-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عياش يحياوي.. كما عرفتُه

عياش يحياوي.. كما عرفتُه
ح.م

اخترمتِ المنيّةُ من بيننا، في الأيّام الأخيرة، الشاعرَ المبدع، والباحثَ الْمُؤْتَلِق، والإعلاميَّ البارع، عياش يحياوي. اخترمتْه بعنف وقسوة واغْتفاصٍ، وهو بأبو ظبي، عاصمةِ الإمارات العربيّة المتّحدة. إنّا ذرَّفْنا عليه دموعاً ساخنة، بعد أن انطفأت شمعتُه التي كانت تنير درْب الشعر والمعرفة والجمال، على حينِ غرّة من أمرنا، فروَّعَنا بوفاته، وأحزننا بموته، وكان ذلك دون أن نكون ناظرِينَ وفاتَه في تلك المرحلة من العُمر، وفي تلك الحالة الصحّيّة الطّيّبة التي كان يبدو عليها.

ذلك، ولقد كان أوّلُ عهدي بالشاعر الإعلاميّ المتألّق عياش يحياوي، في مدينة وهران، منذ زُهاءِ خمسةٍ وعشرين عاماً، وذلك حين كان مديراً جهويّاً لجريدة «الشروق»؛ فكنت أتردّد عليه بين حين وآخرَ في مكتبه بوَهرانَ. فكان ممّا أذكر أنّه هو الذي أغراني بأن أرُدّ على مقالة كان رماني بها إبراهيم السامرائيّ، وكان نشرها في مجلة «المنهل» السعوديّة (المجلّة التي كان يحرّرها الأديب القاصّ الروائيّ أحمد رضا حوحو في أيام شبابه بالمدينة المنورة حين كان مهاجراً إليها). وكان لا يزالُ في هذا القلم عنفوانٌ وخُيَلاءُ، فخَفَفْتُ لأدبّجَ ردّاً على الدكتور السامرائيّ لا يزال الناس يعدّونه عجيباً، ولا أدري إلى الآن كيف استقام لي؟ ولا كيف انثالت عليّ تلك اللغة الغريبة التي كتبت بها الرّدّ. غير أنّي، وبكل حزن لا أملك نصّها، لأنّا كنّا لا نزال نكتب بالآلة الكاتبة، ولكنّ نصّها مدوّنٌ في «الشروق» و«المنهل» جميعاً. إذْ لَمّا كان يظنّ الشيخُ أنّي حداثيٌّ وهو تراثيّ، سعَى إلى الغرور بي، فيأخذني من هذا الجانب وكان بشأني جهولاً! كتبت، إذاً، مقالة طويلة تشبه المقامة، بلغة حُوشِيّةٍ، لأثبت للشيخ أنّه كان مخطئاً في شخصي، وذلك حين كان يعتقد أنّي جاهلٌ بالتراث، وأنّ حداثتي مقطوعة من المعرفة التراثية، وأنّها ليست امتداداً لها، كحداثة بعض الناس!

وممّا يمكن أن يذكَر للقرّاء الأكارم، أنّ الصديق اليمنيّ الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح، طلب إليّ في إحدى زياراتي صنعاءَ، أن ينشر المقالة الطويلة كما كانت ظهرت في مجلّة «المنهل»: في مجلّة «النور» الصنْعانِيّة، فأَبَيْتُ؛ وذلك لأنّ الدكتور السامرائي كان أستاذاً وافداً بجامعة صنعاء، فكان لا يبرح يزهو على الناس بمعرفته بالتراث، فلم يكن أحد قادراً على الرّدّ عليه. فلمّا جاءت مناسبة المقالة قال لي المقالح: لقد أزعجنا الرجل بغطرسته بالمعرفة التراثيّة حتّى خرجت له أنت من حيث لم يكن ينتظر، فنودّ أن نرميَه بها في المقتل!!…

وقد تولّى عياش يحياوي نشرَ هذه المقالة في جريدة «الشروق» مسلسلَةً في حلقات لا أذكر عددها، ولكنّها كانت تقترب من العَشْرِ؛ وذلك قبل أن أُرسِلها إلى مجلّة «المنهل» السعوديّة التي نشرتْها في حلقتين اِثنتيْنِ، من باب احترام حقّ الرّدّ.
وكنّت وعيّاشاً، أثناء كلّ ذلك، كما يقول مُتمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
وكنّا كنَدْمَانَيْ جَذِيمةَ حِقْبةً منَ الدَّهرِ حتى قِيلَ: لنْ يَتَزَعْزَعَا

فكنّا نلتقي في الندوات والمناسبات الأدبيّة التي كانت تُعقد بوهران والجزائر العاصمة وغيرهما، إلى أن علمت أنّه غادر الوطن (لأسباب ذكرَها لي بعدُ في مدينة أبو ظبي يطول سرْدُها في هذه المقالة العجْلَى، بعد أن كان عُيِّنَ مديراً للثقافة بإحدى ولايات الوسط)، فقصد جريدة «الخليج»، حيث رحّبتْ به على أساس أنّه كفاءة إعلاميّة وأدبيّة وثقافيّة نادرة، فأصبح على الفور مساعداً لرئيس التحرير، أي كان رئيس التحرير الفعليّ في حقيقة الأمر، بحكم كثرة أعباء رئيس التحرير الإماراتيّ وعَلاقاته العامّة

ومرّت الأيام عِجَالاً، إلى أن عُيِّنت عضواً حَكَماً في لجنة التحكيم سنة سبْعٍ وألْفيْنِ لمسابقة «أمير الشعراء» بأبو ظبي، وكنت أوّلَ شيء فعلتُه أن أتّصل بعيّاشٍ وهو بالشارقة، بعد أن مكّنني من رقم هاتفه صديقُنا المشترك الأديب الإماراتي الكبير الدكتور سلطان العميمي، وكان هو أيضاً ينشر مقالات في «الخليج».

فاتفقنا على اللقاء، فجاء إليّ يوماً إلى أبو ظبيٍ فوصل ظهراً، فجدّدنا العهد بالمودّة، وتغدّينا معاً، وتحادثنا في أمور أدبيّة وإعلاميّة وسياسيّة كثيرة، وقد عرض عليّ، بعد أن أهداني قلماً فاخراً، أن أكتب عموداً أسبوعيّاً في جريدة «الخليج» فوافقت، وشرعت في ذلك بعد أسبوعين اِثْنَيْنِ من الاِقتراح. واختار هو نفسه للعمود العنوانَ الذي كان: «كُثْبان». وظَلْتُ أكتب معه زهاءَ ستّةِ شهور قبل أن أعتذر له وللجريدة، لأشغال طرأت علي سيرتي، فلم أعُد قادراً على الوفاء بالالتزام بكتابة مقالة أسبوعيّة منتظمة.

وكنت، بعد ذلك، كلّما ذهبت إلى أبو ظبيٍ، أوّلَ ما أقوم به، أن أتّصلَ بعياش يحياوي الذي كان يأتيني بسيّارته من الشارقة، فنتحادث في شؤون مختلفة، ومنها أنّي اقترحت عليه أن ينتقلَ إلى جريدة «الاتحاد»، حيث ظروفُ العمل أفضل من كلّ الجوانب. وفي إحدى زياراته إيّايَ بأبوظبيٍ، اتّفق أن وصل متأخّراً عن الموعد الذي كان عصراً، وكنت أنا مضطرّاً إلى إجابة دعوة شخصيّة إماراتية كبيرة، وهو المرحوم الأستاذ محمد أبو خلف، فرآني أبو خلف في مجلسه أردّ على الهاتف، وكأنّي أطلت فليلاً، فسألني عن المتّصل فقلت له: الإعلاميّ الجزائري عياش يحياوي مساعد رئيس تحرير «الخليج»، فقال لي على الفور: نريده أن يأتيَنا إلى هنا! ادْعُهُ!

ووصل إلى بيت أبو خلف، وفاتحه في الأمر بعد أن سأله: هل يتكلّم الإنجليزيّة، فقال له: قليلاً، ولكنّه يتكلم الفرنسيّة إلى جانب العربيّة التي هو شاعرٌ بها. فألحّ عليه أن يأتيَ إلى «الاِتّحاد» بمرتّب أعلى. لكنّ يحياوي بأخلاقه العالية، قال لي: إنّي خجول أن أترك جريدة «الخليج»، بعد أن احتضنتْني وآوتْني مجرّد مجيئي من الجزائر، فكيف أواجه المدير العامّ؟ وما العذر الذي أعتذر به إليه؟ فعليّ أن أنتظر قليلاً، حتّى نجد لهذا الأمر مخرجاً لطيفاً.

ثمّ جاء أخيراً إلى أبوظبي، ولكن ليس للعمل في «الاتّحاد»، ولكنْ على أن يكون باحثاً ملحقاً بديوان الدكتور سلطان العميمي مديرِ «أكاديميّة الشعر». وهنالك تفرّغ للبحث في التراث الشعبيّ الإماراتي، بعد أن أتقن عامّيّتها البدويّة، فكان يخرج إلى القبائل باستمرار لينهض ببحوث ميدانيّة مع الشيوخ وأصحاب الأسنان، وأخرج في ذلك عدّة كتب ذات قيمة علميّة كبيرة، ولم يُسبَقْ إليها. كما كلّفه الدكتور سلطان، في السنوات القليلة الماضية، بأن يأتيَ إلى الجزائر لينظر طبيعة العَلاقة بين الشعر النبطيّ الإماراتي، والشعر الشعبيّ الجزائريّ، وقد عاد إلى الجزائر في هذه المهمّة فجال بين أرجائها، وظلّ زهاء شهرٍ يجُوب أحناءَها، ولكنّي لم أعرف النتائج التي توصّل إليها.

كما كان يشرف، مِن كَثَبٍ، على تحرير مجلّة «شاعر المليون» فيما يبدو، وكان يتولّى التدقيق اللغويّ فيها خصوصاً. وكان بسماحة سلوكه، وسجاحة خلقه، يرسل إليّ نصوصَ دواوينِه الأخيرةِ لأطلع عليها قبل أن ينشرها، طالباً منّي إن كان يبدو لي عنها بعض الملاحظات…

كما كان يتردّد عليّ في كلّ موسم من مواسم «أمير الشعراء» في النزل الذي كنت أنزل فيه، فكنّا نحتسي الشاي معاً، ونتحدّث عن شؤون الجزائر: أدبِها وإعلامِها وسياستِها، فقد ظلّ الرجل متعلّقاً تعلّقاً شديداً بالوطن.

وفي يوم من الأيّام كنت أتسكّع في إِحْدَى الأسواق الفاخرة الكبرى بأبوظبي، فالتقيته بصحبة حليلتهِ بالمصادفة، فدعوَاني وألَحّا عليّ، لأعيّن موعداً لزيارة البيت، فاعتذرت بلطف وتأثّر، بحكم أنّي كنت سأعود إلى الوطن بعد يومين أو ثلاثة، فكنت منهمكاً في ِزَمِّ حقائبيّ.

وآخر مرّة التقينا فيها كانت في أوائل شهر مارس من السنة الماضية بأبو ظبي، وذلك على هامش الندوة الصحفيّة التقديميّة لموسم أمير الشعراء، فانتبذْنا ناحيةً، وخُضنا في أمر الحَرَاك (بفتح الحاء لا بكسرها) الذي جاء ليُنقذ الجزائر من عِشرينيّة مظلمة ملوّثة بالعَفَن والفساد، وبقِينا نتحّدث عن شؤون هذا الحَراك المبارَك زهاء نصف ساعة، فكان ذلك آخرَ العهد به، رحمه الله رحمة واسعة.

لقد فقدْنا في عياش يحياوي عالَماً مكتملاً، فلم تَفقِدْه الساحة الأدبيّة وحدَها، ولكنْ فقدتْه الساحةُ الإعلاميّة، كما فقدَه البحث العلميّ، كما فقدْنا نحن فيه الاِبتسامة، والبراءة، والوطنيّة، وخفّة الروح.

يرحم الله زين الشباب “عياش يحياوي” فلقد اختطفه المنون منا على حين غرّةٍ لم نتهيأ لها
وإذا المنة إذا أنشبت أظفارها … ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفعُ!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!