-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في ذكرى ميلاد خير أسوة وأفضل قدوة (2)

سلطان بركاني
  • 217
  • 0
في ذكرى ميلاد خير أسوة وأفضل قدوة (2)
ح.م

لعلّ من أظهر الدّلائل على حكمة العليم الخبير –سبحانه- في رعاية خاتم أنبيائه وإمام رسله، أن جعله خلال 23 سنة بين البعثة والالتحاق بالرّفيق الأعلى، يتقلّب في جلّ الأحوال التي يمكن أن يعيشها الإنسان في هذه الدّنيا؛ كلّ هذا ليتعلّم منهمن رام النّجاح والفلاح كيف يعيش دنياه أيا كانت حاله وأيا كانت ظروفه، ويلتزم العبودية للخالق والمعاملة الحسنة للمخلوقين، ويجعل سعيه متماشيا مع وجهته وسعيه غير متأثّر بتغيّر الأحوال والظّروف.

ذكرنا أنّ الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان أسمى نموذج للدّاعية الحريص على هداية النّاس الهاضم حقّ نفسه المهتمّ بدينه الشّفيق على العباد، وكان أرقى نموذج للقائد المتواضع الذي يتّخذ العدل ديدنا وشعارا ويسعى لإرساء دعائمه بين رعيته، وكان أروع منوال للمعلّم الحليم الصّبور الذي يتخيّر كلماته ويحرص على فهمها وحفظها.

سلوى المبتلين والمحرومين

في سيرة الحبيب المصطفى –عليه الصّلاة والسّلام- يجد المبتلى الذي نزلت به نائبة أو فقد قريبا أو عزيزا خير أسوة وأفضل قدوة.. كيف لا وهو –صلّى الله عليه وآله وسلّم- الذي فقد والده وهو في بطن أمّه وفقد أمّه في السّادسة، وجدّه في الثامنة من عمره، وابتلي قبل بعثته بفقد ولده القاسم الذي لم يتجاوز يومها 17 شهرا من عمره.. ثمّ ابتلي في بداية بعثته بفقد ولد الثّاني عبد الله.. ثمّ ابتلي بعد ذلك في العام العاشر للبعثة بفقد عمّه أبي طالب الذي كان يحوطه ويذود عنه.. ولم تمض سوى أيام معدودات، حتى ابتلي بفقد زوجته الحنون الرّؤوم خديجة رضي الله عنها.. ثمّ ابتلي في العام الثاني للهجرة بفقد ابنته رقية، وهي في الثانية والعشرين من عمرها.. ثمّ ابتلي في العام الثّالث للهجرة بفقد عمّه الأسد الهصور حمزة رضي الله عنه.. ثمّ ابتلي في العام الثامن للهجرة بفقد ابنته زينب وهي في الحادية والثلاثين من عمرها.. ثمّ ابتلي في السّنة التاسعة للهجرة بفقد ابنته أمّ كلثوم وهي في التاسعة والعشرين من عمرها.. وقبل التحاقه بالرّفيق الأعلى بـ6 أشهر، ابتلي بفقد ولده إبراهيم الذي لم يتجاوز يومها 18 شهرا من عمره، فما زاد –صلّى الله عليه وسلّم- على أن قال: “إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون”.. ولم يبق للحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- من أبنائه سوى ابنته فاطمة التي لم تلبث سوى 6 أشهر بعد رحيله حتى لحقت به.. وهكذا؛ فكلّ عبد مؤمن ابتلي بفقد ولد أو والد أو زوج، عليه أن يتذكّر بلاء الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام بفقد أبنائه وأحبّته.

الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، يجد فيه الفقير خير أسوة وأفضل قدوة، ليصبر ويصطبر.. فلَكَم بقي –عليه الصّلاة والسّلام-طاويًا على الجوع، لا يجد ما يأكله، وقد حدث أنّ ابنته فاطمة -رضي الله عنها- جاءته ذات يوم بكِسْرةِ خبزِ شعيرٍ، فأكلها عليه السّلام وقال: “هذا أوّل طعامٍ أكله أبوك منذ ثلاث” (رواه أحمد).. بل بلغ به الأمر إلى درجة أنّه ربط الحجر على بطنه من شدّة الجوع.. كلّ ذلك وهو صابر.

أسوة الأغنياء والموسرين

الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، يجد فيه الغني قدوته، فقد اغتنى -عليه الصّلاة والسّلام- في بعض الفترات وأتته الأموال والغنائم، فما بطر ولا تكبّر ولا أسرف، بل سخّر المال لتأليف القلوب وإعانة المحتاجين.. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “ما سُئل رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإنّ محمّدا يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر” (رواه مسلم).. وأتاه ناس من الأنصار فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: “ما يكون عندي من خير، فلن أدّخره عنكم” (رواه أحمد).

قدوة الأزواج وأسوة الآباء

الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- يجد فيه المتزوّج قدوته ويتعلّم منه كيف يتعامل مع زوجته.. كيف لا وهو –صلّى الله عليه وسلّم- القائل: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”.. كيف لا وهو الذي كان “يمازح نساءه في السرَّاء، ويواسيهنَّ في الضرَّاء. كان سمع شكواهنَّ، ويكفكف دموعهنَّ.. لا يؤذيهنَّ بلسانه، ولا يجرح مشاعرهنَّ بعباراته، ويتحمَّل منهنَّ ما يبدر منهنّ بحكم بشريتهنّ، وما ضرب بيده امرأةً قط. لا يتصيَّد الأخطاء، ولا يتتبَّع العثرات، ولا يضخِّم الزلاَّت، ولا يُديم العتاب. يتحمَّل الهفوة، ويتغاضى عن الكبوة. قليل الملامة، كثير الشكر والعرفان.. رحيما ودودا حتى إنه كان يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع زوجته رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب البعير”.. وحينما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ماذا كان يصنع رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-في بيته؟ قالت: “كان أَلْيَنَ الناس، وأكرمهم. كان رجلاً من رجالكم؛ إلا إنه كان ضحَّاكًا بسَّامًا، كان يكون في مهنة أهله: يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويخدم نفسه. فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة”.

كان –عليه الصّلاة والسّلام- يقدّر الظّروف التي يمكن أن تمرّ بها كلّ امرأة من غضب أو غيرة أو تعب، فكان يعفو ويصفح ويهوّن الأمور ويعالجها بكلّ رفق، وقد حدث أنّه كان يوما عند عائشة رضي الله عنها، وعنده بعض أصحابه، فأرسلت إحدى زوجاته صحفة فيها طعامٌ، فضربت عائشة يدَ الخادم من الغيرة، فسقطت الصَّحْفةُ، فانفَلَقَتْ، فلم يزد الحبيب –عليه السّلام- على أن جعل يجمع الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول لأصحابه: “غارت أمُّكم. كلوا. كلوا”.

قدوة التجّار وأسوة العمّال الموظّفين وأصحاب الأمانات

الحبيب المصطفى يجد فيه التاجر وصاحب الحرفة والمهنة قدوته.. كيف لا وقد ذكرت كتب السير أنّه –عليه الصّلاة والسّلام- كان يلقّب قبل بعثته بالصّادق الأمين، وكان صدقه وأمانته السّبب في زواجه من الحسيبة النّسيبة العاقلة خديجة بنت خويلد.. يتعلم التاجر من الحبيب –صلّى الله عليه وسلّم- الصّدق والنّصح للمشترين والحذر من الغشّ، لأنه –عليه السّلام-قال: “التّاجر الصّدوق الأمين مع النبيين والصدّيقين والشّهداء”.. ويتعلّم منه التّاجر وصاحب الحرفة السّماحة واليسر والبشاشة مع زبائنه، قال عليه الصّلاة والسّلام: “رحم الله رجلا، سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، وإذا اقتضى” (رواه البخاري).. ويتعلّم منه كلّ من تولّى أمانة من الأمانات، حفظ الأمانة والعهود، فقد كان –عليه الصّلاة والسّلام- أحرص النَّاس على أداء الأمانات والودائع للنَّاس حتى في أصعب الظّروف وأحلك الأوقات، وقد ذكرت كتب السّير أنّه لم يبرح مكّة عندما أراد الهجرة حتى ترك خلفه ابن عمّه علي بن أبي طالب وأوصاه بردّ الأمانات أهلها.. لم يمنعه حيف قريش وظلمها من أن يكون أمينا مع رجالها حافظا لعهوده معهم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!