-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رحلة العمر

سلطان بركاني
  • 2868
  • 0
رحلة العمر

ها هي وفود الحجيج بدأت تتدفّق من كلّ حدب وصوب على أرض هي أحبّ أرض إلى الله وإلى أنبيائه ورسله وعباده الصّالحين، وها هم آباؤنا وإخواننا وأمّهاتنا وأخواتنا حجيج بيت الله الحرام ينطلقون في أعظم وأمتع وأنفع رحلة في هذه الحياة، رحلة يخرج بها العبد المؤمن من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وترفع درجته بين أهل الأرض وأهل السّماء.

رحلة ينزل فيها الحاجّ ضيفا على أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين، ويحثّ خطاه على أرض حثّت عليها أشرف الخطى، خطى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم، أرض تحمل بين طياتها أجسادَ رجال سطّروا بدمائهم وأنفسهم وأموالهم أنصع تاريخ لأمّة الإسلام، وتحمل على ظهرها أعظم ذكريات لهذا الدين.. هذه مدينة النبيّ المجتبى عليه الصّلاة والسّلام. هنا كان يصلّي صلواتُ ربّي وسلامه عليه، وهنا كانت حجرات أزواجه. هذا قبره، وهنا منبره الذي كان يخطب عليه. لطالما جلس – عليه الصّلاة والسّلام – في هذا المكان وجلس حوله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعبد الرّحمن بن عوف وطلحة والزبير. هنا كانت غزوة بدر وهنالك كانت غزوة أحد.. وهذه مكّة المكرّمة التي سارت على ثراها أقدام جميع الأنبياء عليهم السّلام، هنا كانت قصّة خليل الله إبراهيم، وهنا كان مبدأ الرّسالة الخاتمة. هنا أوذي نبيّ الهدى -صلى الله عليه وآله وسلّم – ووضع سلا الجزور على ظهره وهو ساجد لربّه. هذه الصّفا وهذه المروة وذاك ماء زمزمَ الطّاهر. ذاك غار حراء وذاك جبل عرفات. مقامات أعظِم بها من مقامات، وذكريات يا لها من ذكريات. 

قلوب الملايين من المسلمين تحترق شوقا لتلبية نداء الحجّ وزيارة تلك البقاع؛ مسلمون في شرق الأرض وغربها، في الهند وأندونيسيا وباكستان والفلبين وفي كلّ مكان، تحترق قلوبهم وتسيل دموعهم شوقا لرؤية بيت الله العتيق، فلكَم سمعنا عن إخوان لنا مسلمين في بلاد الأعاجم يذرفون الدّمعات ويرفعون الآهات، شوقا لرؤية بيت الله الحرام. ولكَم سمعنا عن أحوال مَن أمكنه الله من الحجّ منهم، ممّن سطّروا بفطرتهم أروع المواقف، دموع تنهمر وألسن تلهج بالذّكر والدّعاء وأقدام تحثّ الخطى وتسابق الدّقائق والسّاعات، ولو أمكن الواحدَ منهم أن يطير لطار من شدّة الفرح، ومنهم من يتمنّى ويدعو الله أن يقبض روحه في تلك البقاع.

نشرت إحدى الجرائد الخليجية تقريرا حول أجواء الحجّ قبل عدّة سنوات عنوت له: “حجاج يبيعون أملاكهم من أجل أداء فريضة الحج وآخرون يتمنّون الموت في مكة”، وكتبت تحت هذا العنوان تقول عن الحجّاج: “ملابسهم البيضاء تغطي مطار جدّة، وأصواتهم تبلغ كلّ الآذان منادين «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»، يُخفون داخل صدورهم ألما ومعاناة كبيرة تكبّدوها حتى وصلوا إلى هذا المكان، كثيرٌ منهم دفع ثمنها كلّ أمواله، وبعضهم قام ببيع بهائمه ومصدر رزقه، كلّ ذلك ليؤمّن نفقات الحجّ ويؤدّي هذه الفريضة بعد أن غزا الشيب رأسه وأصبح نداء الموت يزوره صباح مساء.. “جاويد علي” الحاج الأندونيسي الذي كلّفه حضوره أغلب أمواله التي يملكها، وترافقه في حجّه زوجته العجوز، اكتفى بقوله: “أتمنى أن أموت في مكّة وأقابل الله محرما”، وهذا ما قالته زوجته وهي تبكي وتقول إنّها لا تصدّق أنّها الآن قريبة من بيت الله الذي ظلّت تشاهده على شاشة التّلفاز منذ صغرها، وحلمت بالوصول إليه عمرَها كله، وتضيف فتقول: “عمر هذا الحلم أكثر من 70 عاما، وهاهو يتحقق وأنا الآن غير مصدّقة أنني أطأ بلاد الحرمين”.. في صالة حجّاج المطار كان المسنّ الهندي محمد كرمان الذي يتجاوز العقد الثامن من عمره، يتّجه إلى بوابة الخروج، كان يسير بخطًى متثاقلة، قال إنّه ظل طوال هذه السّنين يحلم بهذا اليوم الذي سيحجّ فيه، ولكنّ ظروف الحياة منعته تحقيقَ ذلك، وقال أنّ عجزه لن يمنعه أداءَ مناسك الحجّ، بل إنّه يتمنّى أن يموت في مكّة حتى يقف بين يدي ربّه محرما، وعن تكاليف الحجّ قال: لقد جمعت كلّ ما أملك وبعت أغلب ممتلكاتي حتى أصل إلى هذا المكان..”. 

أخي المسلم.. هذه حال إخواننا المسلمين في الهند وباكستان وفي كثير من البلاد، فكيف هي حالك مع الحجّ؟ هل أنت متشوّق له؟ هل تذرف دموع الحرقة وأنت ترى الوفود تنطلق كلّ عام وأنت لازلت مع المخلّفين؟ هل حبسك عن الحجّ حابس الفقر والقرعة أم أنّها الدّنيا الغرّارة هي التي ألهتك وشغلتك؟ لو صدقنا مع أنفسنا لقلنا إنّ الدّنيا الغرّارة هي التي حالت بين كثير منّا وبين الحجّ، المعاصي والذّنوب والغفلة هي التي منعت كثيرا الوصولَ إلى تلك البقاع، يقول الله تعالى: ((وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِين)).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!