-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فوضى المُصطلحات بين التّوليتاري والمَزْدكي!!

أبو جرة سلطاني
  • 812
  • 2
فوضى المُصطلحات بين التّوليتاري والمَزْدكي!!

من السّهل أن ترمي خصمك بتُهم ثقيلة كالتّخلّف والرّجعيّة و”التّوليتاريّة” الشّموليّة. والماضاويّة، والإسلاماويّة، والتزمّت، والانطواء .. فيقذفك بتُهم مماثلة كالتنكّريّة و”المزدكيّة” الشّيوعيّة. والماركسيّة والتروتسكيّة والماويّة والوجوديّة والزّندقة والإلحاد.. ولكنْ من الصّعب أنْ تُثبتا التُّهم المُتقاذَف بها بينكما. وأنْ تُحدّدا مضامين هذه المصطلحات، وأن تقيما الدّليل على وجودها فيك أو فيه، إذا تواجه الفكر بالفكر في ساحة حريّة وحوار. وهذا لون من ألوان “العنف اللفظي” المُؤدّي إلى عنف مادّي، إنْ لم تلجماه بالحكْمة وبضبط النّفس. فالكلمة النّابيّة سلاحٌ معنوي قد يتطوّر إلى عنف جسدي، إذا صارت الحريّة فوضَى، وصار لكل متكلّم سلاحُه الذي يحمي به نفسه ويهاجم به خصْمَه ويقتل به خصمه الإيديولوجي. فالحربُ أوّلُها كلام، والنّار من مستصغر الشّرر.
أخطر جوارح الإنسان، على نفسه وعلى المجتمع والتاريخ، هو لسانه، إذا لم يكون الخطاب سديدًا. وأعظم ما تفخر به البشريّة، بعد العقل، هو ابتداعها وسائل راقيّة للتّواصل مع بعضها، حتّى في أزمنة الحرب، عبْر القنوات السياسيّة التي يسمّونها “الحرب النّاعمة” باستخدام لغة دبلوماسيّة تحوز على قدر مقبول من المجاملة، لتلطيف الأجواء وكسْب ثقة المفاوض، ولكن نتائجها صارمة، ومواقفها حاسمة، والقائمون على إدارتها حريصون على إبقاء “شعرة معاويّة” ممدودة بينهم وبين من تجمعهم بهم مصالح مشتركة. باستبعاد قاموس العنف اللّفظي، وكل ما له صلة باستفزاز المشاعر واستثارة العواطف والإساءة إلى النّظير.. لكنّ عيون القوم مفتوحة على غاياتهم بزاويّة منفرجة. فمرونة اللفّظ تُبْقي باب الحوار نصْفَ مفتوح، ولطافة الأسلوب تستبعد مصطلحات التّهديد والوعيد، والأسود والأبيض، والحلال والحرام، والخطأ والصّواب.. فذلك كفيل بسلّ شعرة المصلحة من عجين الخصومه دون أن تترُك نُدْبةً قد تتسبّب في أزمة سياسيّة.
بهذا الأسلوب الدّبلوماسي الرّصين يمكن أن يصبح كل حامل فكر، وكلُّ صانع رأي، وكلُّ مؤثّر في مسار الأحداث، مفكّرا دبلوماسيّا ناجحا في ميدان تخصّصه، إذا نجح في تدريب عقله على إتقان ثلاث وسائل يحتاجها كل من يتصدّر المجالس ويحاور الناس.
ـ انتقاء الألفاظ المناسبة لموضوع النّقاش، فإنّ لكل مقام مقال.
ـ افتراض وجود قدْر من الصّواب في خطاب من تحاوره، فالحقّ المطلق يلغي وجود الآخر. ليكون هامش النقاش بينكما متحرّكا في المنطقة الرّماديّة على النّقاط المرْجوحة.
ـ الاتّفاق على مضامين المصطلحات التي تستخدمانها في النقاش: ما معنى يساري؟ ما المقصود بيميني؟ هل بين اليمين واليسار حدود مشتركة؟ ما هو مناط الخلاف؟
ومهما كان موضوع الحوار حسّاسا، فإنّ المُنطلق السّليم هو حسْن النيّة، والحرص على إبراز القواسم المشتركة بين المتحاورين، بعيدا عن منطق الغلبة، وعن شهوة تسجيل الأهداف في مَرْمَى الخصم الإيديولوجي. فالغَلبَةُ لا تعني شيئا سوى توسيع رقعة الخصومة، إذا علَتْ المواقفُ وانكسرتْ العواطفُ، واستولَى طرف واحد على زمام تسيير الدفّة وترجيح الكفّة، واستفحل الخصام واخشوشن الكلام.. ورُفعت الأقلام. فالحوار المرغوب في بعثه وتنشيطه وترقيته، لا يتعلّق بعقائد النّاس وخصوصياتهم وأسرارهم وما يعبدون.. فتلك مسائل ذاتيّة لا تقبل النّقاش ولا الإذاعة والنّشر والإشهار، إذا آثر أصحابها تغطيتها واستأثر كل واحد منهم بأسرارها. إنما الحوار يتوجّه إلى القضايا ذات الآثار المتعديّة، التي لها تأثير سلبيّ على من تعوّدوا إصدار أحكام قيميّة ضدّ من لم يعرفوهم ولم يسبق لهم أن حاوروهم في نقير ولا في قطمير. فإذا كان الإسلام ملكيّة عامّة غير قابلة للاحتكار باسم الشّموليّة (التّوليتاريّة)، فإنّه ـ من باب أولى ـ أن تكون الشّيوعيّة والاركسيّة والتّروتسكيّة والمزدكيّة.. والأمميّة الاشتراكيّة وشؤون الحكم والسياسة.. كلها من الأملاك المشاعة التي لا حقّ لأيّ جهة في احتكارها وتأميمها والزّعم بأنها “شأن شخصي”. وعلى المتحدّثين باسمها، كما على الناطقين باسم الإسلام، أن يورون صفحةَ وجوههم ويحدّدوا مضامين مصطلحاتهم ولغة خطابهم.. لنعرفهم ونسألهم عما يحدّثون به أتباعهم في الدّهاليز والكهوف والجلسات المغلقة. فالزّمن شفّاف والدّهر كشّاف.
ليس من الشّهامة أنْ يحمل المرء فكرا ويتحرّك به في الخفاء ليجمع حوله أنصارا ويشكّل لنفسه بهم بطانة، لها مخالب يخمشون بها وجوه خصومهم، ثم لا ينبري من بين الناس مفكّر يرافع عن حقّ الرّأي العام في معرفة حقيقة من يخالفونه الرّأي حتى يتعرّفوا عن ملامح وجوه المتطرّفين ذات اليمين وذات الشّمال. فالفكرة إذا خرجت من عقل صاحبها صارت ملْكيّة عامّة، من حقّ كل من سمع بها أن يسأل عنها، ومن واجب القائمين على صناعتها والتّرويج لها أن يحاوروا الناس حول منطلقاتها وأهدافها ومراميها. وأول ما تجب معرفتُه هو تحديد مضامين المصطلحات التي يتقاذف الأتباع حجارتها دون أن يحدّدوا مضامينها: ما معنى سلفي؟ وما دلالة لفظ شيوعي؟ وما هو مفهوم وطني؟ ما معنى إخواني؟ ما هو مضمون التروتسكيّة.. إلخ. فإذا كان القانون ينصّ على أنه ليس من حقّ الخطاب السّياسي احتكار الرّموز الوطنيّة، فإن من حقّ المثقّف أن يعرف حدود هذه الرّموز الوطنيّة !! وأخيرا: هل حريّة التعبير تمنح لصاحبها صكًّا على بياض للتّشهير بالنّاس وكشف عوراتهم؟ أم أنّ هذا الفعل داخل في مفهوم “العنف اللفظي”؟
إنّ غموض كثير من المصطلحات التي تلوكها أشداق أنصاف المثقّفين، دون سؤال عن فحواها، قد ساهم في تعميق الفجوة بين النّخب، وصارت مصدرا مقلقًا لكثير من زعماء الدّكاكين الإيديولوجيّة. فالمتطرّفون تلقاء النّزْعة المزدكيّة يتوجّسون من الخطاب الدّيني، ويبحثون بالملقاط عن كلّ صوْت متطرّف، وعن كلّ فتوى غريبة، وكلّ سلوك متهوّر، يصدر عن أحد المنتمين لما يسمّونه “التيّار الإسلاماوي” لينقضّوا على فريستهم صائحين: “هذا هو الإرهاب الإسلاماوي” !! طمعا في ضرْب الإسلام باسم التطرّف. والمتطرّفون من “التّوليتاريين” يرون المزدكيّين جميعا دخلاء على الأمّة والوطن والتاريخ.. وينبغي أن يُنفوا من الأرض ويُقطع دابرهم وتُستأصل شأفتهم !!
والحُكْمان متطرّفان، لأنّهما صادران ضدّ هيئتيْن معنوييْن غائبيْن، لم يسمع الرّأي العام شهادتهما، ولم تتطوّع النّخب بالمرافعة عنهما. وصدور الحكم الغيابيّ يعطي لصاحبه حقّ الاستئناف، إذا أبدى الاستعداد للإدلاء بشهادته وتبرئة ذمّته.
اليسار واليمين كلاهما في قفص الاتّهام، لأنهما تبادلا القذف ضدّ بعضهما، والقذف مُجرَّم دينا وأخلاقا وعُرفا وقانونا. وهما مدعوّان لإثبات أو نفي ما تقاذفا به، والاحتكام إلى طاولة حوار أو مناظرة أو منتدى أو حلقة علم.. يعرض فيها كل طرف وُجهة نظره أمام الرّأي العام الذي صار ضحيّة لتقاذف يمين متطرّف ويسار متحامل ووسط ساكت عن واجب تجسير العلاقة بينهما. والخاسر الأكبر هو الوطن.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • محمد

    ما ضيع الوطن إلا أشباه المثقفين وقصيروا النظر ، ليت قومي يفهمون مقالك ويناقشون فكرتك .

  • العمري

    غريبة المقابلة بين "التّخلّف والرّجعيّة و”التّوليتاريّة” الشّموليّة. والماضاويّة، والإسلاماويّة، والتزمّت، والانطواء" وهي فعلا صفات سلبية ، وبين " ”المزدكيّة” الشّيوعيّة. والماركسيّة والتروتسكيّة والماويّة والوجوديّة" وهي فلسفات وايديولوجيات يمكن أن نختلف معها ولكن ليست على الاطلاق رذائل ندينها أو عار نلصقه بمن يؤيدها.