-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فضائل الذّكر وأثره في حياة المسلم

فضائل الذّكر وأثره في حياة المسلم
ح.م

من أجود وأنفع ما قرأت، كتابٌ عنوانه: “الذكر وآثاره التربوية، في طرق صوفية جزائرية” لمؤلّفته: الأستاذة الدكتورة ماجدة القاسمي الحسني، وهو رسالة علمية قيّمة، ألقت مزيدًا من الأضواء على طرق ربّانية، عمادها العلم والمعرفة، ونهجها سلوك الطريق، باستقامة واعتدال، وهو منهج الإسلام. كما ألقت الضوء على فضائل الذكر، وأثره في حياة المسلم، الّذي يحرص على كمال عبادته، ويسلك طريقه إلى الله، ليزداد قربا منه، ويحظى بمحبّته، ويفوز برضوانه.

إنّما يهنأ بالعيش، ويتذوّق السّعادة قوم أحبّوا الله، واطمأنّوا بذكره؛ يصحُون وينامون، ويغدُون ويروحُون؛ وفي أعماقهم إحساس بأنّ دقّات القلوب، وتقلّبات الأبصار، وحركات الجوارح كلّها في قبضة الله، وتحت قدرته. شأنهم التفكّر في خلق السموات والأرض، وتدبّر قدرة الله وأقداره، في إدبار الليل وإقبال النهار، وفي حركات الأكوان وجريان الأفلاك: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) آل عمران/191.

الذاكرون الله يعيشون لربهم مخبتين منيبين، حامدين شاكرين؛ قطعوا إغراءات العاجلة؛ وساروا في الطريق إلى مرضاة الله؛ يبتغون وجهه، ويذكرون اسمه، في جميع أحيانهم واختلاف أحوالهم؛ وفي دائرة واسعة، ميادينها رحبة، لا حدّ لمجالاتها، من الفكر والاعتقاد، والقول والعمل.

فالذكر حال وقول وعمل. والذكر لا يقعد بالإنسان عن الجدّ والعمل؛ بل الذكر يصحب المؤمن في عمله، ليؤثّر فيه، استقامة واجتهادا، وصدقا وإتقانا: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)) الجمعة/10. والذاكر الحقّ يرقب ربّه في كلّ حال وعمل؛ مسلكه منضبط بأوامر ربّه ونواهيه؛ يشعر بضعفه البشريّ، ويستعين بربّه في كلّ ما يهمّه ويعتريه.

يقول سعيد بن جبير، رضي الله عنه: “كلُّ عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله تعالى”، وروي عن الإمام أبي العباس المرسي، رضي الله عنه، أنّه كان يدعو إلى القيام بواجبات الحياة، والاجتهاد في إنتاج ما تصلُح وتقوى به الحياة؛ وله في ذلك كلمات روائع. فقد كان يقول لأصحابه: “عليكم بالسّبب (أي العمل)؛ وليجعل أحدكم مكوكه سبحته، أو قادومه سبحته، أو تحريك أصابعه في الخياطة أو الضّفْر سبحته”. وكأنّه، بهذه الكلمات الحاثّة على السّعي والإنتاج والكسب، يُلقي هالة قدسية على العمل الدنيوي والكسب المادّي؛ ويدخله ساحة العبادة، ورحاب التقرّب إلى الله؛ فقد جعل آلة الصناعة والإنتاج ووسيلة العمل كأنّها سبحة يذكر بها العامل ربّه. ولو أنّ كلّ فرد في المجتمع المسلم نظر إلى عمله هذه النظرة، لما شكت الأمّة ضعفا، ولا عرفت تخلّفا أو وهْنا.

إنّ الذكر هو الّذي يبعث الطاقات الروحية في النفوس، وقاية وعلاجا؛ فهو الّذي يعطي الإنسان طاقة لا تعدلها طاقة؛ ويقيمه على الصّراط السّويّ؛ فلا تختلف به السّبل، ولا تزلّ له قدم؛ لأنه يراقب الله في كلّ أحواله، وسائر أوقاته؛ وينجز عمله، مستحضرًا معيّة الله ونظره إليه، مستشعرًا أنّ عين الله لا تنام، وأنّه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ وأنّه سبحانه سيجزيه الجزاء الأوفى عن عمله ذلك، إذا هو أتقنه وصدق فيه. وبهذا يكون الذكر سببا للفلاح والفوز بالسّعادة في الدارين. فهو يجمع خيري الدنيا والآخرة؛ ويعين الإنسان على مشاقّ الحياة، وعلى تحصيل الطاعات. وممّا روي أنّ رجلا أتى إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله. إنّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بشيء أتشبّث به. قال: “لا يزال لسانك رطبا بذكر الله”.

والإكثار من ذكر الله يستوجب خشية القلوب. إنّها حالة الوجل والخوف من الله؛ وهي المهابة والحذر من أن يراك حيث نهاك، ويفقدَك حيث أمرك ودعاك. قال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون)) الأنفال/2. وقال سبحانه: ((وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون)) (الحج/35).

والذّكر يُورث الطمأنينة في القلوب. قال الله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) الرعد/ 28. فالذكر يدخل قلب المؤمن فيضيئُه، ويملأ جوانح نفسه من شعاع الحقّ والخير، ويزكو بها في رحاب الجمال والجلال. والذّكر الحقّ هو الذي يتأثّر به الباطن والجنان، لا مجرّد الجاري على اللسان. وتلكم هي حقيقة المؤمن الذي كان قلبه عامرا بذكر الله، ولسانه رطبا بذكر الله، ونفسه مشرقة وضّاءة بذكر الله؛ ويتأسّى برسول الله، صلّى الله عليه وسلم، الّذي كان يذكر ربّه، في حال قيامه ومشيه، وقعوده واضطجاعه؛ كما أخبرت بذلك أمّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها. قال تعالى: ((فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً)) النساء/103. وقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)) الأحزاب/42.

وذِكر الله كثيرا من علامات حبّ الله. قال بعض العلماء: “علامة حبّ الله كثرة ذكره. فإنّك لن تحبّ شيئا إلاّ أكثرت من ذكره”. وكما أخبر الله أنّ الإكثار من ذكره سبب للفلاح والفوز بالرضوان، أخبر أنّ الّذي يلهيه ماله وولده عن ذكر الله يبوء في الدنيا والآخرة بالخسران. قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون)) المنافقون/9. تلكم حال الذين أعرضوا عن ذكر الله؛ ما كانوا إلاّ قوما بورا، يتصرّفون بغير هدى، ويتقلّبون في الأرض بدوافع الهوى. نسُوا الله فأنساهم أنفسهم؛ والله تعالى يقول: ((وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) الحشر/19.

وبعدُ؛ فهذا هو الذكر الذي يعدّ أهمّ مقوّمات الحياة الروحية، التي دعا إليها الإسلام، ورسم معالمها، ووضع لها أسسها. وقمّة الحياة الروحية تتجلّى في سيرة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، المثل الكامل للسموّ الرّوحي، والعظمة الأخلاقية، والترقّي في مدارج الكمالات الإنسانية. فهو خير من وازن بين متطلّبات الروح ومطالب الجسد، بين المثال والواقع، بين حقوق الله وحظوظ النفس. وتلكم هي حقيقة التصوّف الإسلامي، بصورته الناصعة؛ وذلكم هو منهجه الأصيل الذي يجمع، في انسجام وتكامل، بين الجانب التشريعي والجانب الروحي من الإسلام، لترتبط الحياة الروحية بالحياة الاجتماعية؛ وتتحقّق بذلك الحياة الإسلامية المتوازنة المتكاملة، الّتي تتجاوز المادّة إلى الروح، والدّنيا إلى الآخرة؛ وترتفع بالإنسان المخلوق إلى معرفة خالقه، وعبادته ومحبّته، وإيثاره على كلّ ما سواه؛ عن طريق تزكية النفس، ومجاهدتها في الله، حتى يهديها سبيله، وتنتصر على أهوائها وشهواتها الظاهرة والباطنة. فلا فلاح للنّفس البشرية إلاّ بالتزكية؛ كما قال تعالى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)) الشمس 7-8.

إنّ مّما يجب أن يعلمه الناس أنّ التصوّف هو روح الإسلام، وحقيقة الإيمان، ومقام الإحسان؛ والمحروم منه محروم من أهمّ ثمرات الإسلام. وعلينا، نحن المنتسبين إلى هذه المدرسة الربّانية، أن نصحّح المفهوم المغلوط للتصوّف الإسلامي؛ ونوضّح صورته الناصعة؛ وأن ننقّيه من الشوائب، وننفي عنه كلّ مدسوس عليه. كما أنّ علينا كشف أدعيائه، والردّ على خصومه وأعدائه؛ وتقديم الدليل لطالب الحقيقة: أنّ الطريق أو الطريقة هي الجمع بين الشريعة والحقيقة؛ أي بين الإسلام والإيمان؛ فهي مقام الإحسان؛ وأنّ الحقيقة بلا شريعة باطلة، والشريعة بلا حقيقة عاطلة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • شخص

    كلام جميل لولا لم تذكر الصوفية لأن طريقة ذكرهم مخالف للهدي للبنوي و فيه الكثير من الشركيات.