-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سقوط الحضارة الغربية.. حقيقة أم وهم؟

سقوط الحضارة الغربية.. حقيقة أم وهم؟

دائما عندما يمرُّ العالم بحدث مهمّ أو منعرج خطير أو حسّاس تندلع النقاشات والحوارات والدراسات وتتحرك مراكز البحوث والاستشراف لاستقراء وضع العالم والبشرية وإلى أين ستؤول الأمور بالنظر إلى المتغيرات الجديدة والمتسارعة، وسأكتفي في هذا المقال بذكر بعض الأمثلة على سبيل المثال وليس الحصر.

الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008 والتي مسَّت أغلب الدول العظمى ذات النهج الاقتصادي الرأسمالي وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وما تبعها من لغط وجدل حول فعالية وجدوى هذا التوجُّه الاقتصادي.

جائحة كورونا التي ضربت العالم بأسره في العمق بما في ذلك الدول الكبرى في الأرزاق والأرواح والتداعيات النفسية والاجتماعية والعلمية والأمنية كذلك، إذ طرحت إشكالية قدرة وصمود الدول العملاقة في مواجهة هذا الوباء، وهل هي نهاية منظومة بدأت تتهاوى بعدما كشفت كورونا عوراتها ونقاط ضعفها القاتلة؟

ما حدث في الانتخابات الرئاسية 3 نوفمبر بالولايات المتحدة الأمريكية من جدل ولغط بين المعسكرين الديمقراطي الفائز بالانتخابات والجمهوري الرافض للاعتراف بالنتائج التي يتهم فيها خصومه بالتزوير، ما طرح إشكالية نجاعة النظام الانتخابي الديمقراطي في البلدان الغربية التي لطالما تغنَّت بهذا المستوى الذي وصلت إليه من شفافية الصندوق وحرية الاختيار المكفولة للشعب دون غيره.

تتبَّعتُ ردود الأفعال والكثير من الدراسات والتعليقات حول هذه الأحداث الكبيرة الثلاثة في الحكم على المنظومة الغربية التي مسَّتها بالدرجة الأولى هذه الأحداث الثلاثة سالفة الذكر فوجدت أنها انحصرت في ثلاثة توجهات رئيسة:

التوجه الأول: وهو الذي بشر بسقوط الحضارة الغربية التي لم تعد حسبه بتلك القوة ولا بتلك الهيمنة والقدرة على التحكم في الأوضاع العالمية وحتى داخل بلدانها ومنظوماتها، وأنها بداية السقوط، إذ كشفت هذه الأحداث هشاشة منظومتها الاقتصادية التي عجزت أمام الأزمة الاقتصادية، وضعفَ هياكلها القاعدية وعدم تمكنها من المقاومة والصمود كما حدث ولا يزال في جائحة كورونا التي فشلت إلى الآن المنظومة الغربية في احتوائها أو الحد منها وحتى اكتشاف المصل المضاد لها رغم الإمكانات العلمية الكبيرة لهذه الدول، إضافة للأزمات السياسية التي أصبحت تشدها المنظومة الغربية وتجربتها الديمقراطية التي أصبحت تحت امتحان كبير وما أحداث الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية إلا دليل على ذلك.

التوجه الثاني: وهو الفريق الذي حاول تمجيد الحضارة الغربية نافيا أي نظرية أو استشراف يقول بقرب سقوطها أو اهتزاز كيانها وما الأحداث والمنعرجات الخطيرة التي ضربتها إلا أحداثٌ عادية تصيب الحضارات والدول بل وتزيدها قوة وصلابة وتماسكا، ودليل هؤلاء أنه ورغم ما تعرَّضت له الحضارة الغربية منذ أكثر من قرن وما تزال قوية وحاضرة في المسرح العالمي، بل وترسم كل سياساته معتبرين من يرى بعكس ذلك أنها أحلامٌ غير واقعية وتمنيات لا أكثر ولا أقل بسقوط الحضارة الغربية بناءً على توجهات إيديولوجية للحلول محلها.

التوجه الثالث: حاول التقليلَ من حماس الرأي الأول والتبشير المبالَغ فيه بسقوط الحضارة الغربية وكذلك من تطرف الرأي الثاني في تمجيد الحضارة الغربية والمبالغة في تصوير قوتها ونفوذها الذي لن يزول، وحاول هؤلاء دراسة كل موقف على انفراد وحصر تأثيراته على هذه البلدان وحتى تأثيراتها العالمية بكل موضوعية وتجرُّد وبالابتعاد عن كل خلفية إيديولوجية أو موقف شخصي تجاه الحضارة الغربية ومنتوجاتها الحضارية المادي منها والمعنوي.

شخصيا، أنا لست لا مع الفريق الأول ولا مع الفريق الثاني وأعتبرهما موقفين عاطفيين بخلفيات سياسية أو دينية أو إيديولوجية أو مواقف مسبقة من حضارة لها ما لها وعليها ما عليها، ويبدو الفريق الثالث أكثر موضوعية وعقلانية واتزانا، لكن ومهما كانت أدلة كل فريق أو طرف في موقفه من الحضارة الغربية، إلا أن هذا النوع من المواقف ينبغي أن يكون دقيقا وغير متسرع وموضوعي لأن البناء عليه ستكون له تداعياتٌ وقرارات مهمة، ولذلك ينبغي التنبيه إلى الأمور المهمة التالية في التعامل مع هذا الموضوع في صياغة موقف عقلاني متزن مما يدور حولنا في عالم اليوم من تحديات:

إن عملية سقوط أي منظومة أو حضارة لا يمكن أن يكون ضمن فترة وجيزة، فكما أن بناءها يستغرق زمنا حضاريا معتبرا فكذلك السقوط، وعليه فإن الحماس المبالغ فيه في إعلان سقوط بلد أو اضمحلال حضارة ينبغي أن يأخذ في الحسبان عامل الزمن من دون تسرُّع أو حماس زائد.

ينبغي في التعامل مع الحضارات نقدا ودراسة وتقييما واستشرافا أن نبتعد عن الأحلام والرغبات الشخصية والتلذذ بها في تمني سقوط حضارة لا نحبها أو منظومة نكرهها أو امبراطوريات لنا مواقف مسبقة وشخصية منها، بل إن الأمر يتطلب واقعية وعقلانية مشفوعة بالأرقام الصحيحة والتحاليل المنطقية وليست شعارات أو خطبا نرددها ونوهم الناس بها ونبشر بسقوط دول ومنظومات وحضارات هي في الأصل لا تزال قوية ولن يكون سقوطها قريبا أبدا.

إذا لم تكن أنت البديل الحضاري بعدما تسقط هذه الحضارات والدول، فلماذا كل هذا الحماس الزائد؟ ستحل حضارة أخرى محل الحضارة التي سقطت وقد تكون أكثر شراسة وفتكا من التي سبقتها وستكون أنت مجددا الضحية، فبدل هذه الأماني والأحلام ينبغي بناء تجارب ناجحة في بلداننا تكون مؤهلة لكي تكون في المشهد العالمي وعدم الاكتفاء بلعب دور الضحية أو تغليب نظرية المؤامرة.

يجب استحضار أن المنظومة الغربية نجحت في تخطي الكثير من الأزمات بالنظر إلى قوة المؤسسات فيها وتجدُّد الحياة السياسية بفعل الانتخابات الحرة والنزيهة، ولأنها دول عظمى وكبيرة، طبيعيٌّ أن الأزمات تتربص بها ولكنها تخرج دوما منها أكثر قوة وصمودا، لا أقول إنها ناجحة في كل شيء، ولكن بالتحليل العام والمشهد الكبير لا تزال هذه الدول تقدم نماذج ناجحة في التسيير الفعال والصمود الاستراتيجي والتصويب والتصحيح الدائمين.

كل حضارة مهما طالت سيشملها قانون السنن الكونية وستنهار يوما وتقوم على أنقاضها حضاراتٌ أخرى وإمبراطورياتٌ جديدة والتاريخ يخبرنا على ذلك في أمثلة كثيرة، لكن في المقابل لا يمكن قتل حضارة ما تزال موجودة وقوية فقط لأننا لا نحبها أو لنا معها محطات قاتمة أو حسابات يجب تصفيتها، فالسقوط حركة تاريخية قوية ومهمة يجب أن تسبقها إرهاصاتٌ معينة وأحداثٌ وتناقضات ونزاعات وتحركات تمهد للسقوط، لكن وبموضوعية لم نشهد بعد هذه المتغيرات العميقة داخل المنظومة الرأسمالية الغربية باستثناء بعض الأحداث والتي لم تؤثر ذلك التأثير الذي يجعلنا نتحمس أو نحكم على أنها حضارة آيلة للزوال أو السقوط.

إن أغلب المتحمّسين لسقوط الحضارة الغربية والتبشير المتسرِّع والمتعجِّل بهذا الانهيار والزوال هم من منطقتنا العربية ومحيطنا الإسلامي، والذي تناسى أغلبَ مشاكله من فقر وجهل وسوء تنمية وحروب وصراعات وراح يبشِّر بسقوط حضارات لا تزال تزلزل كيان العالم وتتحكم بمصائره الكبرى، وبالتالي على نُخب وأحزاب وحكام هذه البلاد أن يستغرقوا الجهد والوقت والمال والدراسة والعلم والاستشراف في تطوير بلدانهم وتقوية مجتمعاتهم لتقديم نموذج حضاري قادر على المنافسة والصمود في عالم اليوم القوي.

أغلب ملفات الصراع على المسرح العالمي وبخاصة في منطقتنا العربية والإسلامية ما تزال مفاتيحها بيد الحضارة الغربية، كالملف السوري والليبي والعراقي واليمني والصرع العربي الإسرائيلي الذي ما يزال يصب في صالح إسرائيل أكثر من أي وقت مضى في ظل المواقف المحتشمة للصين التي لا يهمها حاليا إلا النمو الاقتصادي وثقافة الإنتاج الغزير أو بعض المواقف والحضور القوي لروسيا في بعض الملفات والتي لم توفق في كثير منها، فكيف التبشير سريعا بزوال أو سقوط الحضارة الغربية وكل الشواهد الأمنية والعسكرية على الأرض توحي بعكس ذلك أو على الأقل لم يحن وقته بعد؟ فالموضوعية الموضوعية والعقلانية العقلانية في دراسة مواضيع حساسة وإستراتيجية مثل هذه الموضوعات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • مهتم

    باسم الله الرحمان الرحيم : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. صدق الله العظيم .
    ضـعـف العالـم الاسـلامـي يتجلـى فـي اقتناعـه بالعلـوم الـشـرعيـة و فقـط دون العمل علـى الـحصـول علـى العلـوم الـدنيويـة. ســلام دكتـور

  • خالد بن الوليد

    سقوط الحضارة الغربية وقيام الحضارة العربية
    سنة 2022م ستحتل الدول العربية المرتبة الاولي في العالم اجمع اقتصاديا وليس الصين ولا رروسيا وا اليابان ولا المانيا ولا ايران الشيعية
    العرب تحركوا منذ مدة قليلة وها هي السعودية تتفوق علي اليابان باليمن وها هي داعش تصدر احدث السيارات والطائرات النفاثة الي اوروبا وامريكا والصين