-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من الثورة إلى الدولة

ناصر حمدادوش
  • 687
  • 3
من الثورة إلى الدولة
ح.م

من السُّنن الممتدّة في الزّمان والمكان: حتمية التغيير، والتي تُعدُّ حتمية تاريخية في مسيرة الاجتماع البشري، وهي حاجةٌ فطرية للإنسان مرتبطةٌ بطموحه وأشواقه في الحياة. وقد ورد “مشروع التغيير” في عالم الأفكار والقيم والسّلوك في قوله تعالى: “ذلك بأنّ الله لم يكُ مغيّرًا نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم.” (الأنفال: 53)، وهو ما يعني أنه مشروعٌ مرتبطٌ بالإنسان: بإرادته في نفسه وبفعله في الكون وبفاعليته في الحياة، ليؤكّد على سُنّةٍ إلهيةٍ اجتماعيةٍ مطّردةٍ وثابتة، وأنّ إرادة الله تعالى في هذا التغيير -كحقٍّ إلهي في عالم النتائج- متناغمةٌ مع إرادةِ الإنسان في واقعه كواجبٍ بشري في عالم الأسباب، لأنّ الواجب مقدَّمٌ على الحق، وأنّ مسألة التغيير وظيفةٌ حضارية وواجبٌ ممتدٌّ من أجل تطويع التاريخ لمبدأ الأسباب التي نتعبّد بها لله تعالى.

هذه الحتمية في التغيير ليست مجرّد قانون نسلّم به، بل هي تكليفٌ شرعيٌّ يجب القيام به، كما جاء في الحديث الشّريف: “ما مِن قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي، يقْدِرون أن يغيِّروا فلا يغيِّرون، إلاَّ أصابَهم الله بعقاب”، أي أنّ القدرة على التغيير تستدعي وجوبَه الشّرعي، وأنّ التكاسل عنه يستوجب الإثم والعقوبة عليه، وهو ما يعني تفجير الوعي بواجباتنا في عالم الشهادة في الدنيا بعيدًا عن التخذير بالهروب إلى عالم الغيب في الآخرة، وتذكيرنا بمسؤولياتنا في التعاطي مع الواقع بعيدًا عن الاختباء وراء الماضي، وبالتفاعل الإيجابي مع منسوب الصّلاح أو الفساد في المجتمع بعيدًا عن الخلاص الفردي، لأنّ المسؤولية في التغيير مسؤوليةٌ جماعيةٌ في الدّنيا، أمّا الحساب والجزاء عنه فيكون فرديًّا في الآخرة. ومهما تكن الأسباب الجوهرية للثورات الشّعبية وتجلّياتها الواقعية، كانفجارٍ اجتماعي بخلفياتٍ اقتصادية ومعيشية، أو ثأرٍ لكرامةٍ إنسانيةٍ مجروحة، أو ثمرةٍ لنضجٍ سياسيٍّ وتوسّعٍ في وعي الشعوب، أو استمرارٍ لمعركة التحرير من الاستعمار السّياسي الذي ورِث الاستعمارَ العسكري، أو نتيجةٍ حتمية لتأثيرات الإعلام الجديد على السّياسة، فإنّ هذه الثورات هي تدفّقٌ طبيعيٌّ لحركة التاريخ وحتميةٌ منسجمةٌ مع سُنَّة التغيير في الحياة، مهما كانت خلفياتها الدينية أو خصوصياتها الثقافية. إنّ جوهر هذه الثورات الشّعبية أنّها طموحُ الإرادة في الحرّية وليست مجردَ تحسينٍ لشروط العبودية، وأنها إثباتٌ لذات الشعوب وتحمّلٌ لمسؤولياتها وتقريرٌ لمصيرها بذاتها، وليست مجرد حَراكٍ عاطفي أو عمليةٍ انتخابيةٍ شكلية. ذلك أنّ الثورات الشّعبية التي انتفضت ضدّ الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة والفاشلة لم تختزل تلك الثورات في مجردِ البُعد الإجرائي والتقني للدّيمقراطية وهو الانتخابات، بل أعطت لعملية التغيير الحقيقي فرصته في الزّمان لكي تستوعب كلّ أبعاد التحوّل الديمقراطي، وذلك بالانتباه إلى جوهر الثورة الشّعبية وهو استعادة الأمّة للدولة المختطَفة من طرف السّلطة غير الشرعية، من أجل البناء الديمقراطي المتكامِل لتحقيق التنمية والنّهضة والحضارة. وهو ما يعني أنّ الثورة الشّعبية ليست مجردَ ثورةٍ انتخابية، وأنّ الدّيمقراطية ليست مجرد انتخابات، وأنّ الانتخابات هي مجردُ ركنٍ واحدٍ من أركان العملية الدّيمقراطية، وأنّها آخِرُ ما يتوّج هذا المسار التغييري وليس العكس، وأنّ الحلَّ الثوريَّ يكمن في كيفية التطوير الكياني والمؤسّساتي والدستوري للدولة، والاتفاق على شكل حيازة السّلطة على الشّرعية الشّعبية فيها. إنّ الثورات الشّعبية لن تبلغ درجة الكمال في إنجازاتها وتحقيق أهدافها إلا بمقدار الانتقال الآمن من الفعل الثوري إلى بناء الدولة بكلّ مؤسّساتها المدنية والشرعية والمنتخَبة، وهو ما ينسجم مع الطبيعة الدستورية والقانونية للأمّة، وهي الأمّة التي تقوم على النّظام والشّرعية والشريعة. إنّ صناعة الثورة هي التي تنقل الشّعوب من مجردِ بشرٍ تجمعهم جغرافيا إلى أمّةٍ ذاتِ إرادة، ومجموعةٍ من المتحضّرين يربطهم عقدٌ سياسيٌّ واجتماعي، تساوُقًا مع مسار الشّهود الحضاري، الذي ينطلق من الفكرة الدّينية المثالية في أعماق الفرد، وانتقالها من الفرد إلى المجتمع، وانتقالها من المجتمع إلى الدولة، ومنها إلى صناعة النّهضة كمنتجٍ عالمي، ومنها إلى بناء الحضارة الإنسانية.

 إنّ نجاح الثورات الشعبية في الانتقال من الثورة إلى الدولة يرجع إلى الدقّة في تحديد طبيعة الصّراع والتدافع، وأنّ المنهج العقلاني في التغيير يتطلب واقعية التدافع بأن يكون صراعَ حدودٍ وليس صراع وجود؛ أي أنّ العملية التغييرية تلامس حدود الصلاحيات الدستورية والسياسية بين الحاكم والمحكوم، وليس صراع الوجود بإلغاء الآخر، ولو كان شريكًا في الوطن ومكوّنا أساسيًّا فيه. ولقد أثبتت نماذجُ الانتقال الديمقراطي الناجحة أنّ أهمّ مظهرٍ من مظاهر النجاح فيها هو التعايش والتوافق والحوار والشّراكة. هذه الثقافة التغييرية تنجسم مع المنهج النبوي في ثورته الإنسانية، إذ أنّه منهجٌ بنائيٌّ وليس إلغائيًّا، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: “إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق”، فهو يبني على ما هو موجودٍ ليتمّه، وليس إلغاءً له ليعدمه، كمنهج إخوة يوسف عليه السلام لمّا قالوا: “اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا، يخلُ لكم وجهُ أبيكم، وتكونوا من بعده قومًا صالحين.” (يوسف: 09). هذا المنهج النبوي يتناغم مع التأصيل القرآني في التغيير عن طريق الإصلاح السّلمي وليس عن طريق الانقلاب الجذري، أي إصلاح ما هو موجود والبناء عليه، وليس إلغاءَه، كقوله تعالى: “إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت..” (هود: 88). ليس من الحكمة أن تنجح الثورات الشعبية في الهدم ولا تنجح في البناء، وليس من العدل أن تنتقل الحتمية من حتمية ثورةٍ سّلمية إلى حتمية ثورةٍ عنيفة، وليس من التوفيق أن تفتقد الثورة لمشروعها السياسي والوطني ليسطوَ على ثمراتها عصابة الثورة المضادّة، فتُحِيلها إلى نسخةٍ منقّحةٍ من النظام الاستبدادي القديم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • نحن هنا

    ياهذا الدولة موجودة بإقليمها وشعبها ويبقىركن شرعية السلطة هو محور النزاع فالشعب يريد سلطة منبقة عنه يختارها بكل حرية وشفافية دون وصاية من أي جهة كانت لان الشعب هومصدر كل سلطة في الدولة حسب المنظور الديموقارطي الذي يتغنى به الجميع حكومة وشعبا لكن الآليات الموروثة عن العصابة غير موثوق بها لاجراء انتخابات تنبثق عنها سلطة ارادة الشعب وهو مربط الفرس

  • عروبتاه كونتري

    هذا مانقوله ولا زلنا نقوله .
    الانتخابات ليست هي حوهر الديمقراطية كما يعتقد الكثيرون ممن يستعصي عليهم البقاء والوجود في مناخ ديمقراطي لانهم بكل بساطة أعداء للدولة الديمقراطية والثيوقراطية ولا يهنأون بالعيش الأ نحت براثن الاستبداد ؟
    جيراننا في تونس لم يدهبوا مياشرة الي الانتخايات بعد ثورتهم بل سبقوها بمراحل البناء الحقيقي للقواعد التي نسير ونبني عليها الديمقراطية وكانت الانتخابات اخر مراحل هذا البيناء ثمرته وهاهم اليوم يجنون بفخر فاكهة رقي نخبهم وشعبهم من وراءهم
    اما نحن فدوما تستبق الاحداث ونلهث وراء الانتحابات لنرهن بها حظوظ بناء الدولة و نضمن بنسبة كبيرة عودة النظام السايق ؟

  • محمد☪Mohamed

    من الثورة إلى الدولة هذا حلم , أي إنتقال للديمقراطية تعطهنا كا مثال حاليا لايوجد لذلك روحث إخوة يوسف 3000 سنة !!!
    عنذنا مشكل شعب مريض مرض نفسي وعميق لا أعرف كيف نخرج من المشاكل القادمة .