-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

صفقة ترامب.. رُبَّ ضارة نافعة

صفقة ترامب.. رُبَّ ضارة نافعة
ح.م
دونالد ترامب

ربّما كان الرئيسُ الأمريكي دونالد ترامب بارعاً في لغة المال والأرقام ولكنه غير ضالع في التاريخ، وهذا يؤكد احتمال وجود كاتب مفترض من وراء الستار أملى عليه وأوحى إليه ما جاء فيما سُمِّي ظلما “صفقة القرن” التي تمنح لإسرائيل السيادة المطلقة على مدينة القدس وتجعلها عاصمة أبدية لها وغير قابلة للتقسيم.

إنَّ من يطَّلع على بنود صفقة القرن يدرك لا محالة حجم التحريف والتزييف الذي مارسه كتبة هذه الصفقة لتاريخ القدس الذي يُجمع المؤرِّخون على أنه بدأ عربيا وأنه سيعود عربيا كما بدأ، تخلله بصفة قصيرة وطارئة حكمٌ يهودي لم يزد حسب التقديرات والإحصاءات الموثقة عن ثلاث وسبعين سنة في عصر داود وسليمان عليهما السلام قبل انقسام المملكة اليهودية إلى مملكتين شمالية وجنوبية وما أعقب ذلك من صراعات عرقية دموية كان من نتائجها انفراطُ عقد الجماعة اليهودية وتفرقها وتنقلها كرها لا طوعا إلى حياة الدياسبورا كعقاب إلهي لشعب تمرَّد على شرائع السماء وقوانين الأرض فنال جزاءه، شريدا طريدا غير مأسوف عليه “فما بكت عليهم السماءُ والأرض وما كانوا منظرين”.

إن صفقة القرن التي أعلنها ترامب هي تجديدٌ لوعد بلفور أو ما اصطلح على تسميته وعد “من لا يملك لمن لا يستحق”. إن خريطة ما يُسمَّى “إسرائيل” بقدس يهودية واحدة موحدة هي اختراعٌ وابتداع تكذبه كل الوثائق والحقائق عن تاريخ القدس التي جاءتها الجماعات اليهودية مهاجرة ولم تكن بأي حال من الأحوال جماعات أصيلة ومستقرَّة، ومن ثمّ فإنه من الغريب والعجيب أن يطلع علينا ترامب بخريطة كاذبة خاطئة تحرف التاريخ وتزيِّف مساره وتقفز على ما أجمع عليه المؤرخون.

إن التفسير الوحيد لهذه الصفقة هو أن ترامب لا يعترف بمرجعية التاريخ والجغرافيا، ويسعى إلى تأسيس مرجعية ترامبية تقوم على أن منطق القوة يطغى على منطق التاريخ والجغرافيا وأنه هو الأبقى، وهذا يناقض القيم الديمقراطية التي يتغنى بها في اللقاءات والمؤتمرات الصحفية.

إنه من مظاهر الاعتلال النفسي أن يؤمن السياسي بديمقراطية تقترب في مثاليتها من جمهورية أفلاطون ثم يسوِّق للعالم نقيض ذلك، أنموذجا ديمقراطيا رديئا ومبتذلا يسوي بين الجلاد والضحية ويمنح أرضا ومدينة عتيقة عتق التاريخ وهي القدس لكيانٍ استيطاني سرطاني تأسس بقرار ملكي على خلاف كل الكيانات السياسية في العالم القديم والحديث.

ورد في بعض التسريبات الإعلامية بأن ما يسمى “صفقة القرن” قد تمت كتابتها وصياغتها في مخابر إسرائيلية من قبل فريق من “الأحبار الجدد” الذين حرصوا على أن تكون بنود هذه الصفقة مطابقة للوعود التوراتية التي تتحدَّث عن عودةٍ وشيكة لمملكة داوود المسلوبة المسترجعة، وهي أكذوبة تلفها كثير من الخرافات التي لا يؤمن بها إلا جاهلٌ بحقيقة النص الكتابي أو عيٌّ فاقد للعقل لا يملك شيئا من صفات الرشد وملكة النقد.

هناك احتمالان اثنان لا ثالث لهما لتفسير ما سُمِّي “صفقة القرن” التي هي بيقين مظلمة في حق الفلسطينيين وفلسطين وفي حق عاصمتها ودرتها ودرة كل العرب والمسلمين مدينة القدس؛ فإما أن صاحبها جاهلٌ بتاريخ القدس أو أنه كان عالما بذلك أو أحيط علما به ولكنه فضَّل أن يمثل الاستثناء في أدبيات التعامل السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية التي تجعل منه استثناء إنسانا جريئا، مغامرا ومقامرا لا يهمه أن يثور العالم ضده أو أن يُسجل في تاريخه أنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي تجرّأ على فعل ما لم يفعله سابقوه من رؤساء أمريكا الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء بإعلان “صفقة القرن” إرضاء للوبي اليهودي وتعزيزا لحظوظه في الفوز بعهدة رئاسية ثانية يعلم علم اليقين بأن لهذا اللوبي اليهودي دورا حاسما فيها تماما كما فعل في عهدته الأولى التي نقلته من عالم المال والأعمال إلى عالم السياسة ومن قلعته المسماة “قلعة ترامب” إلى التربع على عرش البيت الأبيض.

لا أظن أن من أوحى إلى ترامب تفاصيل “صفقة القرن” المزعومة بإمكانه أن يغيِّر تاريخ القدس الذي يمتدُّ إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، فقد كانت القدس قبل الوجود اليهودي بقرون طويلة موطنا لليبوسيين وهم بطن من البطون الكنعانية العربية، وكانت القدس موطنا كذلك لقبائل “فلستا” أو “الفلستيون الإيجيون” نسبة إلى بحر إيجة، الذين احتلوا بعض السواحل السورية العليا في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد على نحو ما يذكر أحمد سوسة في كتابة “العرب واليهود في التاريخ” والتي يقال إن اسم الفلسطينيين مشتقّ منها.

من الحقائق التاريخية التي يجب أن يعرفها ترامب هي أن معركة القدس كانت كرا وفرا، لم تصمد فيها الجماعات اليهودية طويلا ولم يستقر لها فيها حال ولم يهدأ لها بال وكانت -أي القدس- شاهدا على هزائمهم المنكرة والمتكررة التي يسجِّلها العهد القديم في مرثية حزينة يتبرأ فيها الإله الغاضب من شعب متقلب المزاج، صلب الرقبة.

ومن الحقائق التاريخية التي يجب أن يعرفها ترامب هي أن الوجود اليهودي في القدس كان وجودا عابرا ملفوفا بكثير من العبر ودروس القدر التي تلقاها شذاذ الآفاق على يد حاكميهم. فماذا تمثل مدة 73 سنة من الحكم اليهودي إذا جمعنا فترة الأربعين سنة التي حكم فيها داود عليه السلام الذي أسس ما يسميه العهد القديم مدينة داود إلى فترة ثلاث وثلاثين سنة التي حكم فيها ابنه سليمان عليه السلام؟. ماذا تمثل هذه السنون المعدودة من تاريخ عربي كنعاني يمتد إلى خمسة آلاف سنة؟. أقول “الحكم اليهودي” في الحديث عن مرحلة داوود وسليمان عليهما السلام بناء على ما تقرره الوثائق اليهودية مع أنني أرى بأن داوود النبي وابنه سليمان عليهما السلام اللذين كانا مثلا أعلى في صدق النبوة وكمال السيرة وصفاء السريرة لا يحق أخلاقيا وأدبيا أن تنتسب إليهما جماعاتٌ شاردة متمردة سرت في طباعها صفات قطاع الطرق الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه ولا ينبض لهم عرقٌ ولا يصدح لهم لسانٌ بحق.

ومن الحقائق التي يجب أن يعرفها ترامب أن القدس ليست هدفا سهلا ولا لقمة سائغة يمكن التهامُها بجرَّة قلم أو طيّ تاريخها العربي الموغل في القدم بما سمِّي “صفقة القرن”. إنها المدينة العصية التي حافظت على عروبتها وإسلامها وتحطمت على أسوارها أحلام الغزاة وستبقى كذلك إلى أن يأتي الوقت المعلوم الذي تخرج فيه من كنانتها الجماعة الصابرة المرابطة التي ترفع عنها ظلم السنين وظلم بني صهيون الذين عاثوا فيها فسادا ونشروا عيونهم عند أبواب المساجد ومداخل الكنائس، يعنفون المصلين ويصدون عن السبيل.

ومن الحقائق التي يجب أن يعرفها ترامب أن موعد الحسم لم يحن بعد وأن القدس لم تبح بكل أسرارها ولم تُبدِ ما في كنانتها، وأنه رُبَّ ضارة نافعة؛ فـ”صفقة القرن” ستكون عاملا محفزا يزيد المقدسيين إيمانا بقضيتهم وتمسُّكا بقدسهم التي ستكون معركتها هي النقطة الفاصلة التي تنبئ عن اقتراب الوعد الحق “فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا”.

ومن الحقائق التي يجب أن يعرفها ترامب هي أن قيم السلم هي التي تنتصر في النهاية، لا “صفقة القرن” ولا تراجيديا “هرمجدون”، وأن القدس مدينة السلام ستنتفض في اليوم المعلوم انتقاما ممن شوَّهوا تاريخها وساسوا أهلها الأحرار بسياسة الحديد والنار.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!