-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مجلة “التراث”.. متى تشرق شمسُها من جديد؟

مجلة “التراث”.. متى تشرق شمسُها من جديد؟
ح.م

صنفُ الرجال العظماء الذين يستطيعون السير في هذه الحياة في مسارات متعددة بلا أرق، ويخلِّفون بصماتٍ لا تمحى في كل رقعة ينزلون فيها هو صنفٌ نادر، وقلما يعثر على فرد من أفراده. ويشكل كل واحد من هؤلاء الأفذاذ المتميزين الذين يزيدون عن الرجال العاديين، يشكل لوحده رجلا في صيغة الجمع. ومن هؤلاء صاحب الذكر الحسن والسمعة الطيبة الأستاذ مختار فيلالي (1912 ـ 1941م)، عليه رحمات الله.

تجاوز الأستاذ مختار فيلالي، بفضل ما أوتي من سجايا وعطايا، رتبة المربي بعد أن مارس التربية من مستوى التعليم الابتدائي إلى مستوى التعليم العالي، وامتلك ناصية الثقافة وسمات المثقف الملتحم بمشكلات مواطنيه، وتعدّاهما إلى مصف السياسي الملتزم الذي خلَّد اسمه بمواقف مشهودة. وتبوأ مكانة رجل الإصلاح الاجتماعي المتفتح الذي يتوسط مجالس الصلح بين الفرقاء والمتخاصمين. واعتلى منابر الملتقيات، وعمل على نشر الثقافة النيرة والإرشاد الحكيم بين الناس وفق مستوياتهم بلسانه وبكتاباته بأسلوبه الجاذب المهذب. ولم ينقطع عن البحث المفيد، ولم يمسك قلمه عن التدوين حتى يجعل من حاضر ومستقبل وطنه امتدادا لماضيه، ويربط حلقات التواصل بين الأجيال. وبفضل هذا التعدّد، أنزله عارفو قدره منزلة جليلة، وأصبح شخصية وطنية يُستأنس به في حضوره رسميا وشعبيا، ويُسأل عنه في غيابه.

امتلك الأستاذ مختار فيلالي نزعة لا تخف ولا تخفت إلى النضال والكفاح اللذين لا يصيبهما فتورٌ أو تراخ، واعتاد العمل المتواصل إلى حد أنه كان لا ينام إلا قليلا. وكانت شهيته إلى الطعام ضعيفة، إذ أنه كان يكتفي في نهاره وليله بوجبة واحدة لسد حاجته، وتلبية حاجة جسمه إلى الطاقة. وهو رجل لا يعرف المداورة أو المراوغة أو التراجع أو التكاسل أو التخاذل أو طول الانتظار. ويصدق عليه قول الشاعر العربي:

 ترى الرجلَ النحيف فتزدريه

وفي أثوابـــــــه أسدٌ هـصور

 تحوّل هذا الميل في شخصيته إلى نزعة تحرِّك عناصر تكوينه الذهني والنفسي. وحتى تحت وطأة التزامه الحزبي، كان ينزع إلى مدِّ جسور الالتقاء والاختلاط مع كل الطبقات. وكان يجالس العامة ويسمع منهم ويخاطبهم بلغة بسيطة يستسيغونها ويفهمونها. كما كانت حلقات النخبويين الملتزمين تسعد بوجوده وتوسِّع له في المجلس. وكان إذا تكلم شدّ القلوب واستولى على العقول وطرد اليأس والقنوط وغرس بدلهما بذور الأمل والتطلع إلى ما هو أرغد في العيش وأفضل في الحياة. وكان يحسن اختيار المقال المناسب لكل مقام، وما خاب ظن من سمّاه: “مختارا”. وكان يقرن في كتاباته بين البساطة الأسلوبية وعمق الفكرة ما جعل آثاره المسجلة تصحّ لكل الأزمان. وكان نبيها وذكيا يعرف في أحاديثه إلى أين يذهب من أقصر الطرق. كما أنه كان يحسن تحريك أولئك الذين دب فيهم الملل وعجنتهم الرتابة وكاد اليأس أن يكبلهم.

ظهرت جمعية “التاريخ والتراث الأثري” لولاية باتنة، والتي عُرفت فيما بعد، ولظروف خاصة، باسم جمعية “التاريخ والتراث الأثري لمنطقة الأوراس”، ظهرت إلى الوجود في العشرين ماي من سنة 1985م تحت رقم اعتماد 387 صادر عن ولاية باتنة. وهي جمعية علمية ثقافية تعتني بالتاريخ الوطني في كل عصوره ودهوره، وتهتم برافده المتين المتمثل في التراث الأثري بكل ما يزخر به من كنوز أثرية ومواقع تاريخية شاهدة ومعالم سياحية وإرث مادي مرئي أو مخبوء تحت الثرى. وإضافة إلى النشاطات المختلفة التي كانت الجمعية تشارك فيها كمبادراتها أو حضورها في إحياء المناسبات الوطنية الممجِّدة لذاكرة الأمة، ومساهمتها في الملتقيات المحلية والجهوية، أنشأت مجلة دعتها: “التراث”.

صدر العدد الأول من مجلة “التراث” في شهر جويلية 1986م، أي بعد تأسيس الجمعية بسنة واحدة وشهرين. وزُفَّ إلى القراء في شكل كتاب الجيب. وما هذا الإبكار في بعث مجلة “التراث” إلا صدى عمليٌّ ملموس باقتناع مؤسس الجمعية ورئيس ومدير تحرير مجلتها الأستاذ مختار فيلالي بأهمية الكلمة المطبوعة والمنشورة التي تسافر بعيدا وتلقى رواجا، وتستطيع الوصول إلى أكبر عددٍ من المهتمين والمتابعين، ومدى تأثيرها في تجنيد الأنفس للاعتناء بالتاريخ، وتحسس تأثيره في إيقاظ الشعور وتشكيل فصيل يولي عناية به كقيمة ثمينة مشتركة ومقوِّية للروابط الوطنية. ويضاف إلى ذلك أن الكلمة المطبوعة تخلُد كأثر باق يمكن أن يورَّث وتجد فيه الأجيال المتعاقبة مدخراتٍ ومنافعَ لمّا تُحسن توظيفها واستثمارها في أوقات الفسحة والرخاء وفي أزمان الضيق والشدة.

صدر من مجلة “التراث” سبع عشرة عددا. وبرز أول عدد، كما أتى عليه الذكر منذ حين، في شهر جويلية 1986م. في حين، أخرِج عددُها الأخير إلى جمهور القراء في شهر ديسمبر 2011م. أي أنها عمّرت في طورها الأول ربع قرن من الزمن. واختلفت هذه الأعداد في أبعادها قليلا، وتباينت من حيث حجومها وعدد صفحاتها؛ فقد بلغ أقلّها سبعين صفحة في عددها الخامس الصادر في شهر فيفري 1992م. وأما أكبر أعدادها ضخامة، فهو العدد الرابع الصادر في شهر ديسمبر 1989م، إذا غطت مواده المنشورة فيه 276 صفحة، ويليه العددُ التاسع الصادر في شهر نوفمبر 1997م بـ227 صفحة. ولهذا الاختلاف الكمي في عدد الصفحات مسوّغاته التي كان الأستاذ مختار فيلالي يردها طورا إلى شح الموارد المالية وارتفاع تكاليف الطبع، ويلقي باللائمة طورا آخر على ندرة المادة العلمية المتوفرة بين يديه. وأحيانا أخرى، كان يُرجع الأمر إلى العاملين معا، ويشكو من تأثيرهما السلبي حتى في وتيرة صدور المجلة صدورا منتظما وفي مواعيد مضبوطة. وإن أجيز لنا أن نعدّ “التراث” مجلة دورية، فإن الإشارة تلزم إلى أن رمي أعدادها بين أيدي القراء لم يكن منتظما. وفي الإمكان أن نضيف إلى العوامل المذكورة المؤثرة في تتابع صدورها كثرة انشغالات الأستاذ مختار فيلالي، وقلة تفرغه لها بصورة كلية.

كان الأستاذ مختار فيلالي، رحمه الله، هو من يقوم بجمع المقالات المستلمة من كتابها بنفسه، وهو من يرشح ما يرى منها متطابقا مع شروط النشر. وكان يتولى وحده قراءتها وتصويب ما علق بها من أخطاء وهنات ولو لغوية أو إملائية، ثم يرتبها حسب معاييره التي اختارها منذ صدور العدد الأول. وكان هو من يحمل المقالات الجاهزة إلى المطبعة، ولا يتأخر عن مراجعة النسخة الأولى المسوّدة في الغالب إلا لعذر مانع. وكان هو من يتسلم رزم أعداد المجلة من مخزن المطبعة، ويعمل على توزيعها على أصحاب المكتبات وتسليم الأعداد المهداة إلى الهيئات والأفراد. ولم يكن يقبل أن ينوبه أحدٌ في هذه الأعمال إلا نادرا. ولا يمكن أن يوضع تصرف الأستاذ مختار فيلالي في موضع صاحب النظرة الاحتكارية والرؤية الانفرادية التي لا تقبل مشاركة الآخرين له، وإنما وجب أن ينظر إليه من زاوية حرصه على هذا المكسب حتى لا يصل إلى القراء ناقصا أو محملا بالعيوب.

يُعرف عن الأستاذ مختار فيلالي أنه رجلٌ دقيقُ الملاحظة، قوي المعاينة، ولا يمكن لصغائر الأخطاء أن تمر أمام عينيه من دون إدراكها. ولست أدري أسباب الغفلة التي أحاطت به، ولم تمكنه من التفطن إلى صدور العدد الثالث من المجلة من دون تدوين لتاريخ ظهوره على غلافه الأول؟. ولكن استدراك هذه الهفوة نجده في تاريخ كتابة افتتاحيته الذي صادف الثاني والعشرين من أفريل 1988م، ما يعني أنه أخرج إلى القراء في الثلاثي الثاني من نفس السنة المذكورة؛ لأن من عادات الأستاذ مختار فيلالي التي وقفنا عليها عن معايشة طويلة هو أنه يجعل من كتابة افتتاحيات المجلة هو آخر ما يخطه قلمه.

لم يفرّط الأستاذ مختار فيلالي في مجلة “التراث” التي جعل منها أداة لتوسيع رقعة وجوده كفرد متفاعل مع محيطه ومنفعل مع هموم وطنه، واعتبرها حاسة إضافية يتلمس من خلالها درجات التجاوب في وسط قرائه الكثر. ولعلها كانت منفذه الوحيد الذي يتسلل عبره لإسماع رأيه ونشر تصوّراته، وتبليغها كلما زاحمه التضييقُ وأوصد مناوئوه الأبواب في وجهه.

مع رحيل مؤسسها ورئيس تحريرها، احتجبت مجلة “التراث” مرغمة، واختفت عن الأنظار. والسؤال الذي يطرح بعد كسوفها هو: متى تشرق شمسُها من جديد؟.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!