-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قرطبة.. في ظلال عرائش النّخيل

الشروق أونلاين
  • 922
  • 1
قرطبة.. في ظلال عرائش النّخيل
ح.م
قرطبة

عند نهاية القرن العاشرالميلادي استطاع إثنان من الأمراء أن ينقلا المملكة الإسلامية في شبه الجزيرة الايبيريّة إلى مرحلة من الازدهار الثّقافي والفكري لم تعرف الجزيرة في تاريخها مثله قطّ. إلى أن تغلّب على الحكم رجل دولةٍ قويّ من أواسط النّاس ذو نفسٍ توّاقة وقلب طموح، وافرالعزم والدهاء والحزم والصرامة، إنّه المنصور بن عامر الذي قال عنه الشاعر:
آثاره تنبيك عن أخباره حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله أبداً ولا يحمي الثغور سواه.

ورغم أن المنصور كان قد أنقذ الدولة وزاد من قوّتها، ووصلت جيوشه وفتوحاته أراضِ لم تطأها أقدام طارق بن زيّاد ولا موسى بن نصير إلا أنه كان أيضًا سببا في سقوطها، فما أن انتهت سيطرته وإبنيه على مقاليد الحكم في قرطبة حتّى نزلت الدولة إلى ذلك الحضيض من البؤس والإضطراب الذي نصفه تاريخيًا بمرحلة”ملوك الطوائف” والتي مهدت لسقوط الأندلس في النهاية وخروج آخر مسلم من أرض ايبيريا سنة 1614م..

1 – فيض من حنين

بدأت حكاية قرطبة عندما نظرعبد الرّحمان الدَّاخل من نافذة قصره برُرصافة قرطبة فوقعت عيناه على نخلة بسقَت بأرض الأندلس فأيقظت في نفسه الشّوق والحنين الى موطنه بالشَّام فقال مرتجلاً:
تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ
تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى
وطولِ الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ
فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي

وعبد الرحمان بن معاوية هو آخرأموي ينجو من مذبحة العبّاسيين وأوّل أمير يستقلّ بأرض الأندلس ويُؤسّس بها الإمارة الأموية الثّانية. ولد بدمشق سنة 731م لكنّه اضطرَّ للفرارمن مسقط رأسه بعد سقوط حكم عائلته سنة 750م ويُؤسّس إمارة قرطبة سنة 756م وما يُميّز عبد الرحمان الدّاخل عن أحفاده أنّ نفسه لم تحدّثه البتّة بالخلافة رغم أنّها كانت في آبائه، حيث كان يرى بأنه لا يستحقها إلا من ملك الحرمين مكّة والمدينة، فلم يقطع الخطبة للخليفة العباسي حتى عام 757م، بعد عشرة أشهر من حكمه، بعد أن أشار عليه قادته بقطعها، وألحّ بعضهم على ذلك، حتى أن عبد الملك بن عمرالمرواني وهو أحد أبناء عمومته هدده بقتل نفسه إن هو لم يقطعها.

بقيت العائلة المروانية الجديدة بقرطبة تتوارث لقب الإمارة فقط إلى أن تولّى الحكم بعد قرنين من الزّمن عبد الرّحمان الثّالث أحد أحفاذ الدَّاخل فأعلن الخلافة وتسمّى بالنَّاصرلدين اللّه، وورث من جدّه الأوّل عبد الرحمان الشّوق والحنين إلى أرض الفرات ومنبت النّخيل الأولى وذكرى آبائه العظام خلفاء المسلمين بأرض الشّام.

وُلد عبد الرّحمان الثّالث من أمةٍ إفرنجية وعاش يتيمًا في قصر جدّه الّذي قَتل أباه. ثمّ تولّى الحكم بوصيّة منه وكان أوّل من تسمّى بخليفة المسلمين بقرطبة سنة 929م وعمره لا يتجاوز 38 سنة. فعندما بلغه ضعف الخليفة العبّاسي وسيطرة أمراء الدّيلم على الخلافة، وانحصار سلطة الخليفة العبّاسي في دائرة صغيرة حول بغداد، وظهور الدّولة الشيعية الفاطمية في شمال إفريقيا وامتدادها إلى مصر.أرسل منشورًا بالخلافة إلى الولاة جاء فيه: “وقد رأينا أن تكون الدّعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنَّا وورودها علينا بذلك، إذ كلّ مدعوِّ بهذا الاسم منتحلٌ له، ودخيل فيه، ومتسمٌ بما لا يستحقّه، وعلمنا أنَّ التّمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حقّ أضعناه واسم ثابت أسقطناه”. وصل بعدها نفوذ خلافته هو وابنه الحكم المُستنصر من بعده الى مساحات شاسعة من أرض شبه الجزيرة الإيبيرية وبعضَا من شمال افريقيا وبلغت الأندلس في عهدهما ذروة الرّخاء والأمن والمجد.

2 – مسجد قرطبة أَسوِرة الوصل بين أجيال الأمويين

يُعدّ مسجد قرطبة الأسوِرة التي ارتبطت بها سُلالة بني أميّة في الأندلس. بُدِءَ في بنائه سنة 785م تحت حكم عبد الرّحمان الاوّل وظلَّ يتوسّع فأضاف إليه عبد الرّحمان الثّالث بعد 150 سنة مئذنته وقام الحكم الثّاني بتوسيع رقعته وتزيين محرابه وقبّته. ولا يزال هذا الأثر الإسلامي الّذي وصمت به سلالة بني أميّة الجزيرة الإيبيريّة بيّنا إلى اليوم من خلال مئات العرصات والسّواري والأقواس الحمراء والبيضاء المنصوبة على أعمدته التي تنتشر بين أجنحته الأربعة مشكّلة ما يُشبه واحة من نخيل، وزخارف النّباتات الملوّنة والآيات القرآنية المنقوشة على جدرانه، وكذلك قبّته الفسيسِفائيّة على هيئة مِشكال مُذهّب.

وعبر مضيق جبل طارق جاءت السّفن تحمل معها صناديق السّلع والبضائع مثلما تحمل قراطيس الأدب ودواوين الشّعر ولوحات الفن والجمال، بعد أن حوّل الخليفة الأوّل على أرض الأندلس مدينته بنجاحٍ إلى مزارٍ بديلٍ عن بغداد ومقرّا دائمًا للثّقافة والفنون الشّرقيّة، وجعل من مدينة قرطبة بجامعها مكّة الغرب حتّى قال عنها الشّاعر ابن المثنّى شاعر الأمير عبد الرّحمان الثّاني (الأوسط):
بنيت لله خير بيت يخرس عن وصفه الأنام
حُجَ إليه بكل أدب كأنه المسجد الحرام
كأن محرابه إذا ما حفّ به الركن والمقام

لم تكن موجات الزّائرين آنذاك تقتصرعلى المسلمين فقط، بل جاء قرطبة النّصارى مثلما جاءها اليهود.ــ حتّى إنّ من بين مؤرّخي أوربّا اليوم من يرَ في الأندلس الأرض الغربيّة الّتي تحقّقت عليها حكايات ألف ليلة وليلة الخياليّة. فقد كتب الرّوائي جورج بوسونغ عن إمارة قرطبة قائلاً : كان مبدأها ” لا اكراه في الدّين ” فلا أحد كان ملزمًا باتباع عقيدة غير عقيدته، أمَّا الخلافات داخل الطّوائف الدينية اليهودية والنّصرانية فأوكل حلّها إلى أبناء الطّائفة الواحدة ولا تتدخّل السُّلطة السياسية في أمرها إلاَّ قليلا. إنَّ هذا النّوع من الحرّية الدّينية التي كانت في ذلك العصر لا نجد لها الى اليوم شبيها بالمعايير الحديثة لحرية التدين وحرية العقيدة “.

غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ العلاقات بين الطّوائف حافظت دائمًا وفي كلّ الأوقات على تلك العلاقات السّلميّة. ففي القرن التّاسع مثلا انقلب بعض المتزمّتين النّصارى على دين الأغلبية المسلمة في قرطبة والّذين امتلأت نفوسهم غيرة وحقدا ولم يستطيعوا كبح جماح بغضهم للإسلام والمسلمين دون سبب. فقد تركهم المسلمون أحرارا وما يعبدون منذ أيّام الفتح الأولى، ولم تتدخّل السّلطات السياسية المسلمة قطّ في حياتهم الدينية. لقد تسمى هذا التيار بالإستشهاديين وصاروا يسبّون دين الإسلام ونبيّه وتشوّفوا إلى الموت على منصّات المشانق وآثروا أن يعذّبوا ويُضطهدوا وكان سخطهم يحتدّ ونفوسهم تهيج كلّما قابل المسلمون ذلك بالعفو والتجاوز. غير أنّها تبقى حالات فردية وردود أفعال تمثل نشازا لا يُعتدّ به، كما قوبل هذا التّيار المتزمّت بالرّفض داخل الطّائفة النّصرانية نفسها وحُورب إلى أن عادت الأمور إلى سابقتها.

لقد نجح عبد الرّحمان الثّالث المكنّى بالنّاصر والّذي حكم خمسين سنة كاملةً في إخماد جميع الثّورات وتحقيق السِّلم داخل مملكته، ودفع إعتداءات الممالك النّصرانية في الشّمال وتصدّى للفاطميين بشمال إفريقيا.كما استطاع أن يُحوّل الخلافة إلى قوّة تطلب باقي الممالك ودّها ومسالمتها والحِلف معها. وبفضل الاستقرار السياسي والمغانم العسكرية، انتعشت الأندلس في عهده اقتصاديًا وثقافيّا وعسكريًا، مما جعل قرطبة وجهة للبعثات الدبلوماسية من أقطار مختلفة تسعى لخطب ودّ عبد الرحمن الناصرأو طلب الدعم منه.

3- خلفاء ولكن مثقّفون

عندما أعلن عبد الرحمان الثّالث الخلافة على أرض الأندلس وجد أنّ عاصمة الإمارة لم تعد تكفي مقرّا للحكم الإسلامي الجديد، فأمر سنة 936م ببناء مدينة الزّهراء، خمسة أميالٍ بعيدًا عن قرطبة في سفح جبل العروس. وحسب الأسطورة فإنّ الزَّهراء هو اسم لإحدى جواري الخليفة التي شُغف بها حبًّا والتي أشارت عليه ببنائها، وقد احتوى مقرّ العاصمة الجديدة على جامع و حديقة للحيوانات والطّيور وحمّامات وأسواق وجداول وسواقي مياه وحدائق وبساتين وجامعة وحوانيت ودكاكين، أمّا قلبها النّابض فكان مكتبتها التي كانت تعجّ بنحو 400 ألف مجلّد مكتوب باليونانية واللّاتينية والفارسية والعربية، ويعمل بها المترجمون من كلّ الأجناس والطّوائف الدينيّة.

ولمّا توفّي عبد الرحمان الثّالث تولى الحكم ابنه الحكم الثّاني الّذي عرفت في عهده المملكة أوجها الثّقافي وتحوّلت الزّهراء إلى مركز إستقطاب للفنون والعلوم مثلما قال مؤرّخ الفنون هونريك كارغا:” لقد كان للجبر والكيمياء والخوارزميات جذورها هنا في الأندلس. دون شكٍّ لقد كانت الأندلس الإسلاميّة مهدًا للعلوم”.

لقد نجم عن سياسة التّمازج والتزاوج بين الطّوائف الدينية والأعراق المختلفة أن صارت الكثير من النّساء النّصرانيات أمّهات للأمراء والخلفاء في الأندلس، كما اشترى عبد الرحمان وابنه الحكم الكثيرمن العبيد من ممالك أوربا حتى بلغ عددهم 10 آلاف شاركوا في بناء المسجد الكبير وزيّنوا قبّته ب600 كيلوغرام من أحجار الفسيسفاء وشيّدوا أربعة آلاف عمود تحمل أركان العاصمة الجديدة (الزّهراء) كما اعتنوا باقتصاد الزّراعة في عاصمة الخلافة المزدهرة. والشّيء الّذي كان يُميّزهم أنّهم لم يكونوا مهضومي الحقوق بل كان يحقّ للواحد منهم أن يحاكم مالك الأرض التي يعمل فيها أو سيّده إذا كلّفه ما لا يُطيق أو أساء معاملته.
لكنّ ما ميّز الحكم الثاني عن أبيه أنّه بالغ في اقتناء الكتب وشرائها مهما كلّفه ثمنها فاجتمع في المدينة في عهده من الكتب والاسفار ما لم يجتمع في مدينة اخرى في العالم، بقول ابن خلدون:” كان يبعث في شراء الكتب الى الأقطار رجالا من التجار ويرسل اليهم الأموال لشرائها، حتى جلب الى الأندلس ما لم يعهدوه وبعث في طلب كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني ــ وكان نسبه في بني أمية ــ وأرسل إليه ألف دينار من الذّهب العين، فبعث اليه بنسخة منه قبل أن يخرجه الى العراق. وكذلك فعل مع القاضي الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق بصناعة النّسخ والمهرة بالضّبط والاجادة في التجليد فأوعى في ذلك كلّه. فاجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحدٍ من قبله، ولا من بعده، إلاّ ما يُذكر عن النّاصر العبّاسي ابن المستضيء، ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر….”
وبموت الحكم الثّاني كانت الحضارة الإسلامية بقرطبة قد بلغت أوج ازدهارها وعصرها الذّهبي. إلاَّ أنَّ ستائر الظّلام بدأت تلفُّ هذه الأسورة المتلألئة على الأرض وبدأت جواهر العقد في الإنسلال مثلما استنتجت الرّاهبة روزفيتَّا السّكسونيّة من أحد تقارير رسل الملك أوتو الأوّل إلى قرطبة.

4- إنهيار الإمارة المفاجئ

لمّا مات الحكم الثّاني سنة 976م لم يترك إلاَّ صبيّا يرثه ويحمل على أكتافه هذا الملك العظيم. فقد تولّى الخلافة هشام وعمره لا يتجاوز اثنتي عشرة سنة تحت وصاية أمّه صبح البشكنسية وكنفِ وزيره الحاجب أبي عامر المنصور، وكان أبوعامر إِمرِءً ذا همّة عالية وعزيمة لا تعرف العجل أو الكلل، وطموحٍ لا يروِ لهيبه إلاّ الملك.

بدأ حياته حمّارا ينقل أرزاق النّاس وبضائعهم، ثمّ أتى إلى الزّهراء وافتتح دكانًا أمام قصر الخليفة يكتب فيه الرسائل والعرائض لأصحاب المصالح، فلفت نظر من في القصر بأسلوب كتابته وجزالة عباراته فنُقلوا خبر أمره الى الحكم الثّاني فأعجب به و قلّده المراسم حتّى جعل منه أحد وزرائه. كما جمع المنصور الى جانب القوّة والطّموحِ الحيلةَ و الدّهاءَ فكان لا يتردّد في الإطاحة بمن يحول بينه وبين طموحه حتّى أزاح جميع من كان يرى فيهم منافسًا أو خصمًا.فلمّا خلت له الأجواء حجرعلى الخليفة الصّبي هشام المؤيّد باللّه وقيّد سلطاته وواراه عن الأنظار والأسماع ومنعه من الخروج للناس، وجعل مقابلته لا تمّرإلاَّ عبره وفي حضوره حتّى لم تعد الألسن في قرطبة تتناقل إلاَّ اسم ابن أبي عامر. وحتّى تطيب سُمعته أكثر عند الفقهاء والعامّة قرّر أن يتخلّص من جميع كتب الفلسفة التي جمعها الحكم بمكتبة الزّهراء والتي كانت تُمثل في أعين الفقهاء هرطقةً ومخالفةً لأصول الدّين ولم يستثن منها إلاَّ القليل.

ثمّ أعاد تنظيم الجيش على طريقته وأعلن مواصلة الجهاد ضدَّ الممالك النّصرانيّة في شمال شبه الجزيرة الإيبيريّة، فسار هو نفسه إلى مدينة شانت يعقوب دي كومباستيلا التي تحوي الكنيسة المقدّسة عند النّصارى وقبر الحواري يعقوب حسب الرّواية النّصرانيّة فحاصرها ثمّ استولى عليها وأحضر أجراسها إلى مسجد قرطبة. كما زاد من مساحة دولة الخلافة الجديدة وضبط حدودها.

لكنّ المنصور لم يدرك أنّه رغم كلّ ما أحرزه من مظاهر السلطان والمجد وما أحرزه من انتصارات على نصارى الشمال واذلالهم وما أسبغه حكمه على الأندلس من أسباب السكينة والعزة والأمن والرخاء، ورغم انّه لم يستخدم سلطانه إلاّ لخير دينه وتفانيه في الذود عنه وخيرالامة التي نصب نفسه حاكما عليها واخلاصه في خدمتها الا ان ذلك لم يكفِ لحمل الشعب القرطبي على نسيان قضية خليفته الشرعي. أضف الى ذلك كلّه أنّ تلك الوسائل الدموية التي كان المنصور يلجأ اليها ليتخلّص من خصومه ومنافسيه كانت تباعد بينه وبين الشعب، فما كان الشعب ليمنح المنصور حبّه وولاءه وإنما كان يتوجّس منه خيفة ورهبة وهذا ما اشار اليه ابن حيان وهو يشرح العيوب الباطنة والخفيّة التي أدّت الى الانهيار المفاجئ لذلك البناء العتيد الذي بدأه عبد الرحمان الاول وأتمّه عبد الرحمان الناصر وهي عيوب بدأت في أواخر عهد الحكم المستنصر ثم استفحلت في عهد الدّولة العامريّة رغم أن الأمجاد العسكرية والقوة الظاهرة كانت تلقي حجابا كثيفا سترها عن الأبصار.

لقد كانت الفتنة جاثمة تحت هذه القشرة الظاهرة من القوة والعظمة، فلمّا تصدّعت واجهة الدولة بعد وفاة المظفّر بن المنصور اذا بالبنيان الشامخ ينهار في لحظات معلنا بداية نهاية الأندلس.

إنَّ ابعاد المنصور لهشام عن الحياة السّياسية وقضائه على كل مؤهّل في البيت الأموي لتوليّ السّلطة من بعد الحكم الثّاني بدل هشام الصّبي، وقضائه على كامل منافسيه ومطاردته للبيوتات القرطبيّة العريقة التي استند إليها الأمويّون لتعضيد سلطانهم كانت من الأسباب الرّئيسية لهذا الإنحدار. يقول ابن حيّان: ” إن المنصور بن أبي عامر لما استولى على مقاليد الأمر حجر على الخليفة هشام واستظهر بهؤلاء البرابرة وعلاهم على طبقات أجناد الأندلس فانتهى بهم الأمر إلى ما هم بصدده: من إبطال الخلافة، وتفريق الجماعة، والتّمهيد للفتنة، والإشراف بالجزيرة على الهلكة ” فتحوّلت الأندلس إلى جمرةٍ تحتدم ونارًا تضطرم نفاقًا وشقاقا”.
لقد فتح موت المنصور وإبنيه الباب واسعًا للتنافس على السّلطة بين أمراء أمويين ضِعاف لم يستطيعوا الدفاع عن كرسيّ الخلافة ولا المحافظة عليه حتّى جاء الوزير ابن جهور وقضى على الخلافة الأمويّة نهائيّا سنة 1031م وطارد الأمويّين فتواروا عن الأنظار ولم يعودوا إلاَّ ذكرى من الماضي جميلة يستأنس بها أهل الأندلس كلّما ألمّت بهم المحن والشّدائد.

بدأ بعدها ما يُعرف بفترة “مماك الطّوائف”، فتفرّقت كلمة الجماعة وتفكّكت كورها وولاياتها التي كانت فيما مضى تمثّل طوقها الّذي يحميها من كلّ خطرٍ وشرّ. لكنّ الأمر يبقى عجبَا فرغم كلّ ذاك التّفكك والإضطراب السّياسي والتراجع العسكري إلاَّ أنَّ الثّقافة بقيت تشّع وتزدهر. إنَّ الشيء المميّز لهذه الحقبة أنّ كل ملك من ملوك الطّوائف أحاط نفسه بأفضل الأدباء وأنبغ الشّعراء وأبرع العلماء بل إنّ منهم من كان هو نفسه قاضيًا أو فقيها أوفلكيّا أوشاعرَا.غير أنَّ ممالكهم بدأت تتآكل وتقلّصت حدودها لصالح ممالك الشّمال النّصرانية حتّى تدخّل المرابطون من شمال افريقيا فقضوا عليها وأوقفوا الزّحف النّصراني بعض الوقت.

لم يبق اليوم من قرطبة الإسلامية إلاَّ القليل فكلّ شيءٍ اندثر إما بفعل الإنسان أو الزّمان فقصر عبد الرحمان الأوّل لم تبق منه إلاّ بعض الأسوار، والزّاهرة التي بناها المنصور لا أثر لها أمّا الزّهراء عاصمة الخلافة فلم يبق منها إلاَّ أشلاء وأطلالٌ وأجزاء غرف ودور، وجدران أبهاء، ومكان مسجدٍ، وتقاسيم بساتين وروضات لا يزال بعضها مطمورًا تحت التّلال والأكمات.

أمّا وسط قرطبة فلا أثر إلاَّ لبقايا أبواب، وسوقٍ، وبعض المآذن التي يصعب تمييزها بعد أن أضيفت إليها الأجراس وعلت رؤوسها الصّلبان. أمَّا الشّيءَ المميّز فيها فهو مسجدها الكبير(مسجد الحضرة) الّذي تحوّل إلى كنيسة عندما دخلتها القوات القشتاليّة سنة 1236م. ومع بداية سنة 1607م أعلن عن الإنتهاء من بناء الكاتدرائيّة بين سواريه والتي تختلف في شكلها عن النّمط المعماري الشّرقي، ممَّا أثار إشمئزاز الملك شارل الخامس الّذي لم يكن قد رأى المسجد من قبل، فلمّا زار موضع البناء سنة 1526م وهو في طريقه إلى اشبيليا راعه ما رأى فقال متذمّرًا: ” لو كنت قد علمت ما وصل إليه ذلك، لما كنت قد سمحت بأن يمسَّ البناء القديم، إنّ الّذي بنيتموه موجود في كلّ مكان، أمّا الّذي هدمتموه ففريد في العالم ولن تجدوه في أيّ مكان”. لقد هدموا واحة نخيل على أرض أوربَّا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • Mohammed

    أشواق الآخرين تخلق أساطير الأولين. قالك الحرية الدينية!! تدخل داره بالقوة وتجعله مواطنا من الدرجة السفلى وتتعدى على حريمه وتسمي ذلك عدالة وتسامح!! خلق الله ما يشاء من العقليات. أعظم الجسور وقنوات المياه المعلقة والمسارح والطرق المعبدة في إسبانيا تركها الرومان.