-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كورونا.. ومهاراتُ إدارة الذّات

ناصر حمدادوش
  • 1004
  • 1
كورونا.. ومهاراتُ إدارة الذّات
ح.م

الوقت والفراغ من أعظم نِعم الله تعالى على العبد، وهو الوعاء المستوعِب للعمر والعمل، وعدم الانتباه إليه هو مشكلةٌ حقيقية للإنسان يجب التذكيرُ بها والتحذير منها، قال صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصّحة والفراغ”. والتعاطي مع الزّمن هو مسؤوليةٌ خاصّة، وسيضع الفشل في التّناغم معه تحت طائلة المحاسبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع..”، ومنها اثنتان متعلقتان بالوقت: “عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره في أفناه..”، فالمرء يحاسَب بمقدار ما يُعطى.

والوقت من الكنوز التي يجب أن تُغتنم، لأنه لا يُباع ولا يُشترى، ولا يُستأجر ولا يعوَّض، ولا يُستعار ولا يُخزَّن، ولا يُوقّف ولا يُسترجع، قال صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمسًا قبل خمس..”، ومنها: “شبابَك قبل هرَمِك، وحياتَك قبل موتك.”. وقد تدخّلت قدرةٌ إلهية بأزمة كورونا، وفرضت حجرًا صحيًّا عامًّا على الأفراد والدول، وهو ما غيّر نمط الحياة، وأعاد ترتيب الأولويات والعلاقات، ووفّر فيما يبدو للناس أوقاتٍ وفراغات، وهو ما يدفعنا إلى إعادة التفكير في مهارات إدارة الوقت وإدارة الذّات، فالوقت من أخطر التحدّيات التي تواجه الإنسان بكثافة، فالبعض يشتكي من ضيقه، والآخر يتحسّر من سرقته، والبعض يتذمّر من الفوضى فيه، والآخر يتمنّى طوله أو يريد قِصره، وهو ما يؤكّد على أزمة العلاقة بين الإنسان والوقت، والتي تحتاج إلى معالجة. ورغم القيمة الاستثنائية لهذا الكنز إلاّ أنّ من أخصّ خصائصه أنه مِلكٌ مشتركٌ بين الجميع: بين الأغنياء والفقراء، وبين النّاجحين والفاشلين، وبين المؤمنين والكافرين، وبين الصّالحين والطّالحين، وبين الأذكياء والأغبياء، وبين الأقوياء والضّعفاء، فقد منَح الله تعالى الجميعَ نفسَ القطعة الزّمنية، فالكلُّ يملك نفس السّنة بـ24 شهرًا، ونفس الشّهر بـ30 يومًا، ونفس اليوم بـ24 ساعة، ونفس السّاعة بـ60 دقيقة، ولكن لماذا يتفاوت النّاس في العطاء والإنجاز والنّجاح؟ إنّ هذا التفاوت يُثبت أنّ المشكلة في الإنسان وليست في الوقت، وأنّ الحدَّ الفاصل بين الناجحين والفاشلين هو مهارة الإدارة النّاجحة للوقت، والذّكاء في التعاطي الإيجابي مع الزّمن، والقدرة على التوازن بين حجم الرّغبات والقيام بالواجبات وتحقيق الأهداف. والسّر أنّ النّاجحين والمنجِزين يستغلُّون أوقاتهم بفاعلية، ويتقنون فنّ إدارة هذه الوقت بكفاءةٍ متميّزة، والأمر لا يتطلّب إلاّ قليلاً من التخطيط ورسم الأهداف وترتيب الأولويات والذهاب بقوّة إلى العمل، وبينما يرى البعضُ في التخطيط مضيعةً للوقت فهو في حقيقته يوفّره بفاعلية؛ إذ أنّ ساعةً واحدةً من التخطيط قد توفّر حوالي 4 ساعات من الزّمن. والمقصود بإدارة الوقت هو عملية التخطيط الذّكي والتحكّم الواعي فيه، بهدف زيادة الفاعلية والكفاءة والإنتاجية أثناء أداء المهام والقيام بالأعمال، على اعتبار أنه من أهمّ موارد الإدارة الفعّالة، والهدف من ذلك ليس مجرّد القيام بالواجبات بقدر ما هو ترتيبٌ للأولويات وتحقيقٌ للأهداف بأقلّ تكلفةٍ ماديةٍ أو زمنية، لأنّ الواجبات أكثر من الأوقات.

هل هناك وُجودٌ مادّيٌّ للزّمن؟ إنّ اتّساع الزّمن ليس هو الفرصة الحقيقية للنّهوض بالأعمال والقيام بالواجبات، وليس هو السّانحة للإنتاج والإنجاز كمًّا ونوْعًا، وأنّ ذلك ليس صحيحًا من النّاحية العلمية، إذ أنّ الزّمن لا حقيقة مادِّية لوجوده، وهو لا ينشأ إلاّ من الحركة والعمل، وهو ما يُعبَّر عنه بالبُعد الرّابع، فالجسم الثابت له ثلاثة أبعاد: طولٌ وعرضٌ وارتفاع، ولكنه عندما يتحرّك ينشأ هذا البُعد الرّابع، والذي يُسمّى معرفيًّا: الزّمن، وبالتالي فهو لا وجود له إلاّ بوجود الحركة، وهو ما يعني أنّ العمل هو الأصل، وما الزّمن إلاّ ظلٌّ تابعٌ له وليس العكس، وأنّ الزّمن هو أشبه بذلك الوعاء المطاطي الصّغير، القابل للتمدّد كلما حشوناه بالهواء ليتّسع حسبما نريد، وكذلك الزّمن هو مجردُ وعاءٍ معنوي يتّسع بمقدار ما نحشوه بالأعمال العظيمة، وهو يسَعُها كما نريد لا كما يريد، وما العمر الحقيقي والزّمن الفعلي إلاّ مجرد ما نملؤه بالإنجازات، وأيّ فراغ من دون فعل هو ضياعٌ في غياهب الحسرة والحزن والكآبة، وإنّك لتجد حقيقة ذلك في قوله تعالى عن أعظم أمنيةِ الميّت، بأن يعود إلى العمل وليس إلى الفراغ، فقال حكايةً عنه: “حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ..” (المؤمنون: 99). وهو ما يعني أنّ لمفهوم الزّمن -من النّاحية الشّرعية- فلسفةً تتجاوز المفهوم الفيزيائي والميكانيكي له، وأنّ خاصية النّسبية هي مَن تثبت العلاقة التناسبية بينه وبين حجم الإنجازات الدنيوية والأخروية للعباد. وهناك من ينتهي به الزّمن بعمر الجسد الذي يوضع في التراب، فيموت كما يموت الذباب، وهو لا يكاد يُذكر لا حيًّا ولا ميّتًا، وهناك من يمتدّ به العمر متجاوزًا به حياة الجسد، فيمتدُّ ذِكرُه مع الزّمن بحسب ما تركه من الآثار والإنجازات في الحياة، وهي إحدى الحقائق الخفيّة والأبعاد العميقة في قوله صلى الله عليه وسلّم: “إذا مات ابن آدم انقطع عنه عملُه إلاّ من ثلاث..”.

إدارة الوقت أم إدارة الذّات؟ لا يوجد في الحقيقة شيءٌ يُسمّى بإدارة الوقت، لأنه لا حقيقة مادية لوجوده، لأنّه ليس كمًّا مادّيًّا منفصلاً، وإنّما الحقيقة في إدارة الذّات وإدارة الأعمال وإدارة العلاقات مع الآخرين لضمان النّجاح والتوازن في الحياة، وخاصة في هذا الزّمن المتسارع والمتشابك، والذي يضغط على الإنسان بمُلهياتٍ كثيرة ومؤثراتٍ خارجيةٍ مختلفة. ومن أجل قيادةٍ ناجحةً للحياة، يجب أن نتقن فنّ إدارة الذّات، وهي مهارةٌ تُكتَسب وليست صفةً تورَّث، وهي تمرّ حتمًا عبر التخطيط، والذي يعني التفكير والتقدير والنّظر في البُعد الزّمني للمستقبل، للانتقال من الواقع الذي يعيشه الإنسان إلى سقف الطموح الذي يريد الوصول إليه، أي إعدادُ خطةٍ ذهنية بالفكر قبل تحويلها إلى خطةٍ عملية بالفعل من أجل تحقيق أهدافٍ محدّدة، وهي تعتمد على الفلسفة والأفكار والمعتقدات، وعلى تحديد الأهداف والطموحات، وعلى ضبط الأولويات والالتزامات، وذلك بتطبيق سياسةٍ حكيمة في كيفية استغلال الموارد والوسائل والآليات، وتكون -مثلاً- بكتابة قائمة الأعمال والواجبات من أجل تحقيق أهداف معيّنة، وذلك وفق سقفٍ زمنيٍّ محدَّد، وهذه الخطوة تمثّل نصف الإنجاز في حدّ ذاته. والإنسان في زمن كورونا -وغيرها- بحاجةٍ إلى إدارة الذّات، وإلى التخطيط لتحقيق الأهداف، وإلى ملء الحياة بالإنجازات على عدة مستويات، منها:

1- على مستوى العلاقة مع الله: عقيدةً وعبادةً وسلوكًا، فقد وزّع الله تعالى العبادات على الأوقات لملء حياة الإنسان، وله حقوقٌ على العبد لا ينوب عليه فيها أحد، مثل: الذِّكر والصّلاة والصّيام الواجبة والنافلة، والعلاقة مع القرآن: تلاوةً وحفظًا ومراجعةً وتدبّرًا وتفقّهًا.. وغيرها.

2- على مستوى العلاقة مع الذّات: بواجباتٍ تمسّ العقل بالعلم والفكر، وتمسّ الرّوح بالعبادة والتزكية، وتمسّ الجسد بالصّحة والغذاء والرّياضة، أو تمسّ أهدافًا اجتماعية شخصية كالزّواج النّاجح والمرْكب الهنِيء والمسكن الواسع والجار الصّالح، أو تطوير مهاراتٍ جديدة..

3- على مستوى العلاقة مع الأسرة: بوضع برنامجٍ للقيام بواجباتٍ عائليةٍ اتجاه الوالدين والزّوجة والأولاد والأقارب..

4- على مستوى العلاقة مع المؤسّسة: بتنفيذ الأعمال والواجبات، وفق المهامّ والصّلاحيات، ووفق البرامج والخطط المسطّرة فيها، سواء كانت مؤسّسة مهنية ربحية أو تطوّعية كالأحزاب والجمعيات.. وغيرها.

5- على مستوى المسار العلمي والمهني: بتعلّم لغاتٍ جديدة، أو الطّموح إلى شهادات علمية أخرى، أو استكمال الدراسات العليا، أو الطّموح إلى ترقياتٍ مهنية، أو التقدّم في مشاريع..

6- على مستوى العلاقات: بوضع برنامجٍ لتطوير وتنمية العلاقات المختلفة، مثل: علاقات العمل وعلاقات الصّداقة والعلاقات العامّة والعلاقات الاجتماعية والعلاقات مع شخصيات ناجحة ومؤثّرة ومهمّة.. وغيرها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • عمور

    لو كانت الاوقات تُباع لاشتريت من نوام عفوا نواب الشعب أوقاتهم