-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“لعلكم تتقون”.. الشّمس لا تنتظر صيّاح الدّيك لتُشرق!

أبو جرة سلطاني
  • 1705
  • 10
“لعلكم تتقون”.. الشّمس لا تنتظر صيّاح الدّيك لتُشرق!
أرشيف

يبدو عنوان هذا المقال غريبًا، ولكنّ من تحدّثوا على ألسنة الحيوانات يقولون: إنّ الدّيك يظنّ أنّ الشّمس لا تشرق إلا إذا سمعت صيّاحه، ولذلك يستيقظ فجر كلّ يوم ويصيح عدّة مرّات معتقدا أنه يوقظ الشّمس من نومها لتشرق على الكون..! وهذه عقيدة كثير من مسلمي اليوم؛ فبعضهم يعيشون بـ”عقيدة الدّيكة”، ظانّين أنّ بأيديهم “صكوك الغفران” فلا يدخل الجنّةَ إلاّ من رضوا عنه أو كان من شيعتهم. وبعضهم يكثرون من الصّلاة والحجّ معتقدين أنّ الإسلام هو القواعد الخمس. وآخرون يظنّون أنهم حجزوا مقاعدهم فيها بصدقاتٍ يبطلونها بالمنّ والأذى. ومنهم من يعتقد أن بناء مسجدٍ يُدخِله الجنّة ولا يسأل نفسه: من أين جمع أمواله؟ وهل أدّى حقوق الناس؟ وأسوأ نموذجٍ مسلمٌ سيّء الخُلق سلّيط اللسان، يأتي يوم القيّامة بصلاةٍ وزكاة وصوم وحج.. ولكنّه يقف بين يديْ ربّه (جل جلاله) وقد شتم الناس واغتابهم وأكل أموالهم وانتهك أعراضهم.. فيأخذون من حسناته ويردّون عليه سيّئاتهم: “فتُطرح عليه ثم يُطرح في النار”. كما جاء في حديث المفلس الذي رواه مسلم.

من أسوأ ما يقع فيه المسلمون اليوم حرْصهم على “الكمّ العبادي” بغير كيْف، ومفاخرتهم بظاهر العبادة وليس لهم في المعاملة نقيرٌ ولا قطمير. فالطّاعة عندهم تكديسُ عبادات وتعديد قُرُبات وحرصٌ على الزّيادة في كلّ ما يستسهلونه من نوافل.. وظاهر ذلك خير، ولكنّ باطنه مدخول مغشوش بحاجة إلى عرض على ميزان القبول عند الله تعالى ليعرف العابد هل في قلبه يقظة إيمان تجعل للعبادة ثمرة في معاملة الناس يطمئن إليها القلب وتستريح لها النّفس؟ أم أنّ الفجوة بين صلاح الظّاهر وإصلاح الباطن كالفجوة بين تشدّد البعض في النّكير على القبور وتمسّحهم على عتبات القصور؟ فإذا وجد المؤمن في قلبه شيئا من هذا فليعلم أنه واقع في “دين مغشوش” يستدرجه به هواه إلى أسوأ عاقبة تبدأ بتحويل وسائل الطّاعة إلى غايات، وتنتهي بانتقاء ما تهواه النّفس من عبادات وإطراح ما تستثقله جانبا. فإذا حصل هذا كان التّنبيهُ واجبا إلى ثلاثة أخطاء يقع فيها كثيرٌ من العابدين وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا. وأغلب الواقعين فيها هم الذين ورثوا دينهم تقليدًا لم يقلّبوا فيه النّظر، ولم تشْربه قلوبهم، فهم يعبدون الله من غير وعْي بحقيقة العبادة التي جعلها الله وسيلة لتحصيل التّقوى أو للزّيادة منها. فإذا لم تكن للعبادة ثمرةٌ في حركة النّفس كانت خداجا غير تمام. والسّبب راجعٌ إلى واحد من ثلاثة أخطاء:

1ـ خطأ عبادة الله بما يريح النّفس: بعض العابدين يحرص على أداء مناسك العمرة والحجّ كلّ عام، ولكنه لا يُخرج زكاة أمواله ولا يكرم اليتيم ولا يحضّ على طعام المسكين ويسيء الجوار ويأكل عرق من يشتغلون عنده..

2 ـ خطأ الإسراف في العبادة وسوء المعاملة: من المسلمين من تحقر صلاتك إلى صلاته وصومَك إلى صومه وظاهرَ زهده إلى تساهلك.. فإذا رأيت تعامله مع الناس قلت يا ليت ورعه في العبادة كانت له ثمرةٌ في المعاملة.

3 ـ وخطأ “علْمنة الإسلام” بحشْره في المسجد واختزاله في قواعد الإسلام الخمس.. فإذا خرج المسلم من “نسكه” تحوّل إلى كائن آخر لا صلة له بالدّين؛ كأنّ التّجارة والصّناعة والسّياسة والثّقافة.. ليست من الدّين، وهي “لائكيّة” في فهم الإسلام، وسلوك يجعل “الطّقوس” لله، أما حركة الحياة فللنّفس أو لقيصر بالتّعبير التّقليدي المحفوظ: “دعوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر”.

تسمع مثلا من يقول: ما دخل الإسلام في تجارتي وصناعتي؟ ما علاقة الدّين بالسّياسة؟ ومن يقول: نحن في السّوق ولسنا في المسجد؛ هذا بيزنس وليس صلاة! كأن الله (جل جلاله) موجودٌ في المسجد وفي موسم الحجّ وخلال شهر رمضان وأيام الجوائح والكوارث والزّلازل.. فإذا انجلت ارتحل..! وقد رأينا نماذجَ من المسلمين يعتقدون أنّ الله رقيبٌ على أعمالهم في بلاد المسلمين فإذا سافروا إلى الغرب تحرّروا من الدّين واستراحوا من تكاليف العبادة؛ فهم لا يشربون الخمر في بلادهم، فإذا أقلعت بهم الطائرة طلبوها. وبعض النّسوة تركب الطّائرة بحجابها وتنزل منها بغير هدوم.. الخ، هؤلاء هم المقتسمون الذين اتّخذوا القرآن عضين: “كما أزلنا على المقتسمين (90) الذين جعلوا القرآن عضين” الحجر: 90/91، أيْ تخيّروا من الدّين ما يروق لهم فجعلوه أجزاءً وأقساما يطبّقون منه ما لا يكلفهم مشقّة ويتركون ما وراءه وهم يعلمون أنّ الذي كتب على المؤمنين الصيّام هو الذي كتب عليهم القصاص، وهو الذي كتب عليهم القتال بالصّيغة نفسها: “يا أيها الذين آمنوا”، في السّورة نفسها. فنادى المسلمين بصفتهم: “يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى” البقرة: 178. وفي السّورة نفسها وبالصّفة ذاتها ناداهم: “يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصّيام كما كُتب على الذين لعلكم تتّقون” البقرة: 183. وفي السّورة نفسها وبالصّفة ذاتها ناداهم: “يا أيّها الذين آمنوا كُتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم” البقرة: 216. نداءٌ واحد خاصّ موجّه للمؤمنين خاصّة، فكيف نحرص على شعيرة الصّيام ونُسقِط غيرها من الشّعائر وكلّها فرائض من عند الله؟

ليس صحيحاً تقسيمُ الدّين إلى عبادة ومعاملة، وما درجت عليه كتب الفقه من تبويب مصنّفاتها إلى قسم العبادات وقسم المعاملات هو منهجٌ علميّ لتيسير الفهم ليس إلا، تماما كما يقسّم علماء الأحياء (البيولوجيا) حديثهم عن جسم الإنسان إلى هيكل عظمي وعضلات وأجهزة: جهاز عصبي، وهضمي، وتنفسي، ودوري، وتناسلي..  وهم يعلمون أنّ جسم الإنسان “وحدة واحدة” هي كينونته الإنسانية التي لا تتجزّأ إلاّ من أجل الدّرس العلمي فحسب. وكذلك الإسلام أقسامٌ نظريّة هي العقيدة والشّريعة والخلق والمعاملة.. لكنها “وحدة إيمانيّة” لا تتجزّأ إلا من أجل تسهيل الدّرس الفقهي لفهم الدّين والالتزام به حتّى تصير الطّاعة لذّة نفس وسعادة قلب وراحة بال ينتظرها المؤمن بشوق ليلاقي ربّه بصلاة خاشعة، أو بزكاة طاهرة، أو صيّام محتسب، أو في حجّ وصدقة وصلة أرحام وبرّ والدين وإصلاح بين النّاس.. وسائر ما يدخل في مفهوم طاعة الله تأسيّا بما كان يقوله رسول الله (ص) لمؤذّنه بلال (رضي الله عنه): “أرحنا بها يا بلال”. كلّما اشتاقت النّفس إلى التّواصل مع باريها في لحظة يستشعر فيها المؤمن أنّ جزأه الطّيني أثقلته همومُ الدّنيا فاستثقلت عليه حياته فاشتاق إلى تحريرها بربطها بالأصل العلويّ الذي دعاها إلى المسارعة إليه كلّما حزبَتْها الخطوب.

المؤمن الحقّ من يجد في طاعة ربّه الأنس والسّكينة، فإذا عصاه ضاقت عليه الأرض بما رحُبت، وخشيّ عاقبته مع من دعاه إلى جنّة عرضها السّموات والأرض وخاف أن تُخرجه معاصيه من هذا النّعيم الواسع الفسيح فلا يجد له في الجنّة موضع قدم؛ فبئس العبد عبدا يعلم أنّ عرض الجنّة السّموات والأرض ولا يكون له فيها مكان، وقد دعاه ربّه (جل جلاله) إلى المسابقة للطّاعة والمسارعة للمغفرة والتّنافس على درجات الجنّة، وليس على دخولها فحسب، فسار إليه بعقدة الدّيك الذي يظنّ أنّ الشّمس لا تشرق إلاّ بصيّاحه، وكم من الدّيكة نفقوا واختفوا من الأرض وظلّت الشّمس تطلع فجْر كلّ يوم من مشرقها وتمضي سابحة في فلكها إلى مغربها غير عابئة بما يعتقده ذكورُ الدّجاج؛ فلا يقدّم شروقَها صياحٌ ولا يؤخّره نباح، فشيئا من التّواضع يكسبنا كثيرا من التّقوى، أما التّكبّر فيباعد بيننا وبين غاياتنا، والكريم من كان تقيّا: “إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم” الحجرات: 13، والصيّام وسيلة لتحصيل التّقوى والإقلاع عن عقيدة الدّيكة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • جزائري

    عن زيد بن خالد الجُهني -رضي الله عنه- مرفوعاً: «لا تَسُبُّوا الدِّيْك فإنه يُوْقِظ للصلاة».
    صحيح رواه أبو داود و أحمد و النسائي

  • صالح

    مقال حسن في رد صاحبه على منتقديه . اما أنا فقد تعلمت من جدتي ان الديك يصيح معلنا وقت صلاة الفجر وهي ظاهرة يتميز بها هذا المخلوق اللطيف تستحق اخضاعها للبحث العلمي. والسؤال الذي اصبح يسيطر على تفكيري. متى نخرج من مرحلة فلسفة القيل والقال والوعض والإرشاد وتكرار الدروس الى اخضاع اسباب انحطاطنا الثقافي و هزيمتنا الحضارية الى التحليل العلمي .

  • نمام

    الكرونا علمتنا الايمان الحقيقي بالبحث العلمي و التعليم لا يقوم على ترديد بغلق المدارس وقلصت دور اساتذة الاخلاق التي يتذرع بها الداجلون و المشعوذين هؤلاء المتواطئون مع اعلام غيب صوت الشعب باعطائهم مجالا بادعاء انهم يؤولون الرؤى و الاحلام ويعالجون بالقران والطب النبوي الكرونا اثبت خرافاتهم لا يوجد مخلوقا عالجوه لم يجرؤ احدهم بالقول انه محصن برقيتهم اذن اين القانون لردع هؤلاء اليوم لا غدا تكون الدولة صارمة صرامة الوباء دولة بخطاب سياسي جديد وايمان بالعلم ولا فئة فوق القانون عدالة وتكافؤ فرص مواطنة نظن باننا لا نعلم ما ينفع يمكث و غيره زبد جن منهم القاسطون ومنهم مادون ذلك طرائق قدداهذا ديننا

  • merghenis

    تعليق2 : الآية2/183 مصححة هي :
    " أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "

  • نحن هنا

    لاتنس أن الاسلام قول وعمل ولذلك أنكرالله على المؤمن الذي يقول دون أن بفعل اشدالنكيرفقال جل من من قائل :"ياأيها الذين ءامنوا لم تقولون مالاتفعلون كبر مقتا عند الله أن تقوا مالا تفعلون"

  • hamdad hadj ali

    مقال السيد ابو جرة ممتاز هدا ما تشكوا منه امة محمد التهور و عدم فهم ديننا الدي ارتضاه لنا ربنا شكرا لكاتب المقال .

  • أيوب

    المشكلة ليست في صياد الديك أو نقنقة الضفادع....المشكلة أن الشعب الجزائري ..والشباب خاصة أكثر وعيا وادراكا بالصياح الطبيعي..والمصطنع.............الشعب الجزائري أصبح يفرق بين العسل الطبيعي والعسل الاصطناعي....هل فهمت يا بوقرة.......ما نقوله ليس من الافلاس ..والحديث النبوي الشريف.الذي مطلعه ...المفلس...نحن لسنا كذلك ولن نكون...نحن نقول الحقيقة ونكشف الرويبضون.الذين حذرنا منهم حبيبنا محمدصلى الله عليه وسلم........وضاعت عليك يا بوقرة.....الله غالب..

  • ابن الجبل

    المقال شيق ... ان الدين معاملة . والله لا يقبل صلاة أو صياما أوحجا من يؤذي جاره ،أو يأكل أموال الناس بالباطل ، أو يشارك في الباطل ، أو يرى الباطل متفشيا، والفساد منتشرا ،وهو يتفرج أو يصفق أو يسكت عن كلمة الحق. والله تعالى يقول :" والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ....". لا يقبل الله ايمان المؤمن الا بالعمل . ومن يعتقد أن الايمان يكفيه ، فقد خسر خسرانا مبينا .

  • merghenis

    •“. كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ (15/90) . المقتسمون: les conjurés , المقتسمون،الذين أقسموا ألا يتبعوا الرسل
    • يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ىَٕامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (2/183 حفص)

  • فريد

    النفاق يمشي على رجليه. لمذا لم تحققو معه وهو شارك النظام في الفساد