-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رحماء بينهم

سلطان بركاني
  • 554
  • 0
رحماء بينهم
ح.م

كثيرة هي المواقف التي سطرها خيار هذه الأمّة، لتعطي أوضح الأدلّة وأروع الأمثلة، على أنّ الجيل الأوّل من خير أمّة أخرجت للنّاس، كان خير أجيالها، ليس بصدق رجاله ونسائه في الولاء لدين الله والنّصرة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فحسب، إنّما أيضا بسلامة صدور بعضهم لبعض، وبالتماس بعضهم العذر لبعض، وقد سجّل التاريخ على صفحاته بأحرف من نور، أنّه ورغم الخلاف الذي وقع بين الصّحابة بعد استشهاد ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفّان رضي الله عنه، إلا أنّ قلوب بعضهم لم تتغيّر لبعض، وولاءهم لدين الله ظلّ راسخا لم يتزحزح، وظلّوا يدا واحدة على كلّ متربّص بأمّة الإسلام.

 في السّنة 36هـ، بعد أن خمدت فتنة الجمل التي أوقد نيرانَها أوزاعٌ من المغرضين وسعى الصحابة ليطفئوها ولكنّ كثرة الهشيم حالت دون ذلك.. بعد أن خمدت الفتنة، أخذ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب –رضي الله عنه- يطوف بين القتلى فرأى طلحة بن عبيد الله ملقًى على الأرض، فدنا منه وجعل يمسح عن وجهه التراب، ويبكي، ويقول: “رحمة الله عليك أبا محمد، يعز عليّ أن أراك مجدولا تحت نجوم السماء”، ثم قال: “إلى الله أشكو عجزي وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة”.. ولما فرغ من الأمر وجلس في مجلسه، دخل عليه عمران بن طلحة بن عبيد الله، فرحّب به علي وقال: “إنّي لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله فيهم: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ))”، فقال رجلان كانا جالسين على ناحية البساط: اللهُ أعدل من ذلك؛ تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانا؟! يقصدان كيف يمكن أن تجتمع في الجنّة مع من قاتلك؟! فقال علي رضي الله عنه: “قُوما أبعدَ أرضٍ وأسحقَها، فمن هو إذا إن لم أكن أنا وطلحة”.. وجاءه ابن جرموز قاتلُ الزبير بن العوام، يستأذن عليه، فحجبه عليّ طويلاً، ثم أذن له، فقال ابن جرموز: أمّا أهل البلاء فتجفوهم، أي أنّك تؤخّر من قاتل معك وأبلى البلاء الحسن! فقال عليّ: “بِفِيك التراب، إنّي لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال اللّه فيهم: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ))”.. وحينما أرادت أمّ المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- أن ترتحل من البصرة إلى المدينة، جهزها علي –رضي الله عنه- بكلّ ما تحتاج إليه، وقال لأخيها محمّد بن أبي بكر: “تجهز يا محمد فبلِّغها”.وتقدّم حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس وودّعوها، وقالت: “يابَنيّ تعتّب بعضنا على بعض استبطاءً واستزادة فلا يعتدّن أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، إنّه والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنّه عندي على معتبتي من الأخيار”، وقال علي: “يا أيها الناس، صدقت والله وبرّت ما كان بيني وبينها إلا ذلك وإنها لزوجة نبيكم –صلّى الله عليه وسلّم- في الدنيا والآخرة”.. فيا الله! أيّ قلوب نقية هذه التي كان الصّحابة يحملونها بين أضلعهم! قلوب كأفئدة الطّير.. كانوا بشرا،يعتريهم كثير ممّا يعتري البشر، ويختلفون، لكنّهم كانوا لا يسمحون للحقد والغلّ بأن يتسرّبا إلى قلوبهم، ولم يكونوا يسمحون لفتّان أن يوقع بينهم ولا لصاحب غرض أن يدخل بينهم.

حينما وقع الخلاف بين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب –رضي الله عنه- وبين معاوية ومن معه من أهل الشّام، وكانت فتنة صفّين، طمع ملك الرّوم في معاوية بعد أن كان أذله معاوية وقهر جنده، وتدانى الروم إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمعوا فيها، فكتب معاوية إلى ملكهم: “والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحنّ أنا وابن عمي (يقصد عليَّ بنَ أبي طالب) عليك،ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت”.. هكذا لم يكونوا يتركون الفرصة لشامت أن يشمت بهم أو يستغلّ خلافهم ليهدّد حصون الإسلام، فضلا عن أن يفكّر أحدهم في مدّ اليد للأعداء والمتربّصين ليستعين بهم على أخيه، كما حصل بعد ذلك في قرون لاحقة، وكما يحصل في زماننا هذا!

فمتى يعي شبابنا المغرّر بهم هذه الحقيقة، ومتى يوقنون بأنّ ما شهد به العليم الخبير لأولئك الأبرار بأنّه ألّف بين قلوبهم، وبأنّهم أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم، هو حقيقة يصدّقها الواقع، وتصدّقها المواقف الساطعة التي سطروها على صفحات التاريخ؟ متى يوقن شبابنا بهذا ليكفّوا عن الرّكون إلى القراءات المغرضة للتاريخ الإسلاميّ التي تصوّره أسوأ تاريخ عرفته البشريّة؟!

يا شبابنا.. عودوا إلى رشدكم.. عودوا إلى عقولكم.. عودوا إلى دينكم، حيث تلتئم في قلوبكم محبّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع آله الأطهار وصحبه الأبرار، وتنطق ألسنتكم بالثّناء عليهم والترضّي عنهم والدّعاء لهم جميعا عملا بقول الله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)).. أرعوا أسماعكم وعقولكم يا شبابنا المغرّر بكم، وتأمّلوا كيف شهد العليم الخبير –سبحانه- للسّابقين بأنّهم يمكن أن يخطئوا لأنّهم بشر، لكنّ أخطاءهم وهفواتِهم مغمورة في بحار حسناتهم، وأوصى اللاحقين بأن يدعوا لهم بالمغفرة ويدعوا لأنفسهم بألا يجعل الله في قلوبهم غلا لأولئك الذين شهد الله لهم بالصّدق في نصرة حبيبه المصطفى، فقال: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا))، وشهد سبحانه بأنّهم جاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم فقال: ((لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم))، وشهد أيضا بأنّه أيّد بهم نبيّه ونصر بهم دينه وألّف بين قلوبهم، فقال: ((وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين))، وشهد بتوبته على من زلّت قدمه منهم في بعض المواطن وبعض المواقف بحكم بشريتهم، فقال: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)).

عودوا إلى رشدكم يا شبابنا.. وتذكّروا يوما تقفون فيه بين يدي الله للحساب، لتروا أبا بكر آخذا بيد عمر بن الخطّاب، وعمر آخذا بيد عثمان، وعثمان آخذا بيد عليّ بن أبي طالب، ومن حولهم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف والحسن والحسين، وغَير بعيد خديجة وعائشة وحفصة وفاطمة، في زمرة الذين اتّقوا ربّهم يساقون إلى الجنّة خلف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويدخلون الجنّة إخوانا على سرر متقابلين.. بينما يُلقى بكم في النّار إن لم تتدارككم رحمة الله، فلا تجدون فيها عمر بن الخطّاب ولا أبا بكر الصدّيق ولا عثمان بن عفان، فتصرخون بلسان واحد: ((مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَار)).. عندها تدركون حجم المؤامرة التي وقعتم ضحايا لها وحجم الخديعة التي تعرّضتم لها، يومها يتبرّأ منكم أهل البيت الأطهار، بل ويتبرّأ منكم المعمّمون الذين غرّروا بكم وذرفوا لكم دموع التماسيح لأجل أن يستأثروا بالأخماس.. يومها تتمنّون لو تعودون إلى الدّنيا لتتبرّؤوا من الكذابين ومن أصحاب العمائم المنتفعين، لكن هيهات.. ((إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار)).

تذكّروا هذا يا شباب، وتذكّروا معه آيات القرآن الكثيرة التي تثني على الصّحابة وتبشّرهم جنات تجري من تحتها الأنهار.. تذكّروا هذا وتذكّروا معه وصية النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- بألا يُسبّ أصحابه، حيث قال: “لا تسبّوا أصحابي، فلو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه”.. ومعها شهادة الإمام جعفر الصّادق -رحمه الله- حينما قال: “كان أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- اثني عشر ألفًا: ثمانية آلاف في المدينة، وألفان من أهل مكّة، وألفان من الطّلقاء، لم يرد فيهم قدري، ولا مرجئ، ولا حروري، ولا معتزلي، ولا صاحب رأي، كانوا يبكون اللّيل والنّهار”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!