-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مرحلة ما بعد كورونا ونظام الوقف

جمال غول
  • 2117
  • 2
مرحلة ما بعد كورونا ونظام الوقف

حينما غزا القوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع ميلادي تمّت إبادتها وسقط حكمها، ولم يبق من حضارتها شيء وانتهت بانتهاء حكامها رغم أنها كانت توصف بالعملاقة.

ولما غزا المغول بغداد في القرن الثالث عشر ميلادي أمعنوا فيها تقتيلا (04 طوابق من القتلى) وتحريقا وإفسادا ليس له نظير، حتى أن مياه دجلة صارت سوداء من حبر المكتبات التي ألقيت فيه، فكانت محاولة لإبادة بشرية ثقافية سياسية شاملة حتى وصف المستشرق إدوار براون ذلك الغزو بأنه أسوأ كارثة حلت بالجنس البشري كله، ولكنهم لم يستطيعوا إبادة الحضارة الإسلامية، بل إن المغول أنفسهم ذابوا فيها بعد أن أسلموا وأصبحوا من حُماتها وفاتحيها.

ما الذي يجعل غزو القوط لحضارة روما يُفنيها وغزو المغول لحضارة المسلمين رغم شراسته يُبقيها ولا يمنعها من أن تستكمل مسيرتها؟

تأمّل الغربُ في هذا الأمر وفهموا أنه من أهم الأسباب هي الأوقاف، فأخذوا الفكرة وطبّقوها في القرن السادس عشر ميلادي تحت مسمى  (Fondation)، ثم احتكُّوا بالمسلمين في الأندلس ثم في الدولة العثمانية ثم في الحروب الصليبية ففهموا جيدا فكرة الوقف وطوَّروها وعملوا على مأسستها، بينما تخلى المسلمون عنها واتجهوا إلى الدولة الحديثة بنظام مستورَد متهالك لينتقلوا إلى فكرة الدولة الشمولية التي تأخذ على عاتقها القطاع الخدماتي مستغنية عن القطاع الوقفي خاصة مع وفرة الموارد آنذاك وقلة تعداد السكان إلا أن ذلك لم يدم وبدأت الموارد تُظهر شُحّها والتعداد السكاني يعلن انفجاره ما جعل فكرة الدولة الشمولية تقل حماستها عند قيادي ومنظري هذه الفكرة.

في هذه الفترة التي أصاب القطاعَ الخيري الوقفي ركودٌ عند المسلمين، تطورت فكرته عند الغرب ليتم مأسسته كنظام قائم بذاته لأنهم وجدوا أنه يتميّز على القطاع العام الذي من خصائصه بطء اتخاذ القرارات والبيروقراطية والخلل في الأولويات وعلى القطاع الخاص الذي يتميز بكون همِّه هو الربح الذي يكون للأقلية على حساب الأغلبية التي ينظر لها كمستهلك وفقط، بينما وجدوا الإبداع في حضارة الإسلام من خلال الوقف الذي يخفف العبء على القطاع العام ويُغني عنه في مجال الخدمات الصحية والتعليمية والتكافلية وغيرها ويكفكف ويَحد من تغوّل القطاع الخاص ليُقيم التوازن بين القطاعين العام والخاص ويعمل على توطين الموارد والخدمات وتخفيف الضغوط الخارجية وينقص من نسبة البطالة ويُدِرُّ مداخيل معتبرة وله دورٌ محوري في تمويل العجز الموازني دون اللجوء إلى الإصدار النقدي الذي ما هو إلا استدانة من البنك المركزي.

لقد غطى قطاع الوقف الكليات الخمس التي جاء الإسلام لحفظها، فكانت أوقافٌ خاصة بالجوامع التي أنشأت لحفظ الدين، وأوقاف للجامعات والمدارس والمكتبات لحفظ العقل، وأوقاف للمستشفيات لحفظ النفس، وأوقاف لتعويض التجار الذين خسروا في تجاراتهم حفظا للمال، وأوقاف للعزاب وتزويجهم وأخرى لتزويج الفقيرات حفظا للنسل، فغطى بذلك احتياجات الأمة وتعدّاها إلى درجة الابتداع والابتكار في تلبية حاجات المجتمع المحلي ليكون رافعة اجتماعية بلا منازع.

لقد كانتٌ عندنا أوقاف للأواني الفخارية التي يحملها الأطفال فإن انكسرت أُخِذت للوقف وتمَّ تعويضهم بأخرى حتى لا يُضرب الأطفال، بل كانت عندنا أوقافٌ للطيور المكسورة وأخرى للكلاب الضالة..

وهذا كله خارج مجال الزكاة التي حدد الله تعالى مصارفها فكان الوقف مفتوحا لكل المجالات على حسب نية وشرط الواقف، ولمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب “من روائع حضارتنا” لمصطفى السباعي.

تقهقر الوقفُ عندنا بينما تطور عند الغرب، فتجد في أمريكا -حسب إحصائية 2009- أن الرعاية الصحية قائمة على النظام الوقفي الخيري من خلال ما يزيد عن مليون و600 ألف مؤسسة خيرية منها 6169 مستشفى.

وتجد أن كبار الأغنياء في أمريكا عندما يموتون تصبح شركاتهم وقفية خيرية مثل شركة مايكروسفت لصاحبها بيل قايست وكذلك شركة فورد للسيارات الشهيرة.

ونفس الأمر بالنسبة للجامعات الكبرى فهي أيضا وقفية ومنها جامعة أنديانا وجورج هونكس وبوسطن.

وفي بريطانيا نجد أن جامعة كامبريدج الشهيرة أيضا وقفية.

وكذلك في روسيا أصبحت معظم جامعاتها وقفية.

وأما في ماليزيا فحدِّث ولا حرج عن تجربة رائدة في مجال الوقف وما الجامعة العالمية الإسلامية الماليزية إلا خير دليل.

وكانت الدولة العثمانية تُعرف بالدولة الوقفية لاعتمادها عليه منذ التأسيس إلى أن أسِّست له مؤسسات عن طريق المحكمة إذ تمتلك نحو 15مليون وثيقة وقفية ونحو 5000 مؤسسة وقفية، وكل عام يُحتفل بتأسيس الأوقاف تحفيزا لإقبال الناس عليه.

وها نحن بحاجة مُلحّة للقطاع الوقفي في بلادنا باعتباره ضرورة إنسانية لتمويل الخدمات الصحية للتصدي لهذا الوباء (كوفيد 19) لِما يتطلب من منشآت وأجهزة وآليات إضافية واستثنائية تستوعب الحالات الموبوءة الكثيرة إن زاد انتشاره لا قدر الله، ولأنه إذا كانت الزكاة آلية قصيرة المدى للرعاية الصحية، فإن الوقف هو الآلية المتوسطة والطويلة المدى لهذه الرعاية، وقد أثبتت التجربة التاريخية عبر القرون الدور الكبير لمؤسسة الوقف ودورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والصحية للمجتمع؛ إذ تجسد هذا الدور في الجانب التمويلي المستمر لاقتصاديات المجتمع عن طريق وقف الأراضي الزراعية والعقارات وأدوات الإنتاج فضلا عن السفن التجارية، وفي الجانب التنموي من خلال بناء مساكن للضعفاء ومساعدة المحتاجين وتزويج الشباب ورعاية المعوقين وبناء المساجد والمدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والمراكز الصحية…

فهل نملك اليوم في ظل غياب النظام الوقفي الآليات التي تمكِّن المتبرعين من التبرع بجهاز تنفس اصطناعي أو جهاز سكانير لمستشفى؟ أم ستقتل البيروقراطية مثل هذه المبادرات؟

وهل يملك المتبرِّع الثقة اللازمة التي تجعله يتبرع لمؤسسات رسمية؟

لماذا لا يُستثمَر البذل والإنفاق المتجذر في نفوس الجزائريين والجزائريات الذين كثيرا ما يُدهشون العالم بسخائهم وإيثارهم وتراحمهم خاصة في زمن المحن الكبرى؟ ولماذا لا ننقل هذا السخاء من الموسمية إلى الديمومة ومن الفوضى إلى النظام عن طريق إرساء البعد المؤسساتي للوقف؟

إنه لا مناص لنا من تنظيم الوقف ومأسسته مستقبلا بعد أن يرفع الله تعالى هذا الوباء ولا خلاص لنا من فقدان التوازن بين القطاع العام والخاص إلا ببعث مؤسسة الوقف التي تسمح بتلاقي جهود المجتمع والدولة وفق قاعدة المنفعة للجميع، فيكون الوقف هو شريان الحياة الحيوي الذي يسمح بتحسين جودة الحياة من خلال حضوره الاجتماعي على النحو الآتي :

أولا: حماية حقيقية للمنشآت الوقفية الموجودة بعد إحصائها وترميم ما يحتاج منها إلى ترميم وتصحيح وِجهات ما غُيّرت منها من حيث الوجهة لتُولَّ وِجهة شرط الواقف.

ثانيا: منظومة قانونية وقفية عصرية بمتطلبات حديثة مكمِّلة لقانون الوقف الصادر في 1991 و1992 و1997، إذ يمكن الرجوع إلى القانون الاسترشادي للوقف الصادر عن مؤتمر وزراء الأوقاف للدول الإسلامية.

ثالثا: إدراج الوقف في خطة البنك المركزي وتأسيس الشراكة بين الوقف والبنوك.

رابعا: إلحاق الوزارات الخدمية غير السيادية كالتعليم والتعليم العالي والصحة بقطاع الأوقاف من حيث التمويل والإنفاق.

خامسا: اعتبار شرط الواقف في وقفه كنص الشارع في حكمه.

سادسا: استقلالية مؤسسة الوقف عن أي إدارة وإلحاقها بالقضاء العالي للرقابة والحماية القانونية لا للتسيير الإداري.

سابعا: تسهيل إجراءات تخصيص الوقف على المواطنين لترغيبهم في وقف ممتلكاتهم عقارية كانت أم منقولة .

ثامنا: تشجيع رجال الأعمال وأصحاب الشركات لدعم مؤسسة الوقف بمنحهم امتيازات وإعفاءات ضريبية على سبيل المثال .

تاسعا: الاستفادة من التجربة الماليزية في مجال استثمار الوقف والتجارب الناجحة في دول أخرى .

عاشرا: إنشاء معهد عالي للوقف أو مركز أبحاث الوقف والدراسات الاقتصادية كما هو معمول به في بعض الدول.

فهل سنشاهد تلك المدارس والجامعات العملاقة وكذلك المكتبات والمستشفيات الكبرى التي تقوم على أموال الوقف وتُموّل من الأراضي والعقارات والحوانيت التي أوقفها المتبرعون على هذه المؤسسات؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • د.عبدالرحمن علي الجيلاني

    عندماحكم العرب الجاهلون الطمعون انقدولسيادهم من اليهود والنصارى واصبحوا وكلاء لهم ،ينفذون كل مايملاء عليهم في سبيل ضمان سلطتهم وحمايتهم لقد اضعواكل ماينفعهم ويفيد البلاد والعباد ومن الركائز المهمه المضيعه الوقف الذي استفاذت منه الدول الاوربيه بشكل كبير ونحن اصبحنا نقلدهم بما يهدم حياتنا ويقرق بيننا ويجرنا الى الصرعات بمسميات لااصل لها في ديننا وثقفتنا كاالارهاب والتطرف والدمقراطيه والمجتمع المدني وماشابه ذلك . اللهم الطف بامتك وابعد عنهم اشرارها

  • محمد الجزائري

    شكرا لصاحب المقال على مقاله؛ والله إنك انتبهت لثغرة عظيمة من ثغور الإسلام غفل عنها المسلمون منذ مدة لاسيما في ظل دولة الاستقلال مع الأسف الشديد؛ لقد انبهرنا بالغرب انبهاراً أعمى وهرولنا نحو إنشاء مؤسسات تهدف لتحقيق ما كان يسمى أنذاك "دولة الرفاه أو دولة الرعاية الاجتماعية (l’Etat Providence)"، ليتضح فيما بعد أنّ أغلب تلك المؤسسات لم تصمد مع الوقت وبقيت هياكل بدون روح تُلخّص في أبشع شكل صورة البيروقراطية بشقها السلبي، لأنها حَجَرَتْ على المبادرة و عطّلت طاقة المجتمع ونزعته الفطرية إلى العمل الخيري الذي كان المسلمون سباقين إليه، وحري بنا اليوم أن نفجر هذه الطاقة الإيجابية في المجتمع من جديد.