 30 سنة وتُعنى بنشر الجديد في 8 فروع رياضية.

ففي الأسبوع الأول من هذا الشهر بُثَّ خبر في الأوساط العلمية مفاده أن هيئة تحرير هذه المجلة كان قد وصلها بحث منذ مدة، وتم تقييمه بالشكل المعتاد، وفي الأخير حظي بالموافقة على نشره في المجلة. وكما هو معمول به في كافة المجلات الأكاديمية العالمية، فقد أُعلم المؤلفون بقبول بحثهم للنشر بصفة نهائية. ولما شرعت الهيئة التقنية -المكلّفة بإصدار عدد المجلة الذي سيظهر فيه المقال- في أداء مهمتها لاحظ مدير النشر في دار “تايلور وفرنسيس” أن من بين مؤلفي ذلك المقال باحثا مقيمًا في إيران.

وبناء على ذلك بعث مدير النشر برقية لأصحاب البحث ولرئيس هيئة تحرير المجلة يقول فيها : >> نتيجة امتثالنا للقوانين واللوائح المعمول بها لدى المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وسلطات الأمم المتحدة فيما يتعلق بالبلدان الخاضعة لقيود التجارة، فلا يجوز لنا نشر أي مقال من تأليف باحثين يقيمون في بلد يخضع لعقوبات (في هذه الحالة يتعلق الأمر بإيران)… <<. ويختم المسؤول برقيته بالقول >> لذلك، وبسبب الامتثال الإلزامي للتعليمات نأسف لعدم قدرتنا على مواصلة معالجة نشر بحثكم << !

ولَباقة مدير النشر تقتضي أن يختتم بالعبارتين التاليتين الموجهتين للمؤلفين : >> نعتذر كثيرا عن الإزعاج الذي تسببنا فيه. إذا كنتم ترغبون في تقديم عملكم إلى مجلة أخرى فلكم الحرية في القيام بذلك، متمنين لكم كل النجاح.<< ! وقد انتشرت هذه الرسالة لدى المختصين في الغرب، وكثير منهم استنكروا موقفها استنكارا شديدا.

فأي دُورِ نشر علمية عريقة تلك التي تخضع لمثل هذه القيود التي لا تمتّ للعلم بصلة؟ وأي سياسيون هؤلاء الذين يمنعون نشر بحث علمي في مجلة لا لسبب سوى لأن صاحبه يقيم في بلده؟!! تلك هي الحضارة التي نسعى نحن إلى الارتماء في أحضانها؟!!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • benchikh

    في الحالات التي يراد بها عزل بلد عن باقي البلدان, يعجبني النموذج الصيني بهيائته القيادية , لم يستطع اين كان ان يوقف زحفهم نحو امتلاك كل ما يريدون امتلاكه من العلم والمعرفة .والصين اليوم تحدث اختلالات اقتصاديةفي عقر دار من يدعونا امتلاك العلم هذه اللغة الصينية الضاربة بصمت في عمق الغرب لكن القيادة الايرانية ليست قيادة صينية .

  • أحمد الأحمدي

    قد ترجم (علماءهم) بحوثا و كتبا من العربية إلى لغاتهم و نسبوها إليهم و التاريخ يشهد . فحساسية هؤلاء لكل ما يأتي من الشرق حساسية سياسوية عقائدية .

  • قويثاسيت عبد الكريم

    في الجامعات الجزائرية يطلب مديروها من الاساتذة الاقرار بكتبهم المؤلفة حتى يزداد رصيد جامعاتهم من المصداقية والترتيب ان على المستوى العالمي او المحلي.. واساتذة اشيوخ يبتزون طلبة الدكتوراة والماجستير لوضع اسمائهم على المداخلات؛ فان ثبت جودة المقال قالوا: البحث لنا وهؤلاء الطلبة ابناؤنا ولذا سمحنا لهم بكتابة اسمائهم وان تبين سرقة المقال قالوا: والله هذه نتائج الاصلاح الجامعي وقد غالطنا الطلبة، فاولى بالدكتور الفاضل الكلام عن مثل هؤلاء السفلة بدل اناس يعاقبون في عقر دارهم ان اخطاؤوا ولله في خلقه شؤون.مدراء جامعات عندنا نالوا الاستاذية بمثل هكذا خربشات وسرقات علمية ومن اكتشفهم حوصر بحقير التهم .

  • الطيب

    العلم ليس له وطن و ليست له جنسية ، نعم رجل العلم قد يكون لعلمه لمسة و إضافة لوطنه و لكن لمسته هذه قد تمتد خارج حدود وطنه و تستفيد منه الإنسانية جمعاء أما غير ذلك فهو لا يختلف عن التمييز العنصري في شيء.