-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متى نؤسس أكاديمية للتقويم التربوي؟

الشروق أونلاين
  • 246
  • 1
متى نؤسس أكاديمية للتقويم التربوي؟
ح.م

التقويم التربوي هو أم المعضلات في البيداغوجيا، وهو العقبة الأشد كأدا وعسرا في المجال التربوي. ولا يمكن لكل مشكلات التعليم أن تصادف الحلول العلاجية المناسبة لها إلا إذا عبرت جسر التقويم التربوي عبورا صحيحا ومريحا فيه الفحص والتشخيص والوصفة العلاجية المواتية. ولا يمكن لأي نظام تربوي أن يقف على قدميه شامخا إلا تحت ظل تقويم تربوي واعد ونوعي. ولا نستطيع الحكم عن مدى تطوّر التعليم أو تقهقره إلا من بعد إلقاء نظرات عن الطرائق المسخَّرة فيه لتقويم مكتسبات المتعلمين ومدى التمكن من استثمارها وتسخيرها والاستفادة منها.

لم يخطئ من قال: (قل لي كيف تقوّم متعلميك، أقول لك كيف تدرسهم). فالتقويم التربوي هو المرآة التي تعكس صورة ودرجة التحكم في المقاربة المعتمدة في التدريس. ويتولد الانفصام بين الجانبين، وتنشأ الفجوة المباعِدة بينهما لما لا يواكب التقويم التربوي الممارَس من خلال المراقبات الفجائية والفروض والاختبارات طريقة التدريس المتبعة في الفصول الدراسية. وهذا ما يلاحظ في نظامنا التربوي الحالي الذي بنيت فيه المناهج على أساس المقاربة التدريسية بالكفاءات “التدريس بالكفاءات”، ولكن العمليات التقويمية على مستوى مؤسساتنا التربوية ومن خلال الامتحانات الرسمية ما تزال تتخبَّط في الأساليب التقليدية المعتمَدة على مخزنات الذاكرة والحفظ والاسترجاع. وهذا تأكيدٌ على أن الممارسات التدريسية الفصلية لم تتحرر بعد من التلقين السلبي والحشو ومنح القدرة على الحفظ، وهي القدرة العقلية الأدنى، مكانة متقدمة من بعد تجاهل بقية القُدرات.

سيطر التسلط الإداري في إجحاف على التقويم التربوي في نظامنا التربوي، وأجهض مفعوله، وحجّم من قوة تأثيراته على صيرورته حتى أبقاه فعلا روتينيا يمارَس، كالعادة الإجبارية، من دون أن يستفاد من مردود النتائج المتمخضة عنه، إن في إيجابياته أو في سلبياته. وأما المعلمون والأساتذة فقلَّما يمنحونه العناية التي يتطلبها من حيث الإعداد والبناء والصياغة والمتابعة والتحليل للوقوف على المحاسن واكتشاف العيوب. وأصبح همُّهم محصورا في منح علامة لكل متعلم بلا مراعاة لمصداقيتها وموضوعيتها. ومن تواتيه فرصة معاينة أوراق أسئلة الفروض والاختبارات بعين ناقدة من حيث صوغها وديباجتها وتنظيمها وترتيبها وتدرُّجها وسلامتها اللغوية ومدى مطابقتها لمضامين المناهج يقف على أمور شديدة الغرابة. وحتى في الامتحانات الرسمية، تنكشف في كل سنة أخطاء في أسئلة كل المواد رغم الحرص الظاهري على دقتها وسلامتها بمعاودة قراءتها قبل طباعتها من طرف المعلمين والأساتذة والمفتشين. ويترتب عن هذه المطبّات السيئة، وفي كل مرة، محاولات لتداركها من بعد استبعاد الأسئلة الخاطئة وتكييف سلاليم التنقيط لصالح الممتحَنين كما يقال. وأحيانا، تصل أخبار هذه الأخطاء إلى الشارع مثلما حدث قبل سنوات قليلة لما أخطأ واضعو أسئلة اختبار مادة الأدب العربي للفرع الأدبي في البكالوريا في اسم الشاعر الذي نظم القصيدة المقدَّمة كسند؟.

اهتمت الهياكل الحالية بشقيها الوطني وفروعها الجهوية في تضخيم الجوانب التنظيمية والتقنية من منظور إداري بحت ومنقطع الصلة بأعماق المناحي البيداغوجية. وهذه الأعمال لم تعد اليوم، تحتاج إلى جهدٍ كبير خاصّة لما أصبحت التسجيلات ومراقبتها وإعلان النتائج تتم إلكترونيا. وبإمكان مديريات التربية أن تستخلفها فيها كما كان الأمر في السابق. ولم تنجب لنا هذه التجربة التي زادت عن عشرين سنة سوى من أحبُّ أن يطلق عليه افتخارا لقب “جنرال البكالوريا” وعسكرة الامتحانات بترسانات الملاحظين، وتحريف واجبات أعدادٍ من المفتشين في مختلف الأطوار، وتحويل أنظارهم من الاهتمام بالجوانب البيداغوجية وتكوين الأساتذة والمعلمين ومرافقتهم، والسعي إلى رفع مردود أعمالهم الفصلية إلى بذلهم المستحيل من أجل الظفر بتعيينٍ يُنزلهم منزلة رئيس مركز تصحيح امتحان رسمي، وهو عملٌ إداري محض. وتشكل هذه الطائفة من أدعوهم بـ”مفتشي الامتحانات”. وفي كنف هذا التحريف في الواجبات ضاعت القيمة المرتقبة من التقويم التربوي. ومازلت أذكر، أنه لما شُرع في إصلاحات سنة 2003م، كيف سادت الانطباعية والحكمُ الارتجالي ووجهات النظر الخاصة والرأي السطحي المبني على الأظانين الملتبسة، وكان السؤال الأكبر المطموس هو: على أساس نتائج أي تقويمات أجريناها يمكن أن نشرع في تجسيد هذه الإصلاحات؟. هل يمكن للزارع أن ينتظر أجود الغلال وأينع الثمار من دون اختبار للتربة التي يزرع فيها وانتقاءٍ دقيق للبذور المزروعة؟. وبعد 17 سنة لم نصل إلى المستوى المنشود المحمود، ولم نجن سوى السراب والحوض اليباب.

أصبح تأسيس أكاديمية وطنية للتقويم التربوي أكثر من ضرورة ملحَّة حتى نخرج من ظلمة النفق الطويل الذي يسير فيه نظامُنا التربوي بعد إبطال نشاط الهياكل الحالية التي زادت من سيطرة الجانب الإداري على التقويم التربوي، وضخمت الجوانب الشكلية والتنظيمية، ومنحتها أكثر من حجومها. وقلصت من القيمة البيداغوجية للتقويم التربوي الذي يحفظ كل أصناف النشاطات المدرسية ومواردها وسنداتها من الانحراف والعقم والمحصول الهزيل.

لا أريد أن يضِل الفهم ويتحيَّر وينكفئ محددا الغاية من تأسيس أكاديمية التقويم التربوي في تنظيم الامتحانات الرسمية، وإنما أن تتوسع وتتضاعف لتشمل كل ما له صلة بالنشاط المدرسي كتقويم المناهج التعليمية والمفاهيم المتضمنة فيها والشبكات المفاهيمية الخاصة بكل المحاور والمقاربة المعتمَدة والنشاطات التعليمية المقترحة. وأن تتعدى ذلك إلى تقويم الكتب المدرسية ومرافقاتها من حيث مدى مطابقتها للمناهج المقرَّرة، وتبويبها، ومقروئيتها بمعناها الصحيح غير المحرَّف والمجوَّف (أقصد بالمقروئيةlisibilité La علاقة ودرجة التفاعل بين المضامين المكتوبة والمتعلمِّين) والوثائق المقدَّمة فيها كسندات لإنجاز النشاطات والممارسات فرديا أو ضمن المجموعات المصغَّرة، وسلامة لغتها ومواضِع علامات الترقيم فيها ودقة مصطلحاتها ونجاعة ووجاهة التقويمات المرفَقة بها.

كما تتولى أكاديمية التقويم التربوي النظر في الوثائق المختلفة التي ينجزها المعلمون والأساتذة كالمذكرات وأسئلة الفروض والاختبارات، وتتابع عناصر الموضوعية والصدق والملاءمة والسلامة فيها من خلال التقويم المستمرّ لها وتحسينها. وتزوِّد المنفذين بملاحظاتها وتوجيهاتها، وتضع بين أيديهم نماذج منتقاة للاسترشاد بها. وتمكِّنَ المفتشين والمديرين من وسائل قياس أداءات المعلمين والأساتذة في الأقسام الدراسية انطلاقا من معايير قياسية واضحة، خالية من غموض العموميات التي لا تعرف طريقا إلى علاج الإخفاقات، وأن تجعلها متدرِّجة في تطوُّرها تبعا لخبرة وتجربة كل معلم وأستاذ. وتُرفقها بالعلاج المناسب لكل ضعف بعد ضبطه وربطه بأسبابه الظاهرة والباطنة. ويكون الهدف الأسمى هو تحفيز المعلم والأستاذ على تبني التقويم الذاتي في كل أعماله بشكل متواصل بتوظيف شبكات تقويم جاهزة، وأن ينقل ذلك إلى متعلميه (التقويم الذاتي والتقاوم) حتى يصير لصيقا بشتى محاولاتهم.

لا تسقط أكاديمية التقويم التربوي من حساباتها تقويم الأعمال الإدارية اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية، وإخراجها من حرج الروتين المملّ الذي يحيط بها، ونفث روح الأفكار الجديدة المفيدة في عروقها. وألا تتوقف عن محاولة فتح أعين مفتشي الإدارة المدرسية على الفعل البيداغوجي في لقاءاتهم بالطواقم الإدارية بدل الاكتفاء بقراءة مناشير التسيير الإداري التي لا تحتاج إلى جهود مضنية لفهمها وتطبيقها وصرف الوقت في تكرار تعليمات محفوظة عن ظهر قلب.

تنشِّط أكاديمية التقويم التربوي ندواتٍ ولقاءات تكوينية دورية لتدريب فئات من المفتشين المتميزين من طرف خبراء مؤهَّلين تأهيلا عاليا، لتمرينهم على كل أنماط العمليات التقويمية المشار إليها سابقا، وغيرها. ويتولى هؤلاء بدورهم توسيع دائرة الاستفادة العملية بتأطير زملائهم في مختلف الولايات، ونقل المكتسبات المحصلة إليهم على أن يحرصوا على تقويم كل عملية تكوين يشرفون عليها ليتأكدوا من مدى تحقيق الأهداف المسطرة لها، وتضميد النقائص المنبجسة عنها في حينها.

تنشأ في أكاديمية التقويم التربوي بنوكٌ للوثائق تتابع بالتمحيص والتجويد والإضافة والإلغاء والتعديل، ويهتم بشكلها ومضمونها على حد سيان، وتوزع على كل المؤسسات التعليمية بحسب مستوياتها وحاجاتها، ويفرض التقيُّد باستعمالها استعمالا مشفوعا بالتطلع إلى التجويد الذي يفضي إلى تطوير المدرسة الجزائرية.

ثمة أمران أرى أن أحدهما سيعزز دور أكاديمية التقويم التربوي، وهو: البحث التربوي. وأما الأمر الثاني الآخر، فلا أحسبه سوى مشوِّه لنصاعة عمل هذه المؤسسة ومغتال لطموحها، وهو: الدروس اللصوصية التي ينبغي القضاءُ عليها، لأن بقاءها يعني اغتصاب كل عملية تقويم، وتزوير نتائجها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • جزائري حر

    السؤال تاع الصح : متى تتوقف سياسات تدمير عقول الأبرياء من أطفال الجزائر. متى يتوقف التوظيف العشوائي لكل من هب ودب يتعلم الحلاقة في رؤوس ليتامى (يعرف يقري).