-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

صراع الحقّ والباطل .. بين “قوة الحجّة” و”حُجّة القوة”!

سلطان بركاني
  • 965
  • 0
صراع الحقّ والباطل .. بين “قوة الحجّة” و”حُجّة القوة”!
ح.م

الناس في موقفهم من الحقّ مشارب؛ فمنهم من تكفيه نصاعة حجّته ليذعن ويتّبع، ومنهم من يغضّ عقله وفكره عن وضوح الحجّة ويلتفت إلى عدد الأتباع ومكانتهم، ومنهم من يقيس الحقّ بقوته واستعلائه، وهكذا؛ فليس أبو بكر الصديق مثلا الذي سارع إلى اتّباع الحقّ من أوّل وهلة بعد أن أسَرته حجته وسيرة حامله، مثل أبي سفيان الذي تأخّر إسلامه حتى صارت للحقّ قوة وصولة.

لقد أخذ النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام- هذه الحقيقة بعين الاعتبار، وهو يرى أنّ عدد من آمن به خلال مرحلة الاستضعاف بمكّة لم يتجاوز بضع عشرات، فعمل على أن تكون للحقّ صولة وقوة، وجعل هذا الهدف نصب عينيه، وأعدّ له ما أمكنه من أسباب، حتّى بلّغه الله ما أراد، وصارت للحقّ قوة ومنعة؛ فتزايد عدد معتنقيه، ليبلغ في أواخر العهد النبوي أكثر من 124 ألفٍ.

هذه الحقيقة المهمّة، أهملها كثير من العاملين لدين الله، أفرادا وجماعات، في قرن الاستضعاف الأخير الذي نعيش سنواته وأيامه، وظنّوا بلسان واقعهم أنّ الاهتمام بتقوية الحجّة في تأصيل الحقّ والردّ على شبهات المخالفين، كفيل باستعادة أمجاد الأمّة واكتساح العالم.. صحيح أنّ أعداد المعتنقين لدين الله في تزايد مستمرّ، وأنّ الإسلام هو أكثر الأديان انتشارا، لكنّ هذا وحده لا يكفي ليتحقّق المجد الموعود: “ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ الله به الكفر”، بل لا بدّ من التخطيط لامتلاك القوة التي تستميل المنهزمين أمام ضغط المادّة، وتحني رؤوس المستكبرين الذين يحشدون “القوة” بمختلف أنواعها للحيلولة دون وصول حجّة الحقّ إلى النّاس.

في مقابل إهمال كثير من المسلمين لهذا الأمر المهمّ، نرى اليهود لا يولون أيّ اهتمام لقوة الحجة، بل ولا يهتمّون بزيادة معتنقي ما يرونه حقا، لكنّهم يعملون جادّين على تقوية كيانهم، ليخرّ لهم عبّاد المادّة ساجدين، فهم بهذا لا يعرفون لـ”حجّة القوة” بديلا، ونرى الشّيعة يهتمّون بإغراء عامّة المسلمين بمذهب التشيّع، ليس اعتمادا على قوة حجته أو موافقته للعقل والفطرة، لكن بالسعي لامتلاك أسباب القوة والإغراء، وهو ما أثّر فعلا في كثير من الأغيار الذين أغرتهم القوة الإعلامية للكيان الذي يمثّل الشّيعة في العالم عن النّظر إلى ظلمة هذا المذهب وسواده.

لعلّ التجربة الإسلامية السنية الوحيدة التي أثبتت نجاحها إلى حدّ السّاعة هي التجربة التركية، حيث سعى الإسلاميون إلى الأخذ بزمام الأمور وقادوا بلدهم نحو امتلاك أسباب القوة، وسعوا إلى أن يرسّخوا لدى عموم الأتراك أنّ أتباع الحقّ لا يهتمّون بإصلاح دين النّاس وتهيئتهم للآخرة فحسب، إنّما يسعون كذلك إلى إصلاح دنيا النّاس وتحسين معاشهم، ويعتبرون ذلك من آكد القربات التي تُنال بها الدرجات في الآخرة، فأمكنهم ترويض العلمانية المتوحّشة وتقليم مخالبها، وساروا بالبلد رويدا نحو حضنه الإسلاميّ الأصيل.

ينبغي للعاملين لدين الله، أن يجعلوا هذه الحقيقة نصب أعينهم، ويسعوا إلى امتلاك القوة التي تسند الحقّ الذي معهم، القوة المالية والمادية والعلمية؛ فالمؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير.. إنّنا لن نملك العالم بقوة الحجّة، ما لم نسع إلى امتلاك القوة التي تزيل غشاوة الهوى والمادية عن الأعين والأبصار.

إنّنا نرى في واقعنا كيف أنّ الحجّة نفسها، يلقيها الضّعيف المستضعف، فلا تكون في وقعها وتأثيرها بمنزلة ذات الحجّة التي يلقيها القويّ المتمكّن.. إنّه لا غرابة أن تذهب آلاف الخطب التي يلقيها الأئمّة على المنابر والدّعاة عبر مختلف الوسائل والوسائط الإعلامية أدراج الرياح، سوى عند قلّة قليلة من النّاس؛ ليس لأنّ كلّ الأئمّة والدّعاة لا يهتمّون بأساليب التأثير، إنّما لأنّ النّاس ينظرون إلى واقع الدّاعية أكثر من نظرهم إلى خطابه، ليس إلى أخلاقه ومعاملته فحسب، إنّما أيضا إلى قوته وجسارته في الحقّ، وإلى تمكّنه في الواقع، بل إنّ بعض النّاس يزداد توقيرهم للأئمّة والدّعاة كلّما كانوا أكثر مالا وجاها.. ولهذا يمكننا القول إنّ القوة ليست حجّة، والحقّ لا يحتاج إلى القوة ليثبت أحقيته، لكنّه يحتاج إليها ليجبر العقول المتكبّرة والأهواء الجامحة لتسمع كلمته، ويحتاج إليها ليمهّد الطريق لقوة الحجّة لتجد مسارها إلى العقول والقلوب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!