-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في ذكرى ميلاد خير أسوة وأفضل قدوة (1)

سلطان بركاني
  • 408
  • 0
في ذكرى ميلاد خير أسوة وأفضل قدوة (1)
ح.م

لا تزال الأمّة المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها تعيش نفحات الذّكرى 1494 لميلاد الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتستذكر ذلك اليوم الأزهر الذي ازدانت فيه الدّنيا وأنارت فيه الأرض بولادة خير خلق الله، كيف لا وقد رأت أمّه آمنة قبيل ولادته كأنّ نورا عظيما خرج منها.. تتذكّر الأمّة ذلك اليوم وتلك السّاعة لتحمد الله على ولادة وبعثة من جعله الحنّان المنّان – سبحانه – سببا في بيان المحجّة ووضوح الطّريق الموصل إلى رضوان الله، ومن جعله ربّه أفضل قدوة لمن أراد النّجاح والسّعادة في الدّنيا والنّجاة والفلاح في الأخرى.. كيف لا وقد قال المولى سبحانه مخاطبا عباده: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)).

قدوة الدّعاة وأسوة المربّين

الحبيب المصطفى –صلّى الله عليه وآله وسلّم- قدوة السّالكين ومنار السّائرين.. يجد فيه كلّ عبد مسلم قدوة له أيا كان وضعه وحاله، وأيا كانت مسؤوليته ومقامه.. يجد فيه الداعية إلى الله وإلى دين الله، خير قدوة وأسوة، في صبره على طريق الدّعوة وتحمّله شتّى صنوف الأذى، من القريب والبعيد، وفي حمله همّ هداية النّاس باللّيل والنّهار والدّعاء لهم بأن يهديهم الله وينقذهم من النّار، وهو -صلوات ربّي وسلامه عليه- الذي لم يزد حين آذاه قومه وبالغوا في أذيته إلا أن قال: “اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون”.. رموه بالحجارة وأدموا عقبيه ووضعوا سلا الجزور على ظهره وخنقه شقي من أشقيائهم خنقا شديدا، واتّهموه بالجنون والسّحر، ومع ذلك ظلّ يتمنّى هدايتهم ويدعو لهم الله بأن لا يعذبهم.. فها هو يقول يوما لعائشة: “لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، ذلك فيما شئت، إن شئتَ أن أطبقُ عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً”” (رواه البخاري)..

وعندما قدم عليه الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إنّ دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقال بعض الحاضرين: هلكت دوس، لكنّهم فوجئوا بالنبيّ –عليه الصّلاة والسّلام يقول: “اللهمّ اهد دوسا وأت بهم” (رواه البخاري). وقيل له يوما: يا رسول الله! أحرقَتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال: “اللهم اهد ثقيفا” (رواه الترمذي بسند صحيح).. وقيل له يوما: يا رسول الله! ادع على المشركين، فقال: “إنّي لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة” (رواه مسلم). بل حتى اليهود الذين عادوه بعد الهجرة ومكروا به، كان حريصا على هدايتهم، وعندما أراد أن يغزوهم في خيبر، انتدب لهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الذي قال: “نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟” فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم” (رواه البخاري ومسلم).. فلا إله إلا الله ما أعظم هذا الرّجل، الذي صدق فيه وصف العليم الخبير سبحانه: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين))!

يتعلّم الدّاعية إلى الله من سيرة الحبيب المصطفى – عليه الصّلاة والسّلام – ألا ينتقم لنفسه وأن يكون انتقامه لله ولدينه فقط، فقد تواتر عنه من سيرته أنّه “مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”.. ويجد الدّاعية في سيرته –صلّى الله عليه وسلّم- خير أسوة وأفضل قدوة في التيسير على النّاس ورفع الحرج عنهم.. كيف لا وقد كان عليه الصّلاة والسّلام ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.. ووقف في حجّة الوداع يفتي أصحابه في أمور حجّهم، فكان كلّما سئل عن تقديم أو تأخير شعيرة، قال: “افعل ولا حرج”، وأوصى–عليه السّلام- الدّعاة من بعده فقال: “يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا”(رواه البخاري).. وقال لأصحابه حينما ثاروا على الأعرابيّ الذي بال في المسجد: “دعوه، وأهرقوا على بوله ذنوبًا من ماء، أو سجلاً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”(رواه البخاري).

الحبيب المجتبى -عليه الصّلاة والسّلام- يجد المعلّم والأستاذ في سيرته خير أسوة وخير قدوة في حسن معاملة المتعلّمين وفي الصّبر على تكرار الكلام حتى يفهم ويحفظ وفي سعة الصّدر أمام توارد أسئلة السائلين وتكرارها.. فعن عائشة -رضى الله عنها- قالت : “كان كلام رسول الله–صلّى الله عليه وسلّم- كلامًا فصلا، يفهمه كل من يسمعه” (رواه أبو داود)، وعن أنس–رضي الله عنه-أن النبي صلّى الله عليه وسلّم “كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثًا” (رواه البخاري).

أسوة القادة والحكّام والمسؤولين

الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- يجد فيه القائد خير قدوة وأفضل أسوة في التّعامل مع رعيته، فقد ضرب –عليه السّلام- أروع الأمثلة في رحمته برعيته وعدله بينها وتواضعه لها.. في زماننا هذا نعجب عندما نرى بعض الزّعماء يتواضعون لشعوبهم ويمشون بينهم في الأسواق، ويركبون المواصلات العامّة.. وربّما ينسى بعضنا أنّ حبيبنا عليه الصّلاة والسّلام، كان كأيّ أحد من عامّة النّاس، لا يتميّز عنهم في لباسه ولا في هيئته.. وكان يجلس على الحصير ويرضى باليسير ويحلب الشّاة ويداوي البعير، ويجلس حيث ينتهي به المجلس، بل كان يقف لمن يريده لحاجة حتى يسمع منه ما يريد.. لا يكلّ ولا يملّ.. بل ربّما تأتيه الفتاة الصّغيرة فتأخذ بيده حيث تشاء..
كان إذا صافح الرجل لم يأخذ يده من يده حتى يكون الرّجل هو الذي ينزع يده.. كان يقود أمّة ويعقد الألوية ويأمر ولكنّه لم يكن له حجّاب ولا كان يغلق دون النّاس الأبواب.. كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم.. كان يتخلف في المسير فيعين الضعيف ويردف العاجز ويدعو لهم.. كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم.. كان يُدعى إلى خبز الشعير فيجيب.. وكان لا يستأثر عن أصحابه بشيء، ويروي أهل السير أنّه كان مع المسلمين في غزوة بدر سبعون بعيرًا يتعاقبون على ركوبها، وكان رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-وأبو لبابة وعليُّ بن أبي طالب -رضي الله- عنهما يتعاقبون على بعير واحد، فأراد أبو لبابة وعليٌّ أن يؤثِرا الحبيب بالركوب، فقالا: نحن نمشي عنك، فقال: “ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما”، وكان يعين أصحابه في أعمالهم وأشغالهم، حمل معهم الحجارة لبناء المسجد، وكان يوم الأحزاب ينزع التراب حتى وارى التراب بياض بطنه.. كان عليه السّلام يشاور أصحابه وينزل على رأيهم ويأخذ به، رغم أنه –عليه السّلام- مؤيّد بالوحي، وكان أكمل الناس عقلاً وأحسنهم رأيًا.

كان يعدل بين النّاس ويحكم بينهم بالقسطاس المستقيم ولا يحابي قريبا أو حميما أو صاحب مال.. وكان مستعدا لأن يقيم الحدّ على أقرب إنسان إليه لو أخطأ، حيث قال يوما: “أيّها النّاس إنّما أهلك الذين قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت قطعتُ يدها”.. أراد -عليه الصّلاة والسّلام- أن يرسي مبدأ مهمّا يبقى محفوظا في أمّة الإسلام إلى قيام السّاعة؛ أنّ العدل أساس الملك وأساس العزّ والتّمكين، وأساس صلاح الأحوال واستقامة الأمور، وأنّه لا عزّ ولا تمكين ولا صلاح للأحوال إذا كان القادة والمسؤولون يحابون ويجاملون الأقارب أو الوجهاء أو أصحاب الأموال، ويسلّطون العقوبات على بعض دون بعض.. كان قائدنا وقدوتنا-عليه الصّلاة والسّلام- يصغي لكلّ شاكٍ يتحدّث عن مظلمته وينتصر له ويعطيه حقّه، وقد حدث أنّه نهى عن ضرب النّساء فقال: “لا تضربوا إماء الله”، فجاءه عمر بن الخطّاب بعد أيام فقال: ذَئِرنَ النساءُ على أزواجهن، فرخَّص في ضربهن، فأطاف بأزواج النبيّ –صلى الله عليه وسلّم – نساء كثير يشكين أزواجهن، فقال عليه الصّلاة والسّلام: “لقد أطاف بآل بيت محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم”.. بل كان – عليه السّلام – يسمح بأن يؤخذ منه الحقّ، وقد روى أهل السير أنّه يوما كان يَقسم شيئا، فأقبل رجل يزاحم النّاس فأكب عليه، فطعنه رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-بعرجون كان معه فجرح وجهه، فما كان منه –عليه الصّلاة والسّلام- إلا أن قال له: “تعال فاستقد”، أي اقتصّ منّي، فقال الرّجل: “قد عفوت يا رسول الله”.. بل في أواخر أيام حياته قام بين النّاس خطيبا فكان ممّا قال: “فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقدّ منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فليستقدّ منه”.

يتبع بإذن الله…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!