-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف لا نحيد عن شرور “الدروس الخصوصية”؟

كيف لا نحيد عن شرور “الدروس الخصوصية”؟
أرشيف

الدرس التعليمي كله في أصله وفصله، وفي مبناه ومعناه، وفي مختصره وتفصيله هو نثرٌ لبذور الخير والاستقامة، واقتلاع للأشواك المؤذية. وهو تنويرٌ وإنارة لكل من أراد أن يسلك مسلكا مريحا في حياته بلا شقاء ولا عناء. وهو أداة منتقاة لتطوير قدرات الفرد حتى يستطيع قهر المشكلات التي تعترض طريقه. وأما أن يصبح الدرس التعليمي شرّا يُقبل ولا يرفض، ويهادَن ولا يقاوَم، فمعنى ذلك أنه صدف عن خطه الأصيل، وانحرف في خط حركته، وجانب الهدف المنتظر منه، وأصابته علة سلبت منه حسنه الطرير وجماله المثير، ونزعت عنه شمائله ومحاسنه، ورمته بوابل من مقذوفات البؤس والهزال، وأوقعته صريعا بين عجز الوهن وخرافة الوهم. وإلا، ما معنى أن يقول أحدهم في مجلس عُقد للنظر في أحوال التربية، وبلا حياء: (الدروس اللصوصية شرٌّ لا بد منه)؟ ومعنى ذلك أنه لا يجوز لنا أن نحيد عنها.

عندما تصاغ التبريرات على أوتار الهوى، وتُعزف على منوال المزاج المنحرف والجاف والأصلف، وتُلقى على الأسماع خاطفة كرعشات البرق من دون أن تمرَّر على كفة ميزان العقل، فإنها تتحوّل من وسيلة دفاع إلى قرينة اتهام يصعب تبديدُها، ويتعذر التبرُّؤ منها، وتجعل رياح الردود الرافضة تعصف ثقيلة وكثيفة على عقل وقلب قائلها. فلا يحسبنَّ من رأى الشرّ في ما يُسمى بـ”الدورس اللصوصية”، أنه يقف موقف المدافع عنها، والمناصر لها في استماتة الشجعان. وإنما وصفها أحسن وصف أراح به رافضيها من مشقة البحث؛ لأن كلمة “الشر” تجمع كل صنوف السوء والفساد والأذى، وهي عكس الخير، فالخير يُبتغى ويطلب، وإليه يُحبَّب ويُرشد. وفي المقابل، فإن الشرّ يُترك ويُهجر، ويُبغض ويُتجنَّب. والخير جاذب بمنافعه والشر نابذ بأسوائه. وأما الشر الذي لا بد منه، والمستوحى من مقولة تراثية قديمة، فلا ينطبق على حال “الدروس اللصوصية”؛ لأن المعاني أخرِجت عنوة من سياقها الأصيل، وزُجَّ بها زجا مخجلا ومهينا في نفق لا يطابقها على وجه الإطلاق.

يا ليت “الدروس اللصوصية” كانت تحمل في جوفها شرا واحدا بصيغة المفرد، وإنما هي، في حقيقتها، حزمة من الشرور شديدة السواد وكريهة الرائحة وقبيحة المنظر، ولذا ترفض مهادنتها؛ لأنها لو تستمر فستأتي على التهام كل أخضر ويابس، وستفتك بكيان المدرسة الوطنية، وتهدر بكل جهود الخيِّرين فيها. وتتركها كالأرض الجرداء من دون زراعة أو استثمار أو إعمار.

هزَّت “الدروس اللصوصية” أركان وقواعد التربية التي تعتمد على إشباع شخصية المتعلم بالقيم والأخلاق الحسنة التي تجعل منه إنسانا سويا، وتوفر له ظروف التعامل والتفاعل مع أفراد مجتمعه وأبناء وطنه في إطار التفاهم والتعاون والتسامح والتنافس الشريف. وجعلت منه كائنا أنانيا منغلقا، يقصر حياته في الجري وراء تحقيق مصلحته الضيقة بشتى الوسائل. وقزمت أهداف العمليات التعليمة، وحصرتها في اكتساب المقدرة على اجتياز الامتحانات، كما قال الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله. وغيّبت القدوة في الحياة المدرسية التي يحاول المتعلم أن يقتدي بها، ويسير على مثالها بعد أن يقتبس منها ما يزينها من صفات أخلاقية في المظهر وفي الكلام والمعاملة. وصيّرت هيبة المعلمين والأساتذة في مرمى الأوصاف الجارحة لكرامتها، والمبضعة لنبلها. وأصبح المتعلم والولي يقابلان معلم المدرسة ذي الشأن الرفيع من قبل بالازدراء والاحتقار. ولم يعودا يرعيان له عهد الاحترام أو يحيطانه بالتبجيل في حضوره وفي غيابه. وأمسيا يلاحقانه بالإهانة التي تنال من شخصيته بلا شفقة. ووسّعت من أسباب العنف المدرسي حتى أضحى الاعتداء على المعلم والأستاذ في الأقسام وفي الأفنية من يومياتنا المدرسية المألوفة. وحوّلت المادة العلمية إلى بضاعة رخيصة تباع في أي مكان بلا رقيب وبلا حسيب كما تباع الخضروات على قوارع الطرقات، ومسخت المعلمين والأساتذة تجارا لاهثين لا يشغلهم عن جمع الدنانير من قبل الفجر إلى ما بعد العشاء أي شاغل!.

قتلت “الدروس اللصوصية” في المتعلمين روح التفكير السليم الذي يعتمد على القواعد العلمية في الاكتساب المعرفي، وجمّدت تشغيل قدراتهم العقلية، وعوّدتهم التواكل على غيرهم حتى في أبسط شؤونهم، لأنها حرمتهم من مزايا العمل الفردي المرتكز على المحاولة المتبوعة بالتكرار في إصرار، وهو العمل الذي ينفعهم في حاضرهم ومستقبلهم. وحوّلت عقولهم إلى أدراج وخزّانات واسفنجات لخزن قطع المعارف المجزأة التي يتلقونها عن طريق التلقين في ظروف بيئية لا تشجع على التعلم بسبب الاكتظاظ وضيق المقار التي يجتمعون فيها وغياب المقاييس المعمول بها في تهيئة وتنظيم الفصول الدراسية، وجلوسهم كأنهم أكياس مكدسة في وضعيات تخالف الجلوس الصحي.

قضت “الدروس اللصوصية” على الفعل البيداغوجي، وناصبته العداء، وفرضت عليه الحجر في كل ممارسات وصيرورات التعلُّم المفيدة. وانتقلت عدوى هذه العلة المنكرة إلى المؤسسات التعليمية، وتحوّل المعلمون والأساتذة إلى نواقل للمعارف في سلبية لا تعرف سوى الشحن والتفريغ. ولم تعد قضية تجويد الأداء الفصلي ورفع مردوده بين المتعلمين مطروحة على طاولة المناقشات. وأصبح التدريب المتدرج للمتعلمين مغيَّبا والمرافقة الدؤوبة منفية. وأما الواجبات المنزلية فلا حديث عنها؛ لأنها تتطلب متابعة وتصحيحا، والوقت لا يتوفر بين أيدي المعلمين والأساتذة للقيام بذلك. وأمسى إعداد التقويمات الفصلية من فروض واختبارات هي آخر ما يُفكر فيه، ولا تقدَّم إلا بشكل صوري مكرور ومنسوخ. وأما تصحيحها، وإن حصل، فيعتمد على معايير أخرى في توزيع العلامات والدرجات. والرضى على المتعلمين لا يكون إلا إن كانوا من المترددين على “الدروس اللصوصية” التي يقدِّمها معلّموهم أو أساتذتهم. وحينئذ، يحق لهم أن يحصلوا على النقاط العليا من خلال الكشف المسبق عن الأسئلة المطروحة أو أن يتصدق عليهم في محاباة تمييزية بنقاط مجانا حتى وإن تغيبوا حتى تبقى علاقة الثقة المزيفة والمغشوشة مشدودة مع جيوب الأولياء. وهل ثمة خيانة للأمانة وتعليم للغش تعادل هذا السلوك؟.

أشاعت “الدروس اللصوصية” الفرقة والشقاق والتنافر والتدابر في المجتمع المدرسي بين المعلمين والأساتذة أنفسهم، وانخسفت علاقات الاحترام والتفاهم والتعاون بينهم، وحلَّت في مكانها الغيبة والنميمة والتنابز والتراشق في حضور المتعلمين أحيانا، وروّجت أعفان الريبة والشك والتجسس في قاعات الأساتذة. ووصل التناحر إلى افتعال صنوف من الكيد المتبادل والحيل البذيئة بغرض إلحاق المَضرَّة بالآخر بعد نسيان قداسة الرباط التربوي الحريري العفيف والطاهر وسيطرة اللهف المادي الزائل.

في جانبها الاجتماعي الأسري، أضرّت مستحقات “الدروس اللصوصية” التي تتزايد في جشع وانتهازية بميزانيات العائلات المتوسطة والفقيرة، وفرضت عليها مصاريف ونفقات إضافية قابلته بتقشف حاد حتى في المعيشة اليومية. وأجبرت المتعلمين أنفسهم على البحث عن الشغل وعن موارد استرزاق لجمع نصيب من المال من أجل مزاولتها. وقد زادت هذه الدروس في خواء جيوب الأولياء وفي توسيع دائرة الفقر وفي نشر الجوع. ومازلت أذكر، أنني كنت أتابع لحظة سقوط رئيس دولة عربية منذ سنوات بعد أن ثار ضده الشارع على إحدى القنوات التي اتصلت بخبير اقتصادي شهير، وسألته عن الأسباب الاقتصادية التي تقف خلف انهيار نظام هذا الرئيس. وراح الخبير يعدِّد هذه الأسباب، وذكر في المرتبة الثالثة أو الرابعة “الدروس اللصوصية”. وعلمت فيما بعد، ومن خلال قراءاتي، أن مواطني هذا البلد يصرفون ملايير الجنيهات سنويا لتمكين أبنائهم من متابعة هذه الدروس العقيمة.

يبدو التطابق التماثلي بين “الدروس اللصوصية” وداء السرطان الخبيث، عفانا الله منه، تاما وصادقا؛ فقد نفثت هذه الدروس ذيافينها وسمومها الناقعة في كل جوانب الحياة المدرسية، وعكَّرت صفو الحياة العامة. وتسبَّبت في ظهور أضرار كثيرة اجتماعية وإنسانية وتربوية وبيداغوجية وعلائقية ومعيشية ومادية عطَّلت ازدهار التربية والتعليم في وطننا، وتسببت في نكستها، وأوقعت الاضطراب المرهق في جسم المدرسة الوطنية، وأبطأت مسيرتها، وجعلت مخرجاتها من حيث الجودة كثمار النخلة الحشفاء، فلا شكل يغري ولا طعم لذيذ يسيل اللعاب.

ستكون كل المعارك التي نخوضها في سبيل إصلاح نظامنا التربوي وجلب التعافي لمدرستنا الوطنية معارك بلا فوائد تُذكر ما لم نقدِم على محاربة “الدروس اللصوصية” محاربة لا يهادَن فيها آثمٌ أو معتد من حيث يعلم أو من حيث لا يعلم. ومع يقيني أن هذه المعركة ستكون طويلة، وتتطلب صبرا وثباتا، فإنني أعتقد أن صمودنا وانتصارنا في معارك أعنف وأشرس لا يُعجزنا على خوض هذه المعركة حماية لمستقبل وطننا من الدمار والاندثار؛ لأن مستقبل الأوطان لا يُبنى إلا في المدارس، وفي المدارس وحدها. ولتذهب “الدروس اللصوصية”، بعدئذ، إلى الجحيم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • بن نعوم ابراهيم ...الجزائر

    ظاهرة الدروس الخصوصية مرض استفحل فى المجتمع وصارت الاسر الجزائرية تعلم اولادها بنمطين التامين القانونى للارتقاء الى مستويات ادارية بحتة تضمن لابنائها اداءات للاختبارات رسمية واخرى خاص النص يتولاها اطارات التربية من المعلمينوالاسا تذة والحاصل فى الامر المهلك للمستوى التعلمى والتعليمى ناجم الامور الاتية
    اولا..ان الاداء التعلمى للمعلم والاستاذ صار اضعف مما نتصوره
    ثانيا..ان الحضير الجيد للدرس وتحيد الاهداف ميت موتا كلينيكيا عند المعلم والاستاذ
    ثالثا ..ان التوجيه التربوى الذى يتولاه المفتشين غير سليم من حيث الاداء والاهداف

  • العربي

    لا فض فوك سيدي ولا عدمنا يراعك السيال فقد وضعت إصبعك على إحدى جراحيا التي أبت أن تندمل . ومن الجراح الأخرى استقالة الأولياء عن مهامهم ،وتغييب المجلس الوطني للبرامج منذ تأسيسه في نهاية أكتوبر 2017 الى يوم الناس هذا، و تضييع هيبة المفتش والتغافل عن قراراته الخادمة للتعلم، وأما الإدارة من المديرية إلى المؤسسة فهي تترنح من سكرتها بالمسؤولية من جهة وبالبزنسة الرخيصة من جهة أخرى .

  • KF

    وفقت يا استاذ في تشريح الدروس الخصوصية ولم تعطينا الدواء لابطال هذه الظاهرة. فقط محاربتها. مع ان هذه الدروس متفشية حتى في امريكا -بريطانيا - كندا - مصر - فرنسا - المانيا ولكنها مهيكلة ومنظمة -- فعندنا الاستاذ يرفض قسما به 30 طالبا في ثانويته بينما يقبل قسما ( قراج) يحوي 80 طالبا بل ان احدهم لديه 1800 طالبا يدرسهم اسبوعيا والدروس تبدا قبل صلاة الفجر حتى الواحدة صباحا (خاصة في رمضان) ولا ننسى حياة الرفاهية التي يتمتع بها هؤلاء من فيلات ومرسيدس . .. الخ على حساب النوعية. لا بد من تنظيم هذه المهنة ولتكن البداية برفع اجر الاستاذ الى 20 مليون سنتم وهو احق بها لكونه الاساس في المعادلة الصعبة.

  • عزالدين أستاذ متقاعد

    بارك الله فيك أخي المحترم على إثارةهذا الموضوع الحساس وتسليط الأضواء الكاشفة بدقة على خباياه المظلمة وإظهار خلاياه السرطانية التي مافتئت تنخر جسد المنظومة التربوية التي تكالب عليها الأعداء والأصدقاء ونرجو أن يوفق المشرفون الجدد على شؤون التعليم والأولياء خاصة في محاربة هذا المرض العضال .