-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
فتح لي أبواب الصحافة وأنا طالب جامعي

علي فضيل.. وداعا أيها الهِزبر

حسين لقرع
  • 1606
  • 2
علي فضيل.. وداعا أيها الهِزبر
أرشيف
علي فضيل رحمه الله

عندما قابلتُ الأستاذ علي فضيل في أواخر عام 1990 بمقرّ جريدة “المساء” التي كان نائبَ رئيس تحريرها، كان أقصى طموحي هو أن ينشر لي مقالاتي التي شرعتُ في كتابتها كقارئ عن الأوضاع السياسية التي كانت تعيشها البلاد آنذاك، وكنتُ حينها طالبا في السنة الثالثة جامعي، لكن الأستاذ علي فضيل اختصر عليّ الطريق؛ فبعد أن نشر لي سلسلة مقالات في صفحة “الرأي” عرض عليّ التعاونَ مع جريدةٍ أسبوعية ستظهر قريباً وسيشرف على إدارتها العامّة، وكان لدعمه المعنوي الكبير أثرٌ بالغ في مسيرتي المهنية التي بلغت إلى الآن 29 سنة، للأستاذ علي فضلٌ كبير فيها باعتباره أوّلَ من فتح أمامي أبواب الصحافة على مصراعيها وأنا لم أتخرّج بعد في الجامعة.

لم أشتغل في تلك الأسبوعية سوى أشهر معدودة متقطّعة قبل أن تبدأ مسيرتي الحقيقية فور إعلان الأستاذ علي فضيل، في أواخر جانفي 1991، تأسيس أسبوعيةٍ وطنية مستقلة شاملة أسماها “الشروق العربي”، وعرض عليّ الانضمام إلى طاقمها الشاب فلم أتردّد لحظة واحدة، وشرعنا في التحضير لها أسابيع عديدة إلى أن ظهر العددُ التجريبي في 11 مارس 1991، ثم العدد الأول في 11 ماي 1991، وبدأت الجريدة تصدر بعدها بانتظام وتكسب بسرعة جمهورا عريضا من الجزائريين، بفضل حنكة مديرها الذي تمكّن من الجمع بين المواضيع الشبابية والاجتماعية والفنية والسياسية في جريدةٍ واحدة، وكانت الواجهة فنّية واجتماعية، لكن الجوهر كان الدفاع عن ثوابت الشعب وقيمه ضدّ موجة الفرْنَسة والتغريب والعلمَنة التي اكتسحت الساحة في التسعينيات واتخذت من مكافحة الإرهاب والتطرّف ذريعة لشنّ حرب شعواء جائرة على قيم الجزائريين ولغتهم وتراثهم.

وبسبب هذا التوجّه الأصيل، لاقت “الشروق العربي” ومديرُها علي فضيل الكثير من النَّصب والأذى، إذ سُجن في جوان 1992 رفقة الأستاذ سعد بوعقبة بسبب مؤامرةٍ كيدية نسجها ضده فرنكوش السلطة الذين ترجموا للرئيس الراحل محمد بوضياف “صيحة” السردوك بوعقبة بشكل مغرِض وأضافوا إليها الكثيرَ من “عِندياتهم”، لأنّ خطّ الجريدة المتمسّك بثوابت الجزائريين ودعوتها منذ بداية الأزمة إلى اعتماد الحوار والمصالحة حلا وحيدا لها، لم يُعجب هؤلاء الاستئصاليين، فكادوا للجريدة، ونجحت المكيدة وأمر بوضياف بسجن الرجلين، وحكمت عليهما المحكمة الابتدائية بـ4 أشهر حبسا نافذا، وتعرّضت “الشروق العربي” إلى أول محنة قاسية، لكن التفاف جمهور واسع من الجزائريين حولها وتضامنهم معها خفّف عنها قسوتها، ثم فشلت مؤامرة الفرنكوش وحكم مجلس قضاء الجزائر ببراءتهما، وتصاعدت شعبية “الشروق العربي” حتى بلغ رقمُ سحبها 335 ألف نسخة، وهو رقمٌ قياسي لم تبلغه أيّ صحيفة في ذلك الوقت، وكان لذلك بالغُ الأثر في إحداث التوازن مع الصحف اليومية الناطقة بالفرنسية والتي اتخذت من الدعوات إلى الاستئصال والإقصاء ومعاداة الحوار والمصالحة الوطنية نهجا لها طيلة التسعينيات، وكادت تنفرد بالساحة الإعلامية في ظل توقيف عشرات الجرائد الناطقة بالعربية ظلما وتعسفا، لولا وجود “الشروق العربي” التي لم تتردّد لحظة واحدة في المنافحة عن دين الأمة وقيمها ولغتها، وكان مديرُها علي فضيل يكتب بين الفينة والأخرى في ركن “منشاريات” والصفحات الوطنية، ليشدّ أزرنا نحن الصحفيين الشباب ويساعدنا في التصدّي لهذه الحملة الشرسة على قيم الشعب وثوابته.

وبسبب الإصرار على الدعوة إلى الحوار من دون إقصاء والمصالحة حلا وحيدا للأزمة، تعرّضت “الشروق العربي” لمحنةٍ ثانية في 1997 بعد أن أقدم رئيسُ الحكومة آنذاك أحمد أويحيى على إيقافها ظلما وعدوانا بذريعة أنها لم تدفع مستحقات المطبعة، ولجأ علي فضيل إلى العدالة وكانت كل أحكامها في صالح الجريدة وتأمر المطابع الثلاث بالوسط والشرق والغرب باستئناف طبعها فورا، لكنّ أويحيى أمر المطابع بعدم تنفيذ قرارات العدالة، واستمرّ الإيقاف مدّة 17 شهرا جُوّعت فيها أسرُنا، وكانت “الشروق العربي” معرّضة خلالها للاندثار نهائيا من الساحة الإعلامية وترك المجال لأبواق الفتنة والدم وحدها، لكن علي فضيل لم يتراجع عن قناعاته، ولم يساوم أويحيى على العودة مقابل التخلي عن مواقفه الثابتة، وصبر على المحنة واحتسبها لله، حتى جاء الفرج وأقيل أويحيى وعُوِّض بإسماعيل حمداني في أواخر عام 1998، ولأنه كان يُدرك ما تعرّضت له “الشروق العربي” من ظلم وبغي وحقد أعمى، فقد سمح بإعادتها إلى الساحة الإعلامية، ومرّت المحنة بسلام.

خلال تلك السنوات، أدرك علي فضيل أن أسبوعيةً مهما بلغ انتشارُها لا تكفي للتصدّي للتيار التغريبي الاستئصالي الذي احتلّ الساحة سنواتٍ عديدة، وأنه لامناص من إصدار صحيفةٍ يومية لإرواء ظمأ جمهورٍ واسع لا يجد حتى في الصحف المعرّبة ما يعبّر عن توجُّهاته وقناعاته، فأصدر “الشروق اليومي” في 2 نوفمبر من عام 2001، وأعادت تجربة أمِّها “الشروق العربي” واكتسبت شعبية كبيرة في وقت قصير، وأضحت الجريدةَ الأولى في الجزائر وإحدى أكبر الجرائد العربية.

وبعد فتح المجال للسمعي البصري تحت وطأة ضغوط “الربيع العربي” في 2011، سارع الأستاذ علي فضيل إلى انشاء “الشروق تي في” ثم “الشروق نيوز” وأخيرا “الشروق +”، وتربّعت على عرش الفضائيات الجزائرية أيضا كما تربّعت من قبل “الشروق العربي” و”الشروق اليومي” على عرش الجرائد، بفضل حنكة مدير المجمّع وحسّه الإعلامي الرفيع، لكنّ هذا النجاح الباهر جلب له متاعبَ كبيرة في عهد العصابة، بدأت منذ أكثر من سنتين ونصف حينما غضب السعيد بوتفليقة من مسلسل عاشور العاشر فأمر بوقف الإشهار العمومي تماما عن “الشروق اليومي” مع أنها أكبرُ صحيفةٍ بالوطن، فضلا عن تخفيض سحبها بـ90 بالمائة، ليعاقب بذلك جمهورها العريض وليس مديرها وحده، ويجوّع عشرات العائلات بعد أن دخلت الجريدة وموقعها الالكتروني والقنوات التلفزيونية الثلاث في ضائقة مالية خانقة وأضحت غير قادرة على صرف أجور صحفييها وموظفيها بانتظام، وبقيت آثارُ الأزمة إلى حدّ الساعة، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسة لتعقّد الحالة الصحّية للأستاذ علي فضيل؛ إذ أثرت فيه الأزمة والضغوط المستمرة أكثر من عامين ونصف بشدّة، إلى أن توفّي رحمه الله يوم الخميس 24 أكتوبر 2019 متأثرا بأزمته الصحية المستعصية.

خلال 29 سنة من التعامل مع علي فضيل، رأيتُ فيه رجلا فاضلا شهما كريما، دمث الخُلق محتشما، غير هيّاب ولا متردّد في الدفاع عن الحق وقيم الجزائريين، مناصرا كبيرا لفلسطين وقضايا الأمة العربية الإسلامية، مسامحا وليّنا في التعامل مع الصحفيين والموظفين، رفيقا بهم، صبورا يقابل الأزمات المتعاقبة وضغوطَ النظام الكاره للحرف العربي بالكثير من الثبات والهدوء والتمسّك بحبل الله، يشجّع المواهب والكفاءات ولا يبخل عليها بالنصح والتوجيه، حينما يتبادل التهاني مع طاقم الشروق في الأعياد كان يحرص دائما على تكرار عبارة “كل عام وأنتَ كالهِزبر”…

وداعا أيها الأسد الهصُور، ونم مطمئنا قرير العين، فسنواصل أداء الرسالة التي تحملها منذ قرابة 30 سنة والدفاع عن القيم والقناعات نفسها، بكلّ عزيمة وإصرار، ومهما اشتدّت المحنُ والضغوط، ولن نبدّل تبديلا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • رشيد معاش

    الأستاذ الراحل علي فضيل لم تخسره عائلته الصّغيرة " أسرته " ولا عائلته الكبيرة في الشروق وإنّما خسرته الجزائر بأكملها في هذا الظّرف العصيب الذي تمرّ به البلاد ، عاش مكافحا من أجل المبادئ والمثل والقيم العليا للأمة ...عاش كريما ومات كريما ..نسأل الله العلي القدير أن بتغمّد روحه الطّاهرة برحمته الواسعة وأن يسكنه فسيح جناته وأن يحشره مع الأنبياء والشهداء والصدّقين وحسُن أولئك رفيقا ...إنّا لله وإنّا إليه راجعون .

  • بلال لقرع

    انا لله وانا اليه راجعون
    رحمة الله عليه