-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف حقق عمر بن عبد العزيز العدل في حكمه؟

كيف حقق عمر بن عبد العزيز العدل في حكمه؟
ح.م

أشرف عمر بن عبد العزيز بنفسه على مايتم في دولته من أعمال صغرت أو كبرت، وكان يتابع عماله في أقاليمهم وساعده على ذلك أجهزة الدولة التي طورها عبد الملك بن مروان، كالبريد، وجهاز الاستخبارات الكبير الممتد في أطراف الدولة والذي كان الخلفاء يستخدمونه في جمع المعلومات، وعلى الرغم من عناية عمر بن عبد العزيز في اختيار الولاة، إلا أن هذا لم يمنعه من العمل على متابعة أمر الرعية وتصريف شؤون الدولة وقد اشتهر عنه الدأب والجد في العمل ، وقد كان ـ رحمه الله ـ يمضي الكثير من وقته لرسم سياسته الإصلاحية الهادفة للقضاء على المظالم والفساد والتي شملت مختلف الحياة، السياسية والاقتصادية والإدارية، وغيرها.. حتى خلف رحمه الله كماً هائلاً من تلك السياسات التي تمثل مواد نظام حكمه الإصلاحي الشامل، وقد بعث بهذه السياسات إلى عماله لتنفيذها في مختلف الأقاليم وكثيراً مايردفها بتوجيهات تربوية يذكر فيها عماله بعظم الأمانة الملقاة على عواتقهم، ويخوفهم بالله ويأمرهم بمراقبته وتقواه فيما يعملون ويذرون، ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز كان يهتم بمصادر متنوعة بجمع المعلومات، لعلمه أن المعرفة الدقيقة بأمور الرعية والولاة تحتاج لجمع معلومات صحيحة تبنى عليها التوجيهات والأوامر والنواهي النافعة للأمة والدولة. ومن أهم القضايا التي كان يتابعها ويحرص على تطويقها وتقويضها قضايا الفساد الإداري فقد سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق السلامة من هذا الفساد، بالحرص على سبل الوقاية منه، وسد المنافذ على السموم الإدارية مثل الخيانة، والكذب والرشوة والهدايا للمسؤولين والأمراء والإسراف وممارسة الولاة والأمراء للتجارة واحتجاب الولاة والأمراء عن الناس ومعرفة أحوالهم، والظلم للناس والجور عليهم وغير ذلك وإليك سياساته وتطبيقاته في هذا المجال:

أولاً: حرص عمر بن عبد العزيز على انتقاء عماله من أهل الخير والصلاح:

إن عمال الخليفة وأمراء البلدان هم نواب الخليفة في أقاليمهم، والواسطة بينه ورعيته ومهما كان الخليفة علىدرجة من الدراية في تصريف أمور السياسة إلا أنه لا يستطيع تحقيق النجاح إلا إذا اختار عماله بعناية تامة، لذا عني عمر بن عبد العزيز ـرحمه اللهـ عناية فائقة باختياره عماله وولاته، وحين نتتبع أخباره في هذا الصدد نجد أن له شروطاً لا بد من تحققها فيمن يختار العمل عنده، ومن أهم هذه الشروط: التقوى، الأمانة، وحسن التدين، فلما عزل خالد بن الريان الذي كان رئيساً للحرس في عهد الوليد بن سليمان ـ نظر عمر في وجوه الحرس فدعا عمرو بن المهاجر الأنصاري فقال: والله إنك لتعلم يا عمرو أنه مابيني وبينك قرابة إلا الإسلام، ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن أنه لا يراك أحد فرأيتك تحسن الصلاة، خذ هذا السيف قد وليتك حرسي، وكان يكتب إلى عماله: إياكم أن تستعملوا على شيء من أعمالنا إلا أهل القرآن، فإنه لم يكن عند أهل القرآن خير فغيرهم أحرى بأن لا يكون عندهم خير. وإذا شك في أمر من ينوي توليته لم يقدم على توليته حتى يتبين له حاله، فحين ولي الخلافة وفد عليه بلال بن أبي بردة فهنأه وقال: من كانت الخلافة ـ يا أمير المؤمنين ـ شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها واستشهد بأبيات من الشعر في مدح عمر فجزاه عمر خيراً، ولزم بلال المسجد يصلي، ويقرأ ليله ونهاره، فهم عمر أن يوليه العراق، ثم قال: هذا رجل له فضل، فدس إليه ثقة له فقال له: إن عملت لك في ولاية العراق ماتعطيني؟ فضمن له مالاً جليلاً، فأخبر بذلك عمر، فنفاه وأخرجه، وكان يكره أن يولي أحداً ممن غمس نفسه في الظلم أو عمل مع الظلمة لاسيماالحجاج، وإذا كان من قبل عمر يجعل للعصبية والقرابة من البيت الأموي وزناً في تولية العمل، فإنه لم يكن شيء من ذلك في ميزان عمر فحدث الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد؟ فقال رجل منهم: تعرض علينا مالاتفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لا علم أنه يصير إلى بلى، وإني أكره أن تدنسوا علي بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني؟ وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم؟هيهاتهيهات. وقد كان لهذا النهج الذي تميزت به سياسة عمر بن عبد العزيز في اختيار الولاة والعمال أثر في الاستقرار السياسي في الأقاليم، حيث رضي الناس سير عماله وحمدوا فعالهم، إذ لم يكن في عماله من هو على شاكلة الحجاج يتعامل مع الناس بالشدة ويأخذهم بالتهمة، كما لم يكن منهم صاحب عصبية يرفع أناساً ويضع أخرين فيجدوا عليه في أنفسهم.

ثانياً: التوسعة على العمال في الأرزاق:

كان أول إجراء إداري رأى فيه عمر الوقاية من الخيانة أن وسع على العمال في العطاء، رغم تقتيره على نفسه وأهله وأراد بذلك أن يغنيهم عن الخيانة، فقد كان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين فقيل له: لو أنفقت على عيالك، كما تنفق على عمالك؟ فقال لا أمنعهم حقاً لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم، وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم، فاعتذر بأن معهم سلفاً كثيراً قبل ذلك، وبهذا الإجراء ألا وهو التوسع على عماله يحقق عمر أمرين هامين:

أـسد منفذ الخيانة، ومايدفع العمال من حاجة إلى الخيانة وسرقة أموال المسلمين.

بـضمان فراغ الولاة والعمال والأمراء لأشغال المسلمين وحوائجهم.

ثالثاً:الامتناع عن أخذ الهدايا والهبات:

رد على من قال له: ألم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبل الهدية ؟ قال بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة، كما أبطل عمر أخذ الهدايا  التي كان الولاة الأمويون يأخذونها وبخاصة هدايا  النيروز والمهرجان، وهي هدايا  تعطى في مناسبات وأعياد الفرس، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله كتاباً، يقرأ على الناس، يبطل فيه أخذ التوابع والهدايا ، التي كانت تؤخذ منهم في النيروز والمهرجان وغيرها من الأثمان والأجور، كما أنذر ولاته وعماله من أن يتخذ أحداً منهم تلبية طلبات الخليفة أو أحد أهله شيء مسلم به، ومن ذلك ماحدث عندما أرسلت فاطمة بنت عبد الملك إلى ابن معدي كرب، تطلب عسلاً من عسل سينين أو لبنان، فبعث إليها، وأيم الله لئن عدت لمثلها، لا تعمل لي عملاً أبداً، ولا أنظرإلى وجهك.

رابعاً: النهي عن الإسراف والتبذير:

فقد اتخذ قرارات تنم على حرص شديد على أموال المسلمين فكان أول إجراء له بعد توليه الخلافة هو انصرافه عن مظاهر الخلافة، إذ قربت إليه المراكب، فقال ماهذه؟ فقالوا: مراكب لم تركب قط، يركبها الخليفة أول مايلي فتركها وخرج يلتمس بغلته، وقال: يا مزاحم ـ يعني مولاه ـ ضم هذه إلى بيت مال المسلمين، ونصبت له سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط، يجلس فيها الخليفة أول مايلي، قال يا مزاحم ضم هذه إلى أموال المسلمين، ثم ركب بغلته، وانصرف إلى الفرش والوطاء الذي لم يجلس عليه أحد قط، يفرش للخلفاء أول مايلون، فجعل يدفع ذلك برجله، حتى يفضي إلى الحصير، ثم قال: يا مزاحم ضم هذه لأموال المسلمين. وأخذ إجراء آخر لمحاربة الإسراف في الدولة، فحين قال له ـ ميمون بن مهران ـ وهما ينظران في أمور الناس: ما بال هذه الطوامير التي تكتب فيها بالقلم الجليل، وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين؟ فكتب إلى العمال أن لا يكتبوا في طومار ولايمد فيه، قال: فكانت كتبه شبراً أو نحو ذلك. وقد مر معنا كتابه لأبي بكر بن محمد بن حزم الأنصاري والي المدينة في قصة الشموع، وتوجيه عمر له في ذلك وكيف يكتب له عندما قال: إذا جاءك كتابي هذا فأرق القلم، وأجمع الخط واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر ببيت مالهم والسلام عليك. ذلك هو شأن عمر في كل أمر يخص مال المسلمين، صغر أو كبر ومع كافة الولاة، فإنه من المسلم به أن عمر لن يكون كذلك مع والي المدينة فحسب بل هو كذلك مع غيره من الولاة والعمال فكان يسعى للتوفير والاقتصاد في الإنفاق من بيت المال، ليحول بذلك دون الإسراف والبذخ.

خامساً: منع الولاة والعمال من ممارسة التجارة:

قال في كتاب له إلى عماله: نرى أن لا يتجر إمام ولايحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر يستأثر ويصيب أموراً فيها عنت وإن حرص أن لا يفعل، وذلك إدراك منه أن ممارسة العمال والولاة للتجارة، لا تخلو من أحد أمرين، إن لم يكن الاثنان معاً: فإما أن ينشغل في تجارته ومتابعتهما عن أمور واحتياجات المسلمين، وإما أن تحدث محاباة له في التجارة لموقعه، ويصيب أموراً ليست لهمن الحق في شيء، وبهذا القرار سد عمر منفذاً خطيراً قد يؤدي إلى فساد إداري قل ماتتوارى عواقبه. وبعد ثمانية قرون جاء ابن خلدون وكتب في مقدمته العظيمة بعد تجارب طويلة ودراسة واسعة، مايصدق عمر بن عبد العزيزفي نظرته الصادقة، وحكمته البالغة قال: إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا معسرة للجباية.

سادساً: فتح قنوات الاتصال بين الوالي والرعية:

كانت الحاشية حول الخلفاء قبل عمر بن عبد العزيز قد حجبت الناس عن الوصول إلى الخليفة وقد بنى الحاشية سياجاً من حديد لا ينفذ منه إليه إلا مايشتهون وماتسمح به مصالحهم أما عمر بن عبد العزيز، فقدأعلن بالجوائز والمكافأة المالية لمن يخبره بحقيقة الحال، أو يشير عليه بشيء فيه مصلحة المسلمين ومصلحة لدولتهم، وكتب إلى أهل المواسم: أما بعد فأيما رجل قدم إلينا في رد مظلمة أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين، فله مابين مائة دينار إلى ثلاثمائة بقدر مايرى الحسبة وبعد السفر، لعل الله يجيء به حقاً أ أو يميت باطلاً، أو يفتح به من ورائه خيراً. كما أمر العمال والولاة، بأن يحرصوا على فتح قنوات الاتصال بينهم وبين الرعية ويسمعوا منهم ويتعرفوا على أحوالهم فإن ذلك يمنع ممارسة الظلم والتعدي على حقوق الأخرين ويتيح لكل فرد طلب مايريد دو ن اللجوء إلى أساليب وطرق لا تمت للإسلام بصلة.

سابعاً:محاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المال:

لما تولى عمر بن عبد العزيز أمر بالقبض على والي خراسان يزيد بن المهلب، ولما مثل بين يديه، سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك. فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لا سمع الناس به وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذ بشيءسمعت، ولا بأمر أكرهه. فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأدَ ماقبلك، فإنها حقوق المسلمينولايسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبقي فيه حتى بلغه مرض عمروقد كان عمر بن عبد العزيز يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم فقد كتب إلى أحدهم يقول: (لقد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما عدلت، وإما اعتزلت والسلام).

لقد آتت هذه المتابعة الدقيقة من عمر لعماله والتوجيهات التفصيلية لهم ثمارها في الحد من فرص الفساد والإفساد، كما أن هذه التوجيهات والمتابعة من عمر جعلت العمال والولاة في حالة تيقظ دائم وخوف من الوقوع فيما يؤدي إلى التهمة والشبهة لعلمهم بالمراقبة والمتابعة التي أحاطهم بها الخليفة، حيث كانت توجيهاته وأوامره تقع في نفوسهم بمكان.فقد شجع ماديا ومعنوياالعامة والخاصة على مراقبته، ومراقبة عماله، والإفصاح عن كل  ما لايوافق الكتاب والسنة، وبطبيعة الحال فالأمة الإسلامية لا تحتاج إلى غير تعاليم الكتاب والسنة، إذا كان الالتزام بها هدف منشود.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!