-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
هل ستكون كنزة آخر الضحايا؟

غابات الجزائر.. من فضاءات للترفيه إلى ساحات للجرائم

سمير مخربش
  • 1902
  • 0
غابات الجزائر.. من فضاءات للترفيه إلى ساحات للجرائم
ح.م

تحولت العديد من الغابات المتناثرة عبر ولايات الوطن إلى فضاء للإجرام والقتل والتنكيل، وأضحت الوجهة المفضلة لكل من وسوس له الشيطان بفعل مشين يستدعي الابتعاد عن أعين الناس، وهو الفعل الذي يكون عادة من وحي الإجرام وإلحاق الضرر بالنفس وانتهاك حقوق الغير، فتبدأ الحكاية بخلوة وجلسة بين الأشجار وتنتهي بحيرة تهز قلوب العالمين.

منذ أيام قتلت كنزة البالغة من العمر 32 سنة وأحرقت بالنار بغابة فيض غريب التي تمتد بين بلديتي العلمة وبازر سكرة بولاية سطيف، بعدما تعرضت للضرب على الوجه والرأس بأداة صلبة،  الجريمة وقعت بعد اقتياد الضحية وسط الأشجار والحشائش، أين تركها الجناة تلتهب تحت عجلات مطاطية ولاذوا بالفرار. وبنفس المكان حدثت جريمة أبشع منها وكان ذلك منذ حوالي 5 سنوات إذ أقدم أب على ذبح ابنه بسكين بكل برودة، كان ذلك سنة 2015 عندما تنقل أب رفقة ابنه البالغ من العمر 4 سنوات إلى الغابة واختفى به وسط الأشجار فتظاهر باللعب معه، ثم أمسك به كما تمسك الشاة، وبكل وحشية مرر السكين على رقبته وترك الطفل يتخبط في دمه في مشهد مفزع اخترق سقف الإجرام. وفي حادثة سابقة بغابة الزنادية بسطيف، تم العثور على جثة شاب مذبوح أخفاه المجرمون تحت الغطاء النباتي.

بين الجريمة الأولى والثانية والثالثة مسلسل من الجرائم، التي تنوعت بين القتل والاعتداء والفعل المخل بالحياء والسكر العلني وتدوير المخدرات، وكلها أفعال تشترك في المكان وتختلف في الزمان، وفي أبطال الجريمة الذين تنوعوا بين الصغار والكبار والذكور والإناث. وفي كل مرة تشهد الغابة فعلا خارجا عن المألوف لا يخرج عن دائرة الدم والحرق والمساس بقدسية النفس، وكلما غاصت سيارة في الأدغال وغمرتها الخضرة، ترقب شيئا ما خارجا عن المعتاد والأرجح أن تكون بشرى شر تختبئ بين الحشائش.

خضرة القوارير تزاحم خضرة الأحراش

جرت العادة أن تكون الغابة فضاء لجلسات الخمر التي تعد من الرذائل الأكثر انتشارا في المساحات الخضراء، وهي بمثابة مقدمة لأفعال أخرى عادة ما ترافق القارورة الخضراء فتتطور الجلسات إلى اعتداءات وشجارات وأحيانا إلى جرائم قتل بشعة. وقد سبق أن شهدت غابة بسطيف جريمة أخرى لا تقل بشاعة عن سابقاتها، فكانت خاتمة لجلسة خمر نشب فيها شجار بين زملاء هذه المهنة وانتهت باعتداء على شاب بحجر فتهشم رأسه وفارق الحياة وسط قوارير الخمر. يحدث هذا في جلسات تعرف محليا باسم “الميسات” وهي كلمة عامية مفردها “ميسة” وتعني التجمع الذي تطوف فيه أواني الخمر بين المدمنين، وتتعدد فيها المشروبات الروحية وتتنوع بين النبيذ المحلي و”الكانيطات” وزجاجات الويسكي والفودكا.

وهي الجلسات التي تبرمج كل أمسية في الغابات وتحت الجسور ووسط الوديان الجافة، أين يلتقي عشاق الزجاجة الخضراء وأخواتها من مختلف الطبقات، فقد تفرقهم المناصب والمكاسب، لكن تجمعهم جلسات الحجر والشجر على قلب زجاجة واحدة، فيتبادلون الأكواب والطاسات والكانيطات التي تُقبِّل الشفاه في تواضع مشترك قبل أن ينتهي بها المصير إلى منحدر الوادي. ولذلك تجد خضرة القوارير تنافس خضرة الأعشاب والأشجار. والمعروف أن لكل “ميسة” مسير يشرف عليها فينظم الجلسات ويسقي الناس على طريقة الجاهلية الأولى، ويتقاضى عن ذلك أجرا من رواد المكان وهو الوحيد الذي تجده في وعيه، فعادة هو لا يحتسي الخمر، لأنه يحتاج إلى عقله كي يراقب المشروبات وحساب المبيعات.

هذه الأماكن مفتوحة على مدار الأسبوع، وفترة العمل تبدأ مع اقتراب الغروب لتستمر إلى ساعات متأخرة من الليل. ورغم البؤس الذي تتميز به هذه المناطق التي عادة ما تجمع السكارى في أماكن موحشة لا تتوفر فيها عوامل الراحة، وأغلبيتهم يجلسون على الطوب والحجر والشجر، ويسقون بعضهم في آنية قديمة لا علاقة لها بالنظافة، والكل يرتع وسط أجواء باردة تتنافى مع مظاهر المتعة والراحة. فهؤلاء هم بؤساء الخمر، وإذا كان أسيادهم يعصون الله في أماكن راقية فيها الدفء والأطباق وما لذ وطاب، فهم يعصونه في الغابات والوديان وتحت القناطر في أجواء باردة ظاهرها عذاب وباطنها أيضا عذاب وفيها تتشكل خيوط الجريمة.

تغطي الثروة الغابية في الجزائر أكثر من 4 ملايين هكتار منها 32 ألف هكتار كمعدل سنوي يتلف بسبب الحرائق التي يتسبب فيها المواطن بالدرجة الأولى سواء من أجل الاستيلاء على الفحم بطرق غير شرعية أو بسبب الجماعات الإجرامية التي ترمي بقوارير الخمر وسط الغابات، فهناك حرائق أتلفت آلاف الهكتارات وحركت أسطولا من مركبات وعتاد الحماية المدنية واستمرت عملية إخماد النيران لعدة أيام، وكل ذلك بسبب زجاجة خمر مكسورة قذف بها سكير عمًّر رأسه وحير أمة بكاملها. ما يعني أن الخسائر الغابية التي تتحرك لها الطائرات قد تبدأ بجلسة خمر استوطنت بين الأشجار.

غابات تحررت وأخرى لا زالت تحت سيطرة المنحرفين

وكنموذج ايجابي بسطيف، غابة الزنادية التي تتربع على مساحة قدرها 198 هكتار، كانت في السابق مرتعا للرذيلة وفضاء مفتوحا للسكارى وجماعات الخمر، لكن مديرية الغابات تدخلت في السنتين الأخيرتين واسترجعت هذا القطب وانتزعته من المجرمين وحولته إلى فضاء عائلي مفتوح للسياح، وكان ذلك بحماية الغابة وتحديد معالمها وفتح مسالك على مسافة 7 كلم وتدعيم الموقع بألعاب للأطفال مع طاولات وكراسي خشبية تتلاءم مع طبيعة المكان الذي فُتح لهواة ركوب الخيل وممارسي الرياضة فأنجزت عدة ملاعب جوارية ومساحات لاحتضان مختلف النشاطات المتعلقة بالبيئة.

وحسب السيد عبد الحفيظ حمشي، محافظ الغابات لولاية سطيف فإن دور المديرية “يكمن في المحافظة على الثروة الغابية من أجل المصلحة العامة”، وفي ولاية سطيف الغطاء النباتي يغطي أكثر من 100 ألف هكتار تتمركز بالجهتين الجنوبية والشمالية للولاية وبهذه الأخيرة نجد منطقة بابور التي توجد بها أشجار نادرة في العالم منها التنوب النوميدي وهو نوع أصيل لا يوجد في أي مكان في العالم إلا بمنطقة بابور بسطيف المعروفة أيضا بثرائها الغابي ونباتاتها الطبية التي يمكن استغلالها في الجانب الصيدلاني وعالم التجميل.

ويقول محدثنا: “إن المحافظة على هذا الإرث الطبيعي يبقى مهمة الجميع بما فيها المواطن الذي يختار هذه الأماكن بهدف السياحة”. وأما عن الجماعات الإجرامية، فيقول محافظ الغابات أن مصالحه تنسق مع رجال الدرك من أجل حماية الغابات من مختلف الممارسات التي تمس بالصالح العام وبنظافة المكان، ويؤكد: “هناك قوانين تقف بالمرصاد لكل المخالفات التي تؤذي الغابات وروادها وعلى الجمعيات المهتمة بالبيئة أن تساهم هي الأخرى في الحفاظ على هذه الثروة”.

وفي الأخير، نؤكد أن الأجانب الذين زاروا الجزائر انبهروا بالثروة الغابية والنباتية لبلادنا، وهي النعمة التي حرمت منها العديد من الدول ورغم ذلك خلقت فضاءات سياحية تستقطب السياح من مختلف بقاع العالم، ولو تغيرت الذهنيات لتحولت الغابات إلى منبع اقتصادي وسياحي عملاق في الجزائر وقبل ذلك ينبغي أن تكون البداية بإماطة الأذى وإزالة القارورة الخضراء، لأنها أفسدت كل ما هو أخضر في هذا البلد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!