-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عسى أن يكون خيرا

سلطان بركاني
  • 4071
  • 13
عسى أن يكون خيرا

تقول إحدى الفاضلات: كنت في المسجد الحرام فرأيت امرأة عجوزا تصلّي وتبكي وترفع يديها وتدعو بحرقة لم أرَ مثلها من قبل، فاقتربت منها وجلست بجوارها وسألتها: مالك أيتها الأم؟ أراك تبكين بحرقة فما القصة؟ قالت العجوز ودموعها تنهمر: أبكي خوفا من عقاب الله وعذابه. قلت: لماذا؟ قالت: كان لي زوج أعيش معه في مودّة ورحمة، إلا أنّ الله لم يرزقني منه الولد، ما عكّر صفو حياتنا، فأشفقت عليه واقترحت عليه الزواج من امرأة أخرى، ولكنه رفض بشدّة، فألححت عليه أياما وشهورا حتى وافق، فتوجهت معه وذهبنا لخطبة إحدى النّساء، وتمّ الزواج…

لم تمرّ على الزّواج سوى أيام معدودات، حتى بدأت نار الغيرة تضطرم في صدري، خاصّة أنّي أحسست بأنّه يميل إليها أكثر منّي، وبدأ ميله يظهر أكثر عندما رُزق منها بطفل جميل. كظمتُ مشاعري في صدري إلى أن جاء ذلك اليوم الموعود، يوم أخبرني زوجي أنه سيذهب في سفر مع زوجته الجديدة، وأنه سوف يترك الولد معي، وافقت دون نقاش لأنه لا أحد غيري يعتني بالطفل، وفى يوم السفر الأول كان الولد أمامي يلعب في ليلة شتاء باردة، فأشعلت بعض الحطب كي أدفئ الغرفة. كان الولد يلعب، وكانت نار الغيرة تأكل قلبي، تقدّم الولد إلى المدفئة وأمسك بالجمر، فأسرعت إليه ولكنّي بدل أن انتزع يده من النار وضعتها فيها حتى احترقت، فهدأت نار قلبي ولكنها لم تنطفئ، ثمّ ما هي إلا ساعة حتى جاءني خبرٌ يا له من خبر! زوجي وزوجته الثانية أصيبا في حادث وماتا معا. وجدت نفسي وحيدة ليس لي غير هذا الطفل مشوّه اليد. توالت السّنوات وعانيت ما عانيت، وكبر الطّفل، أحببته وأحبني وأصبح هو المسؤول عنّي، هو من يرعاني ويرعى طلباتي. كان يعاملني بلين ورفق ويراقب الله في معاملتي، كان يناديني يا أمي، وفي كلّ مرّة يناديني أمّي كان قلبي يعتصر من الحزن، وفي كلّ مرة أرى فيها يده المشوّهة ينخلع قلبي وأبكي ولا أعلم مِن دون هذا الطفل الذي صار شابا كيف تكون حالي.

إنّها قصّة يختصر العبرةَ منها قولُ الله -جلّ وعلا- في كتابه الكريم ((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون))؛ فكثيرا ما يستعجل الإنسان في هذه الحياة، وينسى أنّ لهذا الكون خالقا مدبّرا عليما حكيما، حنانا منانا جوادا كريما، يستعجل الإنسان ويرى في كلّ ضيق وبلاء ينزل به شرا محضا لا خير فيه، وتسوَدّ الدّنيا في وجهته، وربّما يقوده الشّيطان إلى التسخّط على قضاء الله وقدره.

ربّما يبتلي الله عبدا من عباده بالفقر، فيغفل عن حكمة الله في ذلك، ويظنّ أنّ الله حرمه ما فيه مصلحتُه وما فيه خير دنياه وأخراه، ((وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاّهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن))، فيحزن ويغتمّ ويتنكّد عيشه ويظنّ السّوء بربّه الكريم، وهو لا يعلم أنّ الغنى سيفسد دينه ودنياه، ثمّ لا يزال يلحّ في طلب الدّنيا، فيفتح الله له بابا من أبواب الرّزق، ويغدق عليه، فينسى ما كان عليه من حال الفقر، وينسى شكر ربّه الكريم، بل ربّما يلهيه ماله عن الله وعن الصّلاة، وربّما ينفق ماله في معصية الله، ولو بقي فقيرا صابرا لكان خيرا له من ذلك الغنى الذي أطغاه وألهاه. ((وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُون)).

ربّما يبتلي الله عبدا من عباده فيحرمه الذرية والأولاد، فيتضجّر ويتبرّم، ويظنّ السّوء بربّه الكريم، وهو لا يعلم أنّ الله ربّما ما حرمه إلا لأنّه يعلم أنّ الذرية ستكون سببا لتعاسته في الدنيا وخسارته في الآخرة، لأنّه لن يحسن تربيتها وتأديبها.

لأجل هذا ينبغي للعبد المؤمن أن يكون راضيا باختيار الله، مسلّما لقضائه، فرُبّ منحة في محنة، ومحنة في منحة، وربّ مرغوب في مكروه، ومكروه في مرغوب.

لا يدري العبد المؤمن أين يكون الخير وأين يكون صلاح أمره؟. في الشدّة أم في الرّخاء؟ في العافية أم في البلاء؟ لا تدري المؤمنة أين يكون صلاح دنياها وأخراها؛ في الزّواج أم في العنوسة؟ مع الزّوج الفقير أم مع الزّوج الغنيّ؟ مع الذرية أم مع العقم؟ وأيّ شيء في حياة العبد المؤمن لم يعجبه ربّما يكون هو أعظم خير في حياته. وأيّ شيء في حياته أعجبه واطمأنّ له ربّما يكون سبب بلائه في الدّنيا أو في الآخرة: ((وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون)).

فعلى العبد المؤمن أن يسعى لتحصيل ما يراه خيرا ودفع ما يراه شرا، وأن يتوكّل على الله، ويقدّم ما أمكنه من الأسباب المشروعة لذلك، فإن وقع شيءٌ على خلاف ما يحبّ، فليتذكرْ هذه القاعدة القرآنية العظيمة: ((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون))، ولْيُسلّم أمره لله وليرض باختياره، ولْيحسن الظنّ بربّه الكريم، ولْيصبر، وسيرى من ربّه الحنّان المنّان ما ينفعه ويرضيه. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
13
  • جلال

    لقد قال أحد المفكرين ما معناه : لقد وضعت أدوات الحرب القديمة في المتاحف ولكن لا زالت تحكمنا مع الأسف أدوات المعرفة والأفكار المصاحبة لها.وقال آخر :هذه المعضلة الكامنة وراء هزائمنا المتلاحقة ووضعنا المتخلف،وهو إصرارنا على التمسك بالنظم المعرفية والأدوات المعرفية في القرون الهجرية الأولى، وفهم الإسلام من خلالها.من خلال العقيدة الجبرية وفلسفة الإستبداد كما قال الكواكبي: لقد ألفنا ترك الحقوق سماحة وقبول الإهانة تواضعا والرضى بالظلم طاعة وحرية القول وقاحة وحرية الفكر كفرا....

  • متسائل

    هناك منطق المؤمنين و الراسخون في العلم هناك منطق الرسل و الانبياء و هناك منطق التابعين و هناك منطق ايماني و هناك منطق المرتابين المشككين و هناك منطق نابع من عقل و قلب سليم و منطق نابع من قلب و عقل مريض فما تفسيرك لترك ابراهيم عليه السلام لزوجته و ابنه بواد غير ذي زرع ؟اهو المنطق الايماني و ماهو منطق محاكم التفتيش و محارق اليهود و تعذيب الجزائريين ؟اهو منطق العنصرية الاستعلاء الظلم ؟ما هو منطق الاسراء و المعراج لدى عين لا ترى و لا تدرك ؟ و الاية اعلاه يصف الله بها عباده المؤمنين و ليس مرضى القلوب

  • صالح الشاوي

    شكرا استاذي الكريم..قصة مؤثرة فعلا ومقالكم رائع.

  • بدون اسم

    الله يهدينا

  • r

    المنطق هو الطريق الوحيد للعقل
    لا يوجد منطق في كلمة سمعنا و اطعنا الا اذا سبقها الفهم و القناعة
    فمن يسمع و يطيع من دون ان يفهم فلا عقل له وطاعته غباء
    هذا هو المنطق فلا يوجد منطقين
    لكل شيئ مفهوم واحد

  • الموسطاش

    شكرا أستاذ كنت أود أن أشكرك في المقال السابق حول الفتنة بين السنة والشيعة و كان مقالا رائعا أيضا !
    ما احوجنا إلى مقالات الحكمة و الموعضة الحسنة ، مقالات الجمع و الاعتصام
    شكرا مرة أخرى !

  • متسائل

    البشر و الحمد لله حباهم الله بعقل تجارب و فطرة يدركون صدق النصيحة من عدمه فلا تهن صنع الخالق ... اما المنطق فيختلف فما هو منطقي لك ليس منطقي لي و ما هو منطقي في هذا الموقف ليس منطقي في موقف اخر و ما هو منطقي في زمان مضى ليس منطقي في زمن حاضر ... فالاسلام هو التسليم لرب قوي حكيم رحيم علام و الايمان برب يربيك ليما يصلح لك دنيا و اخرة ... و قالوا سمعنا و اطعنا غفرانك ربنا و اليك المصير ...

  • نصيرة/بومرداس

    لكن المجتمع ظالم ويقسو على الفقراء وعلى من لم تتزوج وعلى من لا يكون له اولاد ..الخ ناسين ان الله هو من يعطي فيغضب الانسان ويسخط على قدره.......نسال الله ان يرزقنا جميعا بالخير.

  • فتحي السعيد

    لو كنت قربها لنصحتها ان تضع نفسها امام العدالة اولا قبل يوم القيامة .

  • r

    كل القصة تكمن في الفكرة الواضحة
    فعندما ننصح بعضنا يجب ان نوضح لماذا هذه النصيحة
    فما المغزى من النصيحة ان لم يكن مفعولها واضح امام المنصوح بها
    الوعي بالاشياء يكشف الغطاء عن المسميات التي تحمل مفاهيم بائت منسية
    مثلا عندما انصحك بالواقع و بالمنطق بعيدا كل البعد عن الغيبيات ساقنعك
    و عندما انصحك بالغيبيات الغير منطقية بعدا كل البعد عن الواقعية فلن اقنعك
    النصيحة كحساب الارقام تبدء من رقم 1 و تنتهي عند رقم 9 شروق و غروب
    ليلة هادئة ثم صباح مشرق يوم جديد نصيحة نهار انيق الى حد الغروب
    ايضاح السبب لغة عقل

  • mostafa

    بارك الله فيك يا أستاذ

  • radia

    يجب أن نؤمن أن كل ما قدره الله لنا هو خير لنا في دنيانا و آخرتنا و حسن الظن بالله هو مفتاح الرضا.

  • عائشة

    بارك الله فيك يا أستاذ