-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

محللون سياسيون بثقافة العوام

الشروق أونلاين
  • 1034
  • 0
محللون سياسيون بثقافة العوام

هناك قضية لافتة للنظر منذ تكريس مبدأ التعددية الإعلامية في الجزائر ، وهي أن بعض القنوات الإعلامية فتحت المجال الإعلامي على مصراعيه ولكن لفئة من المحللين السياسيين -كما تصفهم- يتحدثون فيما يحسنون وفيما لا يحسنون ، ويخوضون فيما يعرفون وفيما لا يعرفون، من شؤون السياسة، وشؤون الديانة، وشؤون الاجتماع، وشؤون العمران. إلى هذا الحد، فإن الأمر يمكن تبريره بأن هؤلاء المحللين السياسيين يمتلكون من المواهب والملكات والقدرات ما لا يمتلكه غيرهم، ولكن ما لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال هو أن بعض المحللين السياسيين الذين يتصدرون -و ربما يحتكرون الفضاء الإعلامي- بينهم وبين التحليل السياسي بعد المشرقين، ولا يتميزون عن سامعيهم ومشاهديهم من العوام في شيء، فلا تجد في تحاليلهم السياسية ما يغذي عقلك لأن هذه “التحليلات السياسية ” لا تعدو أن تكون عملية استرجاعية لما قرؤوه في الجرائد لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون، ليس القصد من ذلك احتقار ثقافة الجرائد فبعض الجرائد تمتلك أسماء لامعة تمثل قيمة مضافة في العمل الصحفي، وإنما القصد من ذلك أن المحلل السياسي لا يكون محللا سياسيا إلا إذا كان صانعا للأفكار ، مبدعا في مجاله ، قادرا على اكتشاف ما تعجز عنه العقول العادية ، عالما بحيثيات القضية التي يتحدث فيها.

إن بعض من يوصفون بأنهم محللون سياسيون في بعض القنوات الإعلامية هم في المكان الخطأ ، وأجدر بهم أن ينسحبوا من الفضاء الإعلامي عملا بمقولة” رحم الله امرأ عرف قدر نفسه”، وعملا قبل ذلك بقول الله تعالى: ” ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا”.

ليس من المبالغة القول بأن وظيفة المحلل السياسي ، ومثلها كذلك وظيفة “الخبير الاقتصادي” و”الخبير الأممي” قد أضحت وظائف مشاعة ومستباحة يؤديها كل من هب ودب ، في حين أن من شروط المحلل السياسي الجمع بين فقه السياسة وثقافة التحليل السياسي على نحو ما نقرأه في أرشيف السياسة العالمية عن محللين سياسيين ارتقوا بتحليلاتهم السياسية حتى أصبحوا مرجعا لغيرهم.

إن المحللين السياسيين بثقافة العوام هم بيقين جزء من الهزال الإعلامي الذي نعيشه، والذي أنتج لنا مشهدا إعلاميا باهتا، ليس فيه ما يشجع على التفاؤل. إن تغيير الصورة الباهتة للمشهد الإعلامي لا يمكن أن يتحقق إلا بإزالة عناصر وآثار الرداءة الإعلامية التي يمثلها رؤوس الجهالة من المحللين السياسيين الذين ليس لهم من بضاعة في التحليل السياسي بشكل عام إلا ما يستوون فيه مع العوام.

لا أدري لماذا عجزنا عربيا في السنوات الأخيرة عن استنساخ صنف راق ومبدع من المحللين السياسيين من شاكلة ” محمد حسنين هيكل” الذي يمتلك فكر إعلاميا وسياسيا راقيا رفعه إلى مصاف المحللين السياسيين العالميين الكبار ، وحسبه في ذلك أنه كان رقما مهما في الصراع العربي الإسرائيلي من خلال تحليلاته السياسية التي يفتقدها كثير من المحللين السياسيين الحاليين من أصحاب الأفكار المقلدة والثقافة الاسترجاعية.

و لا أدري لماذا عجزنا جزائريا عن استنساخ نماذج جزائرية رائدة في مجال التحليل السياسي مع أننا نمتلك من المعاهد السياسية ما لم يكن متاحا في زمانهم.

أليس من المؤسف أن تستمتع أو تشاهد محللين سياسيين –أو هكذا وصفوا-وهم يلبسون على المشاهد ويقلبون له الأمور ويتصدون لما ليسوا له أهلا من القضايا المتعلقة بالدستور فيضلون ويضلون.

لا شك أن كثيرا من المتابعين يشاطرونني الرأي في أن التحليل السياسي قد أصبح مهنة من لا مهنة له ولا أدل على ذلك من جمهور المحللين السياسيين المتجولين والمتنقلين بين القنوات الإعلامية الذين يخوضون في قضايا الساعة وقضايا السياسة من غير بضاعة ثم تجد من يشجعهم ويهنئهم ويصفق لحماقاتهم وترهاتهم .

تعيش الجزائر منذ شهر أو يزيد حراكا شعبيا كبيرا رافقته بعض القنوات الإعلامية باستضافة جيش من المحللين السياسيين الذين تعرف من كلامهم وتنكر ، وتجد بينهم المتخصص المتمرس ولكن تجد في المقابل الذي لا يملك اختصاصا ولا تمرسا ويكون حضوره كغيابه لا يقدم ولا يؤخر .

أثارت مقترحات المؤسسة العسكرية بتفعيل المواد :102 و7 و8 من الدستور من أجل تكريس الحل الدستوري للوضع السياسي الذي لا نحسد عليه شهية بعض المتحدثين ممن يقدمون في القنوات الإعلامية التي تستضيفهم على أنهم محللون سياسيون ولكنك لا تجد عند أكثرهم للأسف الشديد فقها سياسيا بل إنهم يستوون في ذلك مع جمهور العوام والأميين.

لقد أصبت بصدمة وأنا أستمع إلى بعض من يسمون “محللين سياسيين” وهم يدورون في حلقة مفرغة وينقض أول كلامهم آخره ، وازدادت صدمتي وأنا أجد بعض الإعلاميين يفتون في قضايا الدستور ويرسمون عن غير دراية خارطة الطريق من أجل الخروج من الأزمة، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى فقهاء دستوريين يبينون لنا من نصوص الدستور وأحكامه ما جهلنا ، ويضعون لنا خارطة الطريق المجدية تفعيلا للمقترحات التي أعلنت عنها المؤسسة العسكرية تكريسا للحل الدستوري وتفعيلا للسلطة الشعبية التي تنص عليها المادتان السابعة والثامنة من الدستور.

إن الاختصاص أمر ضروري في كل الحالات، فكما أنه لا يجوز لعالم الدين أن يفتي في السياسة، ولا لعالم السياسة أن يفتي في الدين، فإنه لا يجوز أيضا لمن لا يعرف أصول التحليل السياسي أن ينصب نفسه أو ينصبه غيره محللا سياسيا لأن من تحدث في غير اختصاصه أتى بالعجائب.

لقد وجدت أن بعض المتخصصين في الإعلام قد طلقوا اختصاصهم وطفقوا يتحدثون في السياسة بل ويحللون الأحداث السياسية بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريقة العوام ، ويحضرني في ذلك إقحام أحد المتخصصين في الإعلام نفسه في قضايا تقنية فنية لا علم له بها ولا يجوز له أن يبدي رأيا بشأنها ولو كان من باب الاستئناس لأنها قضايا متروكة لأهلها، سمعت هذا الأستاذ المتخصص في الإعلام وهو يشرح لصحفي قناة “البلاد” أسباب حادث الطائرة العسكرية المأساوي الذي ذهب ضحيته خيرة أبنائنا وإخواننا من أفراد الجيش الوطني الشعبي ، أليس من الواجب أن يترك هذا الأستاذ هذه القضية للمتخصصين في مجال الصيانة والملاحة الجوية بدلا من أن يقول كلاما كيفما اتفق ويعطي فرضيات ويقدم تفسيرات لقضية تقنية لا يفقه قليلا ولا كثيرا من عناصرها.

أقول في النهاية إذا أردنا لقنواتنا الإعلامية أن تحقق قفزة نوعية في مجال الاحترافية الإعلامية فينبغي على القائمين عليها أن يفتحوا الفضاء الإعلامي للمحللين السياسيين الحقيقيين الذين يمتلكون كفاءة في هذا المجال وأن يبعدوا المحللين السياسيين المتطفلين الذين تستهويهم شهوة الكلام وغريزة حب الظهور.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!