-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عن الدستور والمدرسة

عن الدستور والمدرسة
ح.م

تبدو الحركية التي أسست لها النقاشات اليوم داخل المسرح السياسي أكثر جدية وتنوعا حول مشروع الدستور، وهي إذ تضفي عليها صبغتها القانونية والسياسية، إلا أنها لا تخلو أحيانا من مسحة إيديولوجية، الأمر الذي جعلها تنعطف في بعض التفاصيل بمسارات النقاش لتبتعد من حالات التفكيك المنهجية الهادئة إلى مربع الاستقطاب المُقلق.

 برغم هذا، فإنه لا يكاد يحدث اختلافٌ حول الأهمية الكبيرة التي تكتسيها هذه الوثيقة ضمن الإطار السوسيواقتصادي الذي تعيشه الجزائر، ليس في تقرير وجهها الجديد فحسب بل ووجهتها كذلك. لقد فتح مشروع الدستور الجدل بشكل عميق حول بعض المواد المدرَجة وطبيعة قراءاتها أو كيفية تكييفها قانونيا وأتاح الفرصة للنُّخب الأكاديمية والعلمية ومختلف الحساسيات الحزبية والمجتمعية إدارة ردود أفعالهم بشكل أكثر نضوجا يتواءم وحالة الانتقال الديمقراطي التي يطمح إليها الجميع عقب الحَراك الجماهيري للثاني والعشرين من فبراير.

وقد كان للمادة 65 في النقطتين 4 و5 المتعلقتين بالمؤسسات التربوية نصيبٌ وافر من السجال وطنيا بين مرحِّبٍ ومتحفظ؛ وفي هذا الشأن تحديدا ربما علينا الاصطلاح عمليا أنه لا يمكن تجاهلُ كون المؤسسات التربوية تعدّ واحدة من أقوى مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وهي تؤسس لمشابك أمنية غاية في التعقيد ومؤهلة لأن ترهن مستقبل الأجيال القادمة، وعلى ذلك فإنها تقع في مركز اهتمام مؤسسات الدولة الجزائرية ومن ورائها مختلف التشكيلات الحزبية بمشاربها وإيديولوجياتها المتعددة، وليس مبالغة القول إن الساحة الوطنية اليوم مشحونة أكثر نحو رصد مقدراتها تجاه كسب هذه المعركة مستغلة الغطاء الذي وفره رئيس الجمهورية من خلال تعهداته الصريحة عديد المرات بإعادة السيادة الشعبية وموضعتها في إطارها الطبيعي بيد الشعب، وفي الوقت الذي يرى بعض المتابعين أن المجتمع الجزائري لم يستطع الفصل بشكل مطلق بشأن ترسيم معالم المشروع المجتمعي الذي ينشده ويعتبره معضلة تاريخية توارثتها الأجيال عقب محطة مؤتمر الصومام، يرى الكثيرون أن المسألة محسومة برسم خط نضال مفجِّري الثورة التحريرية الكبرى من خلال بيان أول نوفمبر. ولعل هذا السجال التاريخي حول التصور الهوياتي انسحب بقوة إلى المدرسة وباتت المؤسسات التعليمية والجامعية أحد أبرز ميادينه.

وإذا كان واضحا أن مساحة الاتفاق حول الحفاظ على الطابع البيداغوجي والعلمي للمؤسسة التربوية واسعة وغاية حمايتها من أي تأثير سياسي أو إيديولوجي مفهومة ومبررة، إلا أن إسقاطاتها واقعيا على الممارسة اليومية للحياة المدرسية والمناهج التعليمية تبقى مقلِقة، لقد تركت ورشة بن زاغو لـ”إصلاح” المنظومة التربوية الباب مشرعا حول جدوى الاهتمام بتعديل النصوص الناظمة وإعادة ضبط اللغة المعرِّفة للهوية في مقابل تردي غير مسبوق للإنتاج المعرفي والفكري وانتكاسة كبيرة في إعادة تشكيل الدور الثقافي للمؤسسات التعليمية، وقد انسحبت الكثير من “الإصلاحات” التي قادتها من بعده وزيرة التربية بن غبريط رمعون في هذا الاتجاه تحت طائلة “تسييج المدرسة وحمايتها من المؤثرات الإيديولوجية”، فيما تم إغراقها في المقابل بمضامين فكرية واجتماعية غير متسقة كليا مع الهوية الثقافية للمجتمع.

لكن علينا الاصطلاح بشجاعة أكبر أن مسألة الاقتراب من ترسيب هوية المدرسة الجزائرية ضمن مناخ الاستقطاب العولمي والضغوط الدولية ليست سهلة، وهي بذلك تتقاطع في أصل التوتر الفكري مع التحديات التي تواجه مجمل الحضارات الإنسانية التقليدية التي باتت تشهد انقلابا على منطقها الوجودي مقابل تغوّل المنطق الرأسمالي الغربي الزاحف على الكل الاجتماعي، في الجزائر الأمر ليس مختلفا كثيرا مع تقدير بعض الفوارق الجزئية التي تُستَلحق بالمسألة تتعلق بطبيعة الجدل الإيديولوجي الذي يطفو على السطح من حين إلى آخر؛ فالتيار الحداثي الذي يصطلح على مشروعه بـ”التنويري” وهو  في الواقع رهين الاتجاه الفرانكولائكي، غالبا ما يستهدف المدرسة من حيث كونها مصبا فكريا للتيار المحافظ “الوطني الإسلامي” وينتقد مناهجَها التربوية التقليدية، في المقابل تتمسك مختلف التيارات المحافظة بأصالة المدرسة وعمق جذورها وضرورة تنمية وتعزيز المتاح الحضاري، لكنها تسجل تخوفات شديدة نحو كل ما يمكن أن يتسلل إلى مناهجها من رسائل ومضامين وافدة من الخارج تضاف إلى مجمل الإرهاقات التي تسبَّبت بها المنظومة الرقمية والشبكة العنكبوتية مواقع التواصل الاجتماعي والألعاب الالكترونية وغيرها من المؤثرات الطارئة وغير المتحكَّم فيها، هذا العراك ليس مرتبطا باستحقاق سياسي أو بمناسبة ظرفية، بل يكاد يكون صراعا وجوديا قُذِفت المؤسساتُ التعليمية في خضّمه ولم تُتح لها فرصة التملص منه.

وإذا كان من الضروري إعادة فتح مساءلات رصينة حول المدرسة ودورها تلتقي فيها المشتركاتُ الكبرى للمجتمع الجزائري ضمن سياقية التحولات الإقليمية والدولية ومايشهده العالم من تحديات الثورة التكنورقمية من جهة وتعقيدات إنسانية واجتماعية تستجيب لمعطيات الألفية الثالثة من جهة أخرى، فإنه من الحتمي عدم تجاوز الرأسمال الثقافي للمجتمع وإشراك الرأسمال البشري الذي يعدُّ جوهر العملية التغييرية، ونقصد تحديدا الأستاذ والمعلم، الذي يبدو واضحا أنه فاعلٌ تربوي قوي في مجمل العملية الإصلاحية فهو يمتلك بحكم علاقته المباشِرة مع التلاميذ القُدرة على توطين معارفهم مع أي منهجية تربوية أو قيم أخلاقية وهو مؤهَّل أكثر من غيره لتغيير سلوكات التلاميذ بما ينسجم مع المضامين التربوية أو بما يخالفها، لذلك كلما اتجهت الإرادة السياسية نحو ترقيته وضبط أدواره بدقة وتأهيله بمستوى عالي، كان منسجما أكثر مع عملية الإصلاح فيما إذا بقيت أدواره رهينة الصور النمطية التي حاولت بعض أطراف النظام السابق وصمه بها، فإنه من الصعب أن يشكل رافدا للعملية الإصلاحية أو يرتجى أن يدير أدواتها بفاعلية.

ثم علينا أن نسجل كذلك أن الجدل الهوياتي الذي طالما صاحب المشروع التربوي كان الأصل فيه ألا يلغي تنوُّعَ الانتماء، لكن المسألة عندنا تبدو غير ناضجة بالشكل الكافي ربما للترسبات التي خلفتها أزمة العشرية الدموية، وهو الأمر الذي أثّر في المؤسسات التعليمية ودفعها لتتراجع عن وظيفتها الأساسية في التلقين والتكوين والاستيعاب، بل وتعطلّت قدراتها الإبداعية كثيرا، وهي اليوم تقف على أعتاب مرحلة جديدة يفترض أن تستجيب للنموذج العصري للمدرسة الوطنية تعزز مكتسباتها الهوياتية وتسعى نحو تطوير روافدها البيداغوجية والعلمية، لكن العديد من الفعاليات السياسية والحزبية تشكك في هذا التصور وتجعل من المأمول في جعل المدرسة رائدة وخالية من الاستقطاب أمرا بعيد التجسيد على الأقل في المستوى المنظور.

من غير الممكن تجاوز حقيقة أن المؤسسات التربوية مشبَّعة بالمضامين الأخلاقية والقيم الاجتماعية المنسجمة مع الهوية الثقافية للمجتمع، وهي تشكل قيمة مضافة للتلميذ وتساعده على الاندماج داخل مجتمعه بشكل أسرع وأكثر فاعلية، في المقابل فإنه لا مناص من الاعتراف أن هذه المؤسسات لم تمكَّن بزعم مسارها الطويل من التحرر من سطوة التوظيف السياسي الذي أرهق التلاميذ وجعلهم يعيشون شكلا من الاغتراب الفكري حدث نتيجة تحويل المؤسسات التربوية إلى ساحة لتصفية الحسابات، سيكون من المفيد وبلغة دستورية صارمة إعادة التوازن للمؤسسات التعليمية من خلال تحييدها من التأثيرات الإيديولوجية، شريطة أن ترافَق بإرادة سياسية صادقة تعمل على تطوير المحتوى البيداغوجي وتنمية المهارات لدى التلاميذ دونما جعلهم في حرج تجاه مكتسباتهم القبلية وقيمهم الاجتماعية والدينية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!