-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مع شيخ الدعاة والعلماء

ماذا بقيّ من الشيخ الغزالي؟

حسن خليفة
  • 279
  • 0
ماذا بقيّ من الشيخ الغزالي؟
أرشيف

قبل أن أنهي هذه السلسلة من سـوانح “مع الشيخ الغزالي”، والتي سأخصصها للرسائل التي كتبتُها له، علما أن “الرسائل” هي الفكرة التي انبثقت عنها هذه السوانح التي طوّفنا فيها في بعض بساتين الشيخ الغزالي الفكرية والدعوية.. أودُّ أن أسجل بعض الملاحظات جوابا عن سؤال مركزي كبير، عادة ما يُطرَحُ في مثل هذه المناسبات، بعد مضيّ ذوي المكانة العلمية والأقدار الفكرية والدينية إلى ربّهم تبارك وتعالى بالوفاة، ونص السؤال هو: ماذا بقيّ منه؟

بالنسبة للشيخ الغزالي، وهو داعية ـ في المقام الأول ـ أحسبُ أن أهم ما ينبغي الحرص عليه مما بقيّ وسيبقى بحول الله، ويحسُن ـ بتعاون الجميع ـ ترجمته إلى “فعل” و”مشروع” ومنجَـز واقعي ميداني.. أهمّ ما يبقى هو ما يلي، بالتدرُّج :

أـ استخلاص قواعد الدعوة والإبلاغ من تراثه الدعوي الديني ـ الفكري أولا بأول، والحرص على بيان منهجه في الدعوة إلى الله، بالأسلوب الأنسب والمرتضي (على بصيرة) وأيضا (بالحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن)، وذلك ما انبرى له الشيخ الغزالي؛ حيث كان يرى الدعوة هي السبيل الأمثل لإيصال كلمة الله إلى الناس في كل مكان، وفي كل وقت، وكان يدعو إلى ذلك بكل ما أوتي من قوة واقتدار.

والمعنى: أن يُعكف على استخلاص كل ما له علاقة بالمنهج الدعوي في تراثه الطيب المضيء، سواء في أطاريح علمية، أو كتب وكتيبات، أو بإنشاء فرق بحثية في هذا المجال. ولعل بعض المخابر الأكاديمية تسهم في ذلك، كما أن إنشاء فرق أخرى في مراكز ثقافية وهيئات علمية وتربوية، في جمعية العلماء أو في غيرها، سيفي ببعض الغرض.

ب ـ أن يُدرَس ذلك الميراث الدعوي في ندوات ولقاءات تكوينية نوعية؛ ولعليّ أذكر هنا شيئا مفيدا، يعمّق الصلة بهذه الشخصية الإسلامية الرصينة وامتدادها في أفق التكوين الثقافي لأجيال متلاحقة. فلقد كنّا في أوائل الثمانينيات في بلديتنا (رأس العيون ولاية باتنة).. ضمن حِلَق الدرس والتكوين الديني المصاحِبة لأنشطة الورشات التي تُقام في الصيف للتحضير للامتحانات (الأهليةـ وشهادة التعليم المتوسط ـ والبكالوريا).. كنا ندرُس عددا من المتون والكتب ومنها “خُلق المسلم” للشيخ الغزالي، و”منهاج المسلم” لأبي بكر الجزائري، و”بدائع السلك” وغيرها من الكتب المفيدة، ولم تكن ثمة ـ وقتئذ ـ أيُّ حساسيات في المجال الدعوي الإيماني، بل كان السعيُ إلى التكوين والاجتهاد ومعرفة الإسلام واجبا من الواجبات الكبيرة، خاصة وأن أجيالا كاملة حُرمت من معرفة دينها بالشكل المطلوب والمناسب… وهذا جزءٌ من مأساة الإسلام والمسلمين في أقطار شتى، فرضت قيودا ظالمة خانقة على الإسلام، فاتّجهت مجاميع الشباب إلى ما يمكن تسميتُه بـ”التكوين” الخاصّ باجتهاد وقلة تجربة، فكان ما كان من تعدّد الفهوم وتكاثر الإحن والفتن والخلافات، ولعمري إنها مسؤولية سيُسأل عنها الحكام الذين حاربوا ويحاربون الإسلام باسم الإرهاب أو بأي اسم آخر، وهم يعلمـون أنهم مخطئون وظالمون؛ فالإسلام هو دين الله إلى الإنسانية كلها وواجب المسلمين هو تعليمه والدعوة إليه والتكوين المتين فيه، وليس محاربته والتضييق على الدعاة والعلماء فيه.

ومن جميل ما يجب ذكرُه هنا أن ذلك التكوين يتم ّ في المساجد، وفي الأقسام في المؤسسات التربوية، وتلك من نعَم الله على جهتنا في ذلك الوقت المبكر من أوقات الصحوة؛ إذ كان المحيط إيجابيا ومتناغما مع رغبة الشباب في معرفة دينهم وزيادة حصائلهم في التكوين في مختلف الميادين المعرفية والدينية.

ب ـ السعي لإنشاء معهد عال أو معاهد لتكوين الدعاة والخطباء والمفكرين والمفتين، على النحو الذي يستجيب للاحتياج الكبير لهذه الفئة المخصوصة من قادة الرأي والفكر، والذين تحتاج إليهم مجتمعاتنا العربية والمغاربية، وبالأخص مجتمعنا الجزائري المتعطش، والذي لا يلقى ما يلبّي حاجته إلى الثقافة الإيمانية والذاتية (كما سمّاها الشيخ الغزالي).

هناك إجماعٌ على أن من الأولويات في مجال التغيير والإصلاح والدعوة ملء هذا الفراغ بإعداد نمط خاص من قادة الرأي الأقوياء الأمناء الأوفياء المقتدرين من الجنسين معا. فهل يكبُر على طلبة الشيخ وطالباته وهم ألوف أن يوفوه حقـّه في هذا المحور الرئيس من محاور البلاغ المبين والدعوة إلى دين الله تعالى بالأساليب التي تمزج بين العرفان والمعرفة، والإيمان والسلوك، والقوة والرّقّة والمحبة، والاستيعاب، وسائر ما يجب من أصول وآداب وأخلاق العمل الإصلاحي المثمر؟.

ج ـ وربما تم الاهتمام بفرع مميز ممّا له صلة بالمسألة السابقة (ب) إنشاء مركز متخصص في تخريج نوعية خاصة من الدعاة الذين يحملون أمانة الدفاع عن الإسلام بالحجة، والمناظرة، والمجادلة بالتي هي أحسن، على مستويين هنا: المستوى الأول فريقٌ متين للحِجاج والمناظرة مع أهل الإسلام أنفسهم، ممّن انحرفت بهم طرائق التفكير، وزاغت عقولهم وأفئدتهم فصاروا يهاجمون الإسلام ويرمونه بالنقيصة في هذه المسألة أو تلك، وهم كُثر في الفكر، والفلسفة، والثقافة واللغة والأدب والنقد… وجموعهم متنوّعة لكن تكاد تجمعهم يافطات: الحداثة، والعولمة، والمعاصرة… والعمل على إبعاد الدين عن معترك الحياة وميادينها الفسيحة.

لا بد لهؤلاء من “فريق حِجاج” أو جهاز دعوي متخصص فارع المعارف، نزيه، شامخ التكوين، متعدّد الآفاق، قارئ مستوعِب، ومتابع يقظ..

ومع هذا الفريق المتميز فريق آخر بألسُنٍ مختلفة ولغات متعددة، فيما يمكن أن يُسمى “الداعية العالمي” الذي يتقن عددا من اللغات، ويحمل الفكر الإسلامي كقاعدة راسخة، وله إلمام وسيع بالأديان ومقارنتها، وعلم دقيق في شؤون الأفكار وانتشارها، والتيارات والمذاهب… ولعل المثال الأقرب هو أحمد ديدات رحمة الله عليه وذاكر نايك، وسواهما من الدعاة البلغاء المقتدرين… وما أجمل ما كان يدعو إليه الشيخ الغزالي في هذا الشأن وشكواه المُرَّة بأن “الإسلام قضية عادلة ولكن المحامي عنها فاشل” وذلك الفشل هو الذي جرّ الويلات على حركة الدعوة الإسلامية الإيمانية الميمونة في هذه الأزمنة الأخيرة..

إن تلك المعاهد العالية المتخصصة من شأنها توفير أعداد من الكوادر: علماء، ومفتين، ومثقفين، ودعاة شأنهم الأول هو تبليغ كلمة الإسلام إلى الناس على أحسن ما يكون التبليغ، ووفق أرقى أساليبه، باستخدام كل العلوم والفنون لأداء هذه الرسالة العظيمة والواجب الكبير.

سيكون في تراث الشيخ الغزالي، ما يمكن أن يشكل مواد (مقاييس ـمساقات) تُستخلص من ذلك التراث، وتستأنس بتجربته الخاصة وتجارب غيره من الدعاة الهُداة غيره. فضلا عن التكوين العقدي، والأخلاقي والسلوكي والتزكوي، والإنساني (علوم إنسانية) واللغوي: علوم اللغة والبلاغة وما في مجراهما… وخلال سنوات تطول أو تقصـُر ستتهيأ نخبـة عارفة تحمـل الإسلام إلى الناس وتقدمــه على نحــو مخصوص وبديع وممــيز، فيفتح الله بها (النخبة) قلوبا وعقولا ويُصلح بها نـفوسا تنخـرط في الحياة بإيمان وحيوية، تعــمرها بالخير والإنجاز والصلاح …

ذلكم هو الميدان.. ذلكم هو الميدان يا أطباء القلوب من العلماء والصالحين والمثقفين الأخيار من طلبة الشيخ الغزالي ومحبـيه ومن درسوا عليه أو من قرأوا فكره والتقطت قلوبهم دعوته وصيحاته، وحسرتَه وحُرقتَه …وحُرقــتَه…وحُرقــتَه. وكم من عالم وداعية مات بحُرقـته على الدين، والله المستعان.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!