-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ســــلامٌ هي حتّى مطلـــع الفجـــر

أبو جرة سلطاني
  • 1191
  • 0
ســــلامٌ هي حتّى مطلـــع الفجـــر
ح.م

سورة القدر مكيّة، عدد آياتها خمس (بعدد الصلوات المفروضة في اليوم والليلة). وعدد كلماتها ثلاثون (بعدد أيام شهر الصّوم). وكلمة “هي” رقمها 27 في ترتيب الكلمات، مما يرجّح فرضيّة أنها الليلة المباركة التي أنزل الله فيها القرآن. عدد حروفها مائة وأربعة عشر حرفا (بعدد سور القرآن الكريم). تكرّر فيها ذكرُ “ليلة القدر” ثلاث مرات بمعدّل تسعة أحرف في كل منها، فيكون مجموعُها سبعة وعشرين حرفا، وهي الليلة الرّاجح أنها ليلة القدر.

لكنّ الذي يهمّنا ليس إحصاء الكلمات والحروف والبحث في الواحد والعشرين، أو في الثالث والعشرين، أو في الخامس أو السّابع أو التاسع والعشرين. استنادا إلى الحديث الذي يرشدنا إلى أنها في وتر العشر الأواخر، فهذا بحثٌ عقيم، لأنّ الأمّة الإسلاميّة صارت متعدّدة المطالع، فالوتر عندنا هو عند غيرنا شفع، ولن ينفعنا الحساب إذا كنّا ننتظر ليلة القدر لنصلح فيها ما أفسدناه السّنة كلها، فهي ليلة التّقدير الزّمني لما سوف يكون عليه حالنا بين سنة مضت وسنة قابلة، وإذا لم يكن حالنا قابلا للإصلاح، فلن تفيدنا ليلة تقدّر فيها الأقوات والآجال.. بتقدير خير من أربع وثمانين سنة، فالخيريّة ليست زمانيّة يترصّدها من يعتقدون أنّ عبادة الله حسابات رياضيّة يرتكب فيها المعاصي إحدى عشر شهرا، فإذا جاء شهر رمضان أمسك عن المحارم كلها، وصار ملكا كريما، فإذا كان يوم العيد أطلق العنان لتبديد ما تمّ جمعه خلال الشهر بانتظار عام جديد.

ليلة القدر سلامٌ على من سلم الناس من لسانه ويده؛ وسلام على من يطيع ربّه، ويبكي ذنبه، ويعتزل الخوض مع الخائضين. وهي كل ليلة يبيت فيها المرء بضميرٍ مرتاح وقلب سليم، وهي كلّ ليلة يشعر فيها الإنسان أنه صار إلى ربّه أقرب ومن الغوغاء أبعد.. وهي خيرٌ من ألف شهر لمن أمسك لسانه عن عيوب الناس، وغضّ بصره عن محارم الله، وطهّر قلبه من النّفاق ولسانه من الكذب وعينيْه من الخيانة وأذنيْه من التجسّس.. وهي خير من ألف شهر لمن عرف مقامه فقام حيث اللهُ أقامه: فاحترم جاره، وكتم أسراره، وستر عورات من سترهم الله، وكفّ جوارحه عن السّوء والفحشاء، وأطعم الطّعام، ووصل الأرحام وواسى المساكين، ومسح على رؤوس الأيتام، واجتنب الظّلم، وعاد المرضى، واعتبر بالموتَى، وتحرّى أكل الحلال ولبْس الحلال، وتواضع للناس وكظم الغيظ، وتجاوز عن قيل وقيل، فلم يغتب غائبا، ولم يخنْ أمانة، ولم يتسقّط كلام السّوقة الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويتلذّذون بما يسمعون، ويتشهّون أخبار السّوء، ويتفكّهون بالفضائح، ويتسامرون على الغيبة والنّميمة والإفك والبهتان.. ثم تجدهم يترقّبون ليلة القدر، قد لا يصادف معراجا يصعد به إلى السّماء فيُردّ على صاحبه، كما في رواية مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّبا.. ثم ذكر الرّجلَ يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ.. يا ربّ، وطعمُه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب له”؟. فلا يغترّنّ مغترٌّ بكثرة صيام وصدقة في رمضان، يُبطلهما بالمنّ والأذى، فقولٌ معروف وكلمة طيّبة وسلامة الناس من اليد واللسان: “خيرٌ منْ صدقةٍ يتْبَعها أذًى”.

كم نحن بحاجة إلى كتاب تُرتّب فيه العبادات والمعاملات ترتيبا مقاصديا، يقوم على أساس ثمرة العبادة عند الله ونفعها للناس، فالصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهل العلاقة بين تكاثر عدد المصلين ـ وهو مظهر طيّب ـ

يتناسب مع تناقص مظاهر الفحشاء والمنكر طردًا أم عكسا؟ والزّكاة طهارة للنّفس، فهل كثرة أفعال الخير والنّفقة ومطاعم رمضان وإفطار عابري السّبيل.. دليلٌ على أنّ منسوب التّقوى قد زاد في الأمّة؟ أم هو نوعٌ من التّكفير عن الذّنوب بإخراج زكاة الرّكاز من مال منهوب ورزق مسلوب؟ والصّيام غايته تحصيل التّقوى، والشّعب الجزائري هو أحرص شعوب العالم الإسلامي على قداسة الشّهر الفضيل، فالإفطار في يومه خيانة عظمى، تُسقط المروءة وتُذهب الشّهادة.. وهو حكمٌ نابع من روح المقاومة الوطنيّة للمستدمِر، بإظهار شدّة تمسّك الجزائري بدينه وافتخاره بانتسابه للإسلام، ولكنّ خلفيته فقهيّة تفصل بين المظهر والمخبر، وتعمّق الفجوة بين العبادات والمعاملات بالمعنى المدرسي القديم، وإلاّ فإنّ كلّ عبادة معاملة، وكل معاملة نيّتها طاعة الله، من شهادة التّوحيد إلى إماطة الأذى عن الطّريق..

قد أكون قاسيّا في طرح بعض الأسئلة، ولكنّها قسوة الجرَّاح الذي يجتهد لاستئصال ورم خبيث في جسم أمّة تحرِّم الخمر وتستبيح الرِّبا، وتعاقب سارق الملاليم وتحمي مختلس الملايين، تقيم الدّنيا ولا تقعدها بسبب أكل لحم الحمير، ولا تتناهى عن أكل لحوم البشر، والله (جل جلاله) يقول: “أيُحبُّ أحدُكمْ أنْ يأكُلَ لحْمَ أخيه ميّتًا فكرهتُمُوه”. ميتّ هنا معناه: غائبٌ عن جلسة الغيبة والنّميمة وشهادة الزّور والكذب والبهتان، فماذا يقول راصد ليلة القدر لربّه إذا سأله: ما دليلك على أنّ فلانا سارق؟ مرتشي؟ زاني؟ منافق؟ عُتِل؟ زنيم؟ ولا أزيد أكثر، لأنّنا صرنا نسمع هذه الأيام ما يُدخل القائل النارَ بأدلّة الكتاب والسنّة وإجماع علماء الأمّة.

ـ فلانٌ سارق خائن منافق عميل.. و.. و..

ـ فلانٌ أكل أموال اليتامى واختلس خزينة الدّولة وهو قارون هذا الزّمان..

ـ فلانٌ قتّال ويداه ملطّختان بدماء الأبرياء..

ـ فلانٌ لا يصلح للقيّادة ولا للشّهادة ولا للعادة ولا للعبادة..

وإذا سألته: هل تعرف فلانا هذا؟ هل عندك من علم تدلّل به على ما تقول؟ هل بين يديك وثائق أو تستطيع إحضار شهود يؤكّدون صحّة ما تقول؟ يكون جوابه: “قاع النّاس يهدرو.!!” نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، مادام كلام المقاهي والملاهي والفايس بوك وسائر وسائل التّواصل الاجتماعي صار شهاداتٍ موثّقة يُنبني عليها حكم. وصار الذّبابُ الإلكتروني مصدرا لتبييض صورة من نحبّ وتسويد سيرة من نبغض، وكأنّ الله أوصانا أن نتحاكم إلى هوانا: من تناولته وسائلُ الإعلام بالتّشويه انخرطنا في حملتها، ومن صنعت منه بطولة شايعناها، فأين عقولنا؟ أين ديننا؟ أين مروءتنا؟ وماذا نقول لربّنا إذا سألنا عن سمعنا وبصرنا وأفئدتنا.. وقد اقتفينا ما ليس لنا به علم؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!