-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عشر ذي الحجّة.. أيام ليست كباقي الأيام

سلطان بركاني
  • 2903
  • 0
عشر ذي الحجّة.. أيام ليست كباقي الأيام
ح.م

شهران مضيا بعد رحيل رمضان، ولفّشهر الإحسان في طيّ النّسيان، وانقطعت أخباره ودفنت أسراره ونسيت أنواره، وعاد كثير منّا إلى ما كانوا عليه قبل رمضان. عادوا إلى الغفلة عن الطّاعات والقربات، بل ربّما إلى المعاصي والمحرّمات.. نسي كثير منّا عهدهم مع رمضان، بل ربّما نسوا عهدهم مع الله الواحد الديّان، الذي ما خلقهم إلا ليعبدوه: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون))، وأخذ العهد عليهم أن يجعلوا حياتهم كلّها له وحده: ((قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين)).
الغفلة طبع في الإنسان، لكن أن تصل بالعبد المؤمن إلى درجة يتكاسل فيها عن الفرائض والواجبات، ويصرّ معها على مواقعة المحرّمات، فهذا لا يليق أبدا بعبد مؤمن لا يدري متى يوافيه الأجل، ومتى يزوره ملك الموت زيارة تقطع عنه كلّ أمل.
لعلّ كثيرا منّا أضاعوا صلاة الصّبح فلم يصلّوها في وقتها منذ رحيل رمضان، ولعلّ كثيرا منّا نسوا المساجد بعد رمضان وصاروا لا يأتونها إلا للجمعات، ولعلّ كثيرا منّا نسوا الصّيام فلم يصوموا يوما واحدا بعد رمضان وبعد الستّ من شوّال، ولعلّ كثيرا منّا نسوا القرآن فلم يختموه ولو مرّة واحدة منذ رحيل رمضان.. فلماذا كلّ هذا الفتور؟.. إنّ الحياة لا ولن تطيب إلا بطاعة الله.. إن لم تشتق أخي الحبيب إلى المسجد فإنّه والله ليشتاق ويحنّ إليك، بل إنّ ربّك – جلّ وعلا – يحبّ أن يراك في بيته، يحبّ أن يراك تجيب نداءه، وتتلو كتابه في بيته، ويحبّ أن يراك تصوم طلبا لمرضاته، وتمدّ ديك بالصّدقات رغبة فيما عنده، ((إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُور)).
في مقابل هذه الحال وهذا الواقع، لعلّ منّا من اشتاق إلى رمضان، واشتاق إلى أيام الجوع والصّيام، وليالي التراويح والقيام، لمن هذه حاله نقول: إنّ اللّطيف بعباده، ومن لطفه -جلّ وعلا- بهم أنّه جعل لهم مواسم كثيرة تهبّ فيها نسائم الرّحمات، وتضاعف فيها الحسنات وتغفر الخطيئات، وتلين فيها القلوب والأرواح لعالم الخفيات، يقول نبيّ الهدى صلى الله عليه وآله وسلّم: “افعلوا الخير دهركم، وتعرّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمّن روعاتكم”.. نفحات تهبّ في أيام ومناسبات شرّفها الله، لعلّ من أعظمها تلك التي تهبّ في العشر الأول من شهر ذي الحجّة، هذه العشر التي حلّت بنا مع أذان المغرب يوم أمس الخميس؛ أيام ليست ككلّ الأيام، بل هي أفضل الأيام عند الله جلّ وعلا، يقول المصطفى صلوات ربّي وسلامه عليه: “أفضل أيام الدنيا أيام العشر، يعني عشر ذي الحجة”.. أيام أقسم الله -جلّ وعلا- بلياليها في كتابه فقال: ((وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْر)).. أيام جعلها الله أيام ذكر وطاعة فقال تقدّست أسماؤه: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات))، والأيام المعلومات في هذه الآية هي أيام العشر الأول من شهر ذي الحجّة.. أيام يجتمع فيها من العبادات ما لا يجتمع في غيرها؛ تجتمع فيها الصلاة والصيام والصدقة والحج.. فياالله، ما أشدّ حرمان من يغفل عن مثل هذه الأيام!
أيام يتوب الله فيها على من تعرّض لنفحاته، ويضاعف له أجور الصّالحات، يقول النبيّ المجتبى عليه الصّلاة والسّلام: “ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ يعني أيامَ العشر”. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجعْ من ذلك بشيء”.
أيام حقّق بعض العلماء أنّها أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان. ما يعني أنّ العبد المؤمن يستطيع أن يعيش نفحات رمضان في هذه الأيام.. فيقضيها بين صيام وقيام، وذكر وقرآن، وصدقة ودعاء.. بل ربّما تكون هذه الأيام بداية حياة جديدة يعيشها العبد المؤمن، يطلّق فيها الغفلة ويقبل على ربّه الغفور الرّحيم الحنّان المنّان.
هي فرصة لكلّ متحسّر على فوات رمضان، ولكلّ عبد يريد أن يتوب إلى الله الواحد الديّان، ويبدأ صفحة جديدة في حياته مع الله في أيام هي أفضل وأكرم الأيام على الله، ومن يصدقِ الله يصدقْه.
إنّ الحرمان منتهى الحرمان أن يضيّع العبد المؤمن أمثال هذه الأيام، وترحل يوم ترحل وحاله هي حاله، وقلبه هو قلبه.. لأسأل نفسي، ولتسأل نفسك أخي المؤمن: ما الذي يجعلنا نغفل عن مثل هذه الأيام؟ ما الذي يجعلنا نزهد ونرغب عن هذه الفضائل وهذه الخيرات؟ بل ما الذي يجعلنا نغفل عن موازين أعمالنا؟ تتصبّب الوجوه عرقا، وتتشقّق القلوب فرقا.. تهزل الأجساد وتجحظ العيون لهثا وراء حطام الدّنيا وسعيا لبناء مستقبل لا ندري كم سنحيى فيه، ولا نبالي بمستقبل الآخرة حيث الدّوام والخلود.. لعلّ أحدنا لو علم أنّ ميزان حسناته فارغ تماما لما حزن ولما دعاه ذلك إلى العمل.. بينما يحزن الواحد منّا ويهتمّ إذا استطلع رصيده في الحساب الجاري فوجده فارغا ربّما لأنّ الراتب تأخّر ليوم أو يومين.. فما الذي دهانا وما الذي أصابنا؟لو أحسّ الواحد منّا بألم بسيط في جسده لسارع إلى الطّبيب وترجّاه أن يدقّق الفحص وأن يكتب له من الأدوية ما ينفعه ولو كلّفه ذلك أمواله كلّها، بل ولو كلّفه ذلك أن يبيع أثاث بيته، بل ولو كلّفه ذلك أن يريق ماء وجهه ليستدين أو يستعطف المحسنين. فلماذا لا نهتمّ بمداواة قلوبنا وأرواحنا كما نهتمّ بمداواة أجسادنا؟
نفحة من النّفحات ونسمة من النّسمات تهبّ علينا هذه الأيام، فيا ترى من منّا سيتعرّض لها؟ هي فرصة من أحسن استغلالها سيكسب بإذن الله خيرا كثيرا.. لربّما ينظر الله -تبارك وتعالى- نظرة رحمة إلى أحدنا وهو يجتهد في القرب منه في هذه الأيام ويرى منه الصّدق والحرص على رضاه، فيكتب له رضوانه ويتقبّله في الصّالحين ويفكّ أسر قلبه من سجن الدّنيا.
إنّ أيّام ذي الحجّة أيّام صلوات ودعوات.. أيّام صيام وتسبيح وتهليل وتكبير ومشاركة للحجّاج في دعائهم وابتهالهم.. فلنحرص على الإكثار من الطّاعات والقربات عسىالله أن يتقبل منا ويغفر ذنوبنا.
من كان متهاونا في صلاته، فلتكن هذه الأيّام بداية له لإصلاح حاله مع هذا الرّكن العظيم من أركان الإسلام، ومن حرم قيام الليل في ما مضى، فلتكن هذه الأيّام بداية له ليذوق حلاوة القيام بين يدي الله في وقت السّحر، ومن حرم لذّة الصّيام في غير رمضان فلتكن هذه الأيّام بدايته ليذوق لذة الجوع طلبا لمرضاة الله.. ومن حرم لذة الإنفاق في وجوه البرّ والخير فلتكن هذه الأيام بداية له لينعم بلذة الإنفاق في وجوه الخير.
إذا كان الفرح في عيد الفطر ما شرع إلاّ ليشكر العبد المؤمن ربّه على التوفيق لصيام شهر رمضان وقيام لياليه، فإنّ الفرح في عيد الأضحى أيضا ما شرع إلاّ ليشكر العبد المؤمن ربّه على التوفيق لفعل الطّاعات والقربات في أيام العشر من ذي الحجّة، فبماذا سيفرح من غفل عن هذه الأيام؟ بماذا سيفرح من غفل فيها عن الصّدقة والصّيام والقيام؟ بماذا سيفرح من تزوّد فيها من الأوزار الآثام؟ إذا كانت أجور الأعمال الصّالحة في مثل هذه الأيام الفاضلة تضاعف، فإنّ أوزار المعاصي أيضا تضاعف: يقول ابن عباس رضي الله عنه: “اختصّ الله أربعة أشهر جعلهنّ حرماً، وعظّم حرماتهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ أعظم، والعمل الصّالح والأجر أعظم”. فالحذر الحذر يا عبد الله.
إذا كنّا قد حرمنا أن نكون هذه الأيام هناك في البقاع الطّاهرة المكرّمة مع حجيج بيت الله، نحرم ونلبّي وندعو ونسبل الدّمعات، ونطوف ونسعى ونقف بعرفات ونرمي الجمرات، فلا ينبغي أبدا أن نُحرم روحانيات ونسمات الحجّ هنا.. إذا كنّا قد حرمنا أن نكون هذه الأيام هناك بين الحجيج بأجسادنا، فلنكن معهم بقلوبنا.. إذا كنّا قد حرمنا الوصول إلى البيت العتيق، فلا ينبغي أبدا أن تحرمنا أنفسنا الوصول إلى ربّ البيت العتيق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!