-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شروط النهضة موضوعنا القديم الجديد

صالح عوض
  • 1223
  • 9
شروط النهضة موضوعنا القديم الجديد

عندما صرخ السيد جمال الدين الأفغاني في الأمة بدعوته من أجل نهضتها وتحررها من الاستعمار والتخلف والعجز واللامبالاة… كانت محاولة فدائية في واقع تيبَّست فيه المعاني والأفهام، ورغم جهوده الجبارة لم يتمكن صوته من الوصول إلا إلى جزء بسيط من المتعلمين في أقطار العرب والإسلام..
التقط الثعالبي صيحة الأفغاني وعبده فكان في المغرب العربي مجددا كبيرا قاد بكفاح مرير عملية التنوير ليعقبه الطاهر بن عاشور المجدد الفذ.. إلا أن الاستجابة الحقيقية لصيحة الأفغاني ودعوة عبده في المغرب العربي تجلت في حركة الامام ابن باديس، ولعل جهود ابن باديس كانت هي الترجمان العملي الأوسع لأفكار الأفغاني وعبده؛ فلقد حوَّل ابن باديس الأفكار النظرية إلى تيار سياسي اجتماعي نهضوي متميز، فكانت النهضة في حالة ابن باديس ملتزمة بمنهج وخطة وتتحرك من مرحلة إلى أخرى تعالج الأفهام والسلوك وتضبط إيقاع الحياة بروح جديدة ومنطق يليق بمستقبل كريم..
وعلى مدار العقود السابقة توالت صيحات النهضة ومحاولات المجددين من علماء الدين ودعاة الإصلاح في مشرق الأمة ومغربها، ولقد لامست في أحيان كثيرة جوهر الأزمة، لكنها ذهبت صيحات تلاشت في مواجهة الواقع بتحدياته، وكان للإمام حسن البنا في مصر محاولة رائدة في كيفية الإجابة على أسئلة النهضة؛ إذ سعى إلى تشكيل نواة مجتمع بقيم حيوية ومفاهيم منتجة لعلها تستطيع فيما بعد تحريك المجتمع نحو التقدم على أكثر من مستوى فتنهض الأمة بنهضة مصر.. وجعل أساس ذلك كله مفهوم الأخوّة والتآخي على قيم الإسلام بعيدا عن كل تصنيفات التقسيم والتجزئة للقيام بنشر أخلاق الفضيلة وحب العمل والحفاظ على معالم الدين.. إلا أن المحاولة الكبيرة لم تكن محصنة بخبرة سياسية كافية الأمر الذي أسقطها في وهدات سياسية ولا بوعي استراتيجي لطبيعة الصراع الدائر -ولجوهره ولأطرافه- في الكون فتعرضت لعمليات تشويه واختراق وإرباك أخرجتها عن نسقها الذي سارت عليه سنواتها الأولى في مواجهة الجهل والتخلف والعصابات الصهيونية والاستعمار الإنجليزي، وانتهت بها إلى حزب كبير، لكنه منهمك باستحقاقات الحزب أكثر من انهماكه بمجموعة القيم والمفاهيم والروح التي انبعث منها ولها.. وتعمق فيه الانفصال بين هموم المجتمع وهموم الحزب ولم تعد النهضة هي المطروحة بعناصرها بل المغالبة في المجتمع مع قوى سياسية واجتماعية أخرى..
تطل “شروط النهضة” في عمل كبير منهجي يستند إلى قوانين وسنن ويلتزم رؤية علمية صارمة.. هي جهدٌ فكري فلسفي للمفكر الكبير المرحوم مالك بن نبي؛ إذ وضع رؤيته للنهضة قبل سبعين سنة متفحصا حال أمته وشعبه ومناقشا بعمق أسباب التخلف والتشتت وفقدان القدرة على امتلاك المبادرة ومجتهدا بدأب لصياغة المصطلحات وبناء التراكيب المفيدة في أن تكون قاعدة انبعاث وإشعاع حضاري..
لقد أفاد مالك بن نبي من مؤسس علم الاجتماع العلامة ابن خلدون في آلية تحليل الظواهر وفهم السنن والقوانين التي تتحكم في نهوض مجتمع وفي انهيار آخر.. ولكنه لم يتوقف عند حدود نظريات ابن خلدون الذي يبدو عليه الاستسلام لِما اطمأن إليه من حتميات الانهيار وكأنه كان يعزي نفسه على ضياع ممالك العرب والمسلمين في شرق الأرض وغربها.. لقد قام ابن خلدون بجهد جبار في تفسير الظواهر وتلمُّس سبيل النواميس في صعود الأمم وانهيارها، ولكنه في كل ذلك كان يبدو قدريا أكثر منه ثائرا فاعلا في مجرى الأحداث، ورغم كل ذلك فلقد كان رائدا في تخصصه الذي أصبح علما مثيرا فيما بعد، ويرجع الفضل لابن خلدون في نهضة علم الاجتماع والنظريات التي انبثقت عنه فيما بعد.
أما الأستاذ مالك رحمه الله، وهو بلا شك متفحص ذكي لهذا العلم ولأستاذه ابن خلدون، فلم يكتف بمعرفة الأسباب والنواميس التي تتحكم في نهضة شعب وسقوط آخر.. بل بحث بدقة عن عناصر النهضة المعاصرة في مجتمعنا العربي وبحث بتمعن عن ظروف ميلاد النهضة وأخذ على عاتقه الإشارة إلى ضرورة الانبعاث الحضاري من جديد منطلقا من فكرة الإنسان والدين وتفاعلها لإنشاء مناخ القيم والأفكار والسلوك الحضاري.. فكان مالك بن نبي مفكرا ثوريا مستندا إلى فهم الواقع ومزودا بأليات تثويره من خلال عملية مركَّبة، فمرة هو يشن حملة على الأفكار المميتة وتمثلاتها في واقع محبِط معطل، ومرة هو يظهر قيمة الفكرة الحية المُحيية وتمثلاتها في تشكل خاص ينطلق نحو فعل حضاري يحدث من خلال تراكم الكمَّ المطلوب لإحداث تفاعل ينتقل بالمجموع من حال إلى ما هو أرقى..
بالتأكيد لم يبق المجتمع العربي أو الجزائري أو الإسلامي على ما كان عليه أيام مالك بن نبي ولم تعد إشعاعات النهضة الحضارية هي تلك التي كانت في زمانه، فلقد تغيّرت شروط واستبدلت أقوام وتقدمت أساليب وتراجعت أخرى.. ولقد تغيرت مراكز الحضارة الغربية من مكان إلى أخر وتبدلت أدواتها وتحدياتها وطبيعة الاشتباك معها كما انسحبت كثير من الأفهام في ساحتنا فيما يخص الخيارات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت رائجة في تلك المرحلة.. إلا أنه برغم كل ذلك لا تزال نظرية الأستاذ مالك بن نبي في ميلاد مجتمع ومعالجاته لمشكلات الحضارة ودعوته إلى نهضة عربية إسلامية نظرية صحيحة في أعمدتها الفكرية وقاعدة انطلاقها.
ما هي شروط النهضة وسبيلها؟ سؤال يطرح بقوة من جديد، ولكن هناك أسئلة أصبحت أكثر إلحاحا من ذي قبل، فمثلا هل لا زالت فكرة ميلاد مجتمع هي الأساس لتحركنا نحو نهضة؟ أم أنه بالإمكان إجراء عملية فكرية على مستوى القمة السياسية والفكرية من خلال إدراك مخاطر من جهة معينة يتم بموجبها تشكيل أفق لحركة شرائح المجتمع في اتجاه تحصيل عناصر النهضة؟ السؤال الآخر: شروط النهضة ما هي مساحتها في منظومة الأفكار التي يجب أن تشغِّل النخب المثقفة والمفكِّرة؟ بمعنى أكثر تبسيطا: هل يمكن للمنجزات المادية في بلداننا أن تُرسي معطيات جديدة تساعد على إنشاء مناخ لتوّلد أفكار النهضة؟
يبقى أن نشير إلى أن منظومة شروط النهضة التي طرحها الأستاذ مالك منظومة فكرية ونخبوية تحتاج إطارا سياسيا على مستوى الأمة والمنطقة العربية بالذات يجعل التكامل والتساند بين أقطار العرب شرطا أساسيا للنهضة، فلا نهضة بدون حمايتها بالتكامل بين الأقطار العربية أو مجموعة منها، وكل محاولة نهضة في قطر من أقطار العرب والإسلام لن يُكتب لها الاستمرار والنجاح إن بقيت محصورة في قُطر معين، ثم لابد من التركيز بقوة على قيمة وأهمية حسابات السياسة في العلاقات الدولية فأي فكرة لا يمكن أن تكون مفيدة لأنها صحيحة ولها صلاحية فقط بل لابد من أن تكون متناسِبة بين الفكرة الأساس في نهضة الشعب والأمة من جهة ومعطيات الواقع الدولي ومخاطره.
شروط النهضة سؤالنا المتجدد تقف قضية فلسطين كاشفا لعناصرها ومشيرة بوضوح إلى إطارها الحضاري وناظمها الأساس.. وهكذا تتشكل جملتنا كاملة: نهضة بنور فلسطين وبجمع طاقات الأمة وتكاملها ووحدتها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • شخص

    مادام المسؤول الأول عن الجامعة يسخر من العلم و من جائزة نوبل، فالقادم أسوء من الحاضر !

  • من المغرب السلام عليكم

    البعض يعقد الامور ويجعل من النهضة مشروع واحد اوحد (ديني..علماني..) والحقيقة ان النهضة قاءمة وان لم تكن تظهر للعيان
    بالفعل هل يكذب الشخص
    ويقول بان عيش المواطن قبل و في مرحلة الاستعمار
    مماتل للعيش اليوم ..لا لا يمكن لقد تطورت عدة امور على المستوى الفردي
    ولكن ما ينقصنا هو عنصر العمل الجماعي و التنظيم
    والذي يفقد كل بلد منا الملايير سنويا لان ليس هنالك تنسيق شامل بين الاطراف.. كل واحد يبني في مكانه والاخر يهدم ويبني ..مشروع منطقة المغرب العربي كمثال لسيطرة الانا على الحكام
    اضاعت رقم معاملات كبير كان سينعكس بالخير من ناحية فرص العمل من ناحية ارتفاع المنافسة وتطور كل البلدان

  • انسان

    الى سعيد 1
    من قال أن الاسلام لا يضمن حقوق الانسان و حقوق الاقليات و الاديان الاخرى؟ الاسلام هو أول من وضع هذه المبادئ و نص عليها.. هل تعلم ان الحاكم في الاسلام لا بكره أحدا على اعتناق الاسلام؟ بل اكثر من ذلك هو مطالب بحماية الاقليات من الاديان الاخرى.. و إذا اردت التأكد عليك أن تتطلع على "وثيقة المدينة" فهي تعتبر أول وثيقة في التاريخ تنص على مبدأ المواطنة. ثم اقرأ تاريخ فتح القدس و كيف تعامل عمر بن الخطاب رضي عنه مع سكانها المسيحيين. ثم اقرأ عن اليهود تحت حكم المسلمين في الاندلس و غيره كثير...
    المشكل اليوم هو أن فقاقيع الفيسبوك اصبحت عند بعض الكسالى مصدر علمي موثوق !!!

  • عبد الواحد

    ماذا يستطيع أن يفعل حزب "إسلامي" في مجتمع ينخره الفساد والطمع والشره، أبناؤه أنانيون لا يعرفون معنى المصلحة العامة؟ أيُّ خير يأتي به حزب "إسلامي" وكل من ينتخبون عليه ينتظرون منه أن يغدق عليهم ويفتح لهم خزائن المال العام؟ ما معنى "المشروع الإسلامي" إذا لم يعني ذلك نقدا نظريا راديكاليا للمفاهيم والتّصوّرات الموروثة التي تعني الدولة والمواطنة؟ ما دُمنا لا نفهم الدولة كتجريد ميتافيزيقي يتجسد فيه ارتقاء الإنسان إلى قمة إنسانيته، مادُمْنا نتصوّر الدولة بمفهوم "اعطيه كيسا من الدراهم!" فلا أمل ولا نهضة وسنظل كما كنا، منذ قرون، غثاء سيل التاريخ الذي يصنعه غيرُنا.

  • عبد الواحد

    ما معنى "المشروع الإسلامي" إذا لم يعني ذلك نقدا نظريا راديكاليا للمفاهيم والتّصوّرات الموروثة التي تعني الدولة والمواطنة؟ ما دُمنا لا نفهم الدولة كتجريد ميتافيزيقي يتجسد فيه ارتقاء الإنسان إلى قمة إنسانيته، مادُمْنا نتصوّر الدولة بمفهوم "اعطيه كيسا من الدراهم!" فلا أمل ولا نهضة وسنظل كما كنا، منذ قرون، غثاء سيل التاريخ الذي يصنعه غيرُنا.

  • عبد الواحد

    لا يدرك قِدَم الداء الذي ينخرنا ولا يعي عمق أزمتنا، وتشخيصه لكارثتنا سطحي، ومناضلوه وكوادره مستواهم الثقافي والروحي لا يختلف عن مستوى العامة ولا يدركون تعقد الأمور وصعوبة المهمة؟ نحن بحاجة لمن يصلح الأرض ويحرث ويزرع أما من يستعجل الحصاد دون تعب... ماذا يستطيع أن يفعل حزب "إسلامي" في مجتمع ينخره الفساد والطمع والشره، أبناؤه أنانيون لا يعرفون معنى المصلحة العامة؟ أيُّ خير يأتي به حزب "إسلامي" وكل من ينتخبون عليه ينتظرون منه أن يغدق عليهم ويفتح لهم خزائن المال العام؟

  • عبد الواحد

    النهضة هي الارتقاء الجمالي والأخلاقي والروحي بالمجتمع ويكون ذلك بالاستثمار الطويل في المواطنين فردا فردا والتضحية والعمل المثابر بصبر وأناة ـــ كما فعل ذلك كبار المصلحين والفلاسفة والربّانيين عبر التاريخ ــــ حتى يصنع ذلك الجهاد إنسانًا عظيما واعيا، عاملا، منتجا، مُضحّيا، منضبطا، وَعْيُهُ الجماعي يطغى على وعيه الفردي. أما الإسلامويون من النوع الذي ابتُلِيت به الجزائر فإن الطمع في الاستحواذ على السلطة واستعجال التمتّع بما تتيحه من إشباع للشهوات هو محرِّكُها، و الأحزاب المتأسلمة هي أدوات للوصول إلى السلطة بانتهازية وشعبوية مقرفة. ماذا يستطيع أن يفعل، وأي تغيير يمكن أن يُنجِزه حزب "إسلامي"

  • عبد الواحد

    المحاولة الكبيرة لم تكن محصنة بخبرة سياسية كافية الأمر الذي أسقطها في وهدات سياسية ولا بوعي استراتيجي لطبيعة الصراع الدائر -ولجوهره ولأطرافه- في الكون فتعرضت لعمليات تشويه واختراق وإرباك أخرجتها عن نسقها الذي سارت عليه سنواتها الأولى في مواجهة الجهل والتخلف والعصابات الصهيونية والاستعمار، وانتهت بها إلى حزب كبير، لكنه منهمك باستحقاقات الحزب أكثر من انهماكه بمجموعة القيم والمفاهيم والروح التي انبعث منها ولها .. وتعمق فيه الانفصال بين هموم المجتمع وهموم الحزب ولم تعد النهضة هي المطروحة بعناصرها بل المغالبة في المجتمع مع قوى سياسية واجتماعية أخرى.. هذا جوهر المقال.

  • سعيد

    الحل للمشاكل التي يتخبط فيها المسلمون من جراء فكر ظلامي و أصولي نشره عبر التاريخ الإسلامي وما يزال ينشره الفقهاء والشيوخ المتشددين من السلفيين و الجهاديين هو العلمانية
    العلمانية تضمن جميع الحقوق للمتدينين و غيرهم و هي تنص على مبدا المواطنة و الوطن عوض الأمة و الخلافة.فالدين الإسلامي و الأديان الأخرى تبقى مصونة محترمة و متقبلة الواحدة للاخرى وتذوب فيها الخلافات المذهبية والعقدية ويبقى التشريع الوضعي و الحرية و المؤسسات المحركات الأساسية للفكر و المجتمع.