-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من صور خطورة المرحلة!

التهامي مجوري
  • 1411
  • 7
من صور خطورة المرحلة!
ح.م

في النصف الأول من القرن العشرين كتب الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله عن “مجتمع القلة”، ويقصد بكلامه يومها النخب الجزائرية المهزومة التي ارتضت لنفسها أن تدعى بـ”الأهالي” ولا تحرك ساكنا؛ بل ولا تجد حرجا في ذلك، فتقول عن نفسها أنها من الأهالي ولا حرج ولا غرابة، متجاهلة القيمة الثقافية، الأخلاقية والسياسية لهذا المصطلح، الذي أرادت به فرنسا الاستعمارية إنشاء مجتمع ممسوخ، لا يشبه البشر إلا في صورته التي تسير على رجلين!!
واليوم يكتب الكاتب الفرنسي جاك أتالي على مستقبل العالم، الذي ربما لا يكون فيه مكانا للدول التقليدية، فضلا عن نخبها التي تريد أن تحافظ على خصوصياتها، بسبب التطورات التي يشهدها العالم، في عالمي الاتصال والعلاقات التجارية والإقتصادية المفتوحة.
حاولت فهم واقعنا الجزائري في هذا اليوم من أيام سنة 2018 بين الانكماش الذي حذر منه بن نبي قبل أكثر من نصف قرن، وهو واقعنا الذي لم نرتق به إلى مستوى الأحداث الإنسانية، وبين التطورات والأحداث التي يشهدها العالم اليوم، أو التي يبشر بها جاك أتالي وستقع في أفق عام 2050، فعجزت عن تحديد موقعنا من المسألة..، فالنخبة في بلادنا لا تشعر بأنها في مستوى “مجتمع القلة” الذي تكلم عنه بن نبي؛ بل العكس ترى أنها في المستوى من الغيرة والشهامة والحرص، فهي نخبة تعلق وتنتقد وتنبئ بالثورة والشوق إلى الإصلاح والتغيير، وتبشر وتحذر وتستشرف.. وسواء في ذلك التي في السلطة أو التي في المعارضة سواء بسواء، ومع ذلك كأنك “تسمع جعجعة ولا ترى طحينا”. وترى من العلماء والباحثين والإطارات الجامعية، من قرأ لجاك أتالي وغيره من الإستشرافيين، والدبلوماسية الجزائرية لها تجربتها الهامة.. ومع ذلك لا تزال نخبنا عاجزة عن إيجاد إطار وطني توافقي يحمي الجزائر وشعبها..، فلا مبادرات الشعب أفلحت، ولا تجارب السلطة أقنعت، ولا الخبراء فهموا شيئا!! بل العكس هو الموجود، وهو أن لا أحد يطيق أحدا، فلا السلطة تقبل بالتعاطي مع المعارضة الجادة، ولا المعارضة تفترض في السلطة صدقا تبني عليه مشروعا، أما الخبراء فلا هم في العير ولا في النفير، وإنما يمكن أن يستعين بهم الطرفان فيما يرقي كل منهما به رداءته التي هو عليها.
وإلى جانب هذا الواقع الذي لا يبشر بتغيير في الأفق رغم شعور الجميع بالحاجة إليه، لم أر ما يبشر بالخير وإنما لاحظت آليات أخرى لحقت بصيغ الإفلاس القديمة –التزوير، التحيز الإداري، الإستبداد، واستغلال النفوذ- للمزيد في تزيين الساحة السياسية بما يظهرها حسنة إمعانا في الرداءة والفساد والإساد، منها سلطة المال الفاسد في التأثير على القرار السياسي والإقتصادي، وأمور أخرى لا سلطة لنا عليها وهي من إنتاج القوى المستكبرة في العالم. يمكن إيجازها فيما يلي:
1. لم يعد بالإمكان التعويل على ثورات شعبية في الإصلاح والتغيير، بعد فشل تجربة الربيع العربي؛ لأن التحكم الأجنبي في الحراك المحلي والوطني أصبح واضحا، والشعور به على وجهه الحقيقي ومحاولة التخلص منه غير وارد، بسبب انتفاخ الذات والإدعاء بالتحرر وعدم التأثر بالآخر.
فعندما اندلعت الأحداث في سنة 2011 في تونس والقاهرة، رأيت من يبشر بالتغيير الذي آن أوانه ولا شيء غير التغيير، مبالغة في الأمل المنتظر منذ عشرات السنين، ورأيت من يشكك في ذلك باعتباره مؤامرة وفق مخطط تقسيم الدول العربية.. ولم أجد من اعتبر هذا الحراك مرحلة تاريخية، لا بد من استغلالها، مثل مبدأ تقرير المصير للشعوب المستعمرة في نهاية الحرب العالمية الثانية، الذي تحررت به باستغلاله شعوب كثيرة. فالذي اعتبر ساعة التغيير قد حانت صادق في جانب من الموضوع؛ لأنه بالفعل مرحلة تاريخية بلغ فيها يأس الشعوب من حكامها مبلغه، ولكن هذه المرحلة التاريخية لا تستجيب إلا لمن يتجاوب معها بحضور وحسن تقدير، وتسجيل الدور التاريخي المنتظر؛ لأن سقوط طاغية ليس بالضرورة انتصار شعب؛ لأن الانتصار يكون لمن يعد العدة، وليس للمستبشرين الحمقى والغافلين وأصحاب النوايا الحسنة وحسب..، ومن هنا كان دخول برنار ليفي على الخط، اغتناما لهذه الفرصة الثمينة التي حرمته منها الشعوب.. وظهوره على المسرح السياسي في ليبيا والقاهرة لا علاقة له بالتآمر المسبق الخاص بهذا الحراك، وإنما هو اغتنام فرصة تاريخية ثمينة، فهو رجل صحفي وسياسي ومناضل ومشتغل بالفكر ومهتم بالتحولات الثقافية والسياسية والإقتصادية في العالم، فركب الموجة ركوب الجادين الذين يحسنون الاستثمار واغتنام الفرص.. فقط لا غير.
فالنخب الآن ربما تستحي ذكر الربيع العربي كمرحلة تاريخية كان يمكن استغلالها في خدمة الشعوب، كما استغلت الحركات الوطنية التحولات الدولية في التحرر من ربقة الاستعمار…، بل إن كل من يتكلم في الموضوع يقال له أنظر إلى سوريا.. أنظر إلى ليبيا.. أنظر إلى اليمن.. أنظر إلى مصر.. و”هلك جريا”، وكأن هذه المناطق كانت جنة في الأرض فجاءها الناتو وقطر وليفي وفعلوا فيها ما فعلوا !!
والنتيجة بكل أسف في مثل هذا الموضوع، كانت لصالح الغرب الذي كان أقدر على الاستفادة من هذه الفرص والمراحل المتاحة للشعوب..، وليس الشعوب المعنية بالموضوع.
واليوم وغدا ما دمنا بهذا المستوى من السلبية والخنوع، يمكن لأي شعب أن يصل إلى المستوى الذي وصل إليه نظام بن علي في تونس فيهرب الرئيس وتبقى البلاد مفتوحة على كل الاحتمالات، ويبقى المرشح للإستفادة منها هو الغرب الذي يملك رؤية لسنة 2050، فلا تفاجئه الأحداث ولا النوائب.. أما نخبنا إما أنها تنظر إلى الفرص المتاحة على أنها فرصا غير قابلة للضياع؛ لأنها نتائج طبيعية لواقع غير طبيعي، تحقق المطلوب بغير جهد منا، أو أنها ترى كل تحول مؤامرة ومن ثم الرضى بالواقع أسلم الموجود وأنفع المحتمل المفقود.
2. الانتخابات لا يمكن أن تحل مشكلة من مشكلات عالمنا الموبوء، وذلك ليس لأن الانتخابات مزورة أو مغشوشة أو قاطعها الشعب، وإنما لأن العالم له رؤية للواقع، لا يسمح بنتائج انتخابية ما، في أي بلد أن تفسد عليه رؤيته، فإما أنها تقبل إذا كانت متناغمة مع، أو أنها تقبر إذا كانت في غير الاتجاه المطلوب..، ولهذه التوجهات دعائم من داخل أنظمتنا الفاسدة، والتجارب في بلادنا الإسلامية شاهد على ذلك، فتجربة الجزائر 1991/1992، وتجربة مصر التي يقبع رئيسها المنتخب إلى اليوم في السجن، وتونس التي تعد الأقل سوء في هذه التجارب، كلها شاهدة على أن العملية الانتخابية “كلام فارغ”.
فالغرب لا يمل على الكلام عن الديمقراطية، وربما يستنكر بعض الأفعال غير الديمقراطية في البلاد المتخلفة، ولكنه أول من يرفضها إذا ما كانت هذه الديمقراطية تهدد مبادئه وغاياته.
3. الانقلابات العسكرية وتدخل الجيش في القضايا المدنية لم يعد ممكنا، وهذا مكسب سياسي اجتماعي إنساني هام، ولكن الجيش لا يزال هو الذي يحسم في القضايا والتحولات الكبرى، لا سيما عندما تعجز النخب السياسية عن احتواء أزماتها، ولكن المؤسف أن المؤسسة العسكرية، لا يسمح لها بأن تتصرف بما يخدم مجتمعها، وإنما تُشجع على حفظ مصالح العالم أكثر من تشجيعها على حفظ المجتمع ومؤسساته. وكما أسلفت فإن تحييد المؤسسة العسكرية في المسألة السياسية مكسب، ولكن عندما تتأزم الأوضاع لا أظن عاقلا يرفض تدخل الجيش، كما تدخل الجيش السوداني بقيادة سوار الذهب لإنقاذ بلاده، ثم سلم مباشرة العملية إلى المدنيين، وأصبح انقلاب سوار الذهب مثالا يذكر في كل مناسبة يذكر فيها دور الجيش في المجتمعات وعلاقته بالسياسة.
هذه النقاط الثلاث توحي بمأزق يصعب الخروج منه، إن لم نرتق إلى مستوى الدور التاريخي الذي يجب على النخبة أن تقوم به، ومشكلة لا يمكن أن يتحقق تغيير وإصلاح ببقائها كحتميات، ومن ثم علينا أن نفكر في تجاوز هذا الواقع الذي لا نراه قدرا حتميا لا تزحزحه إرادات الشعوب وقدراتها، وإنما هو واقع قابل للتغيير والتحوير ككل نشاط بشري.
فلا التسرع الذي يسيل لعاب أصحابه أمام كل فرصة تغيير من غير تحسب لمستلزماته، قدرا لا يمكن تجاوزه، ولا النَّفَس التآمري الذي ألغى قدر الله وطاقات الأمة الكامنة من العملية قانونا يفرض نفسه علينا كما يفرض الموت على آحادنا، ولا تقريرات جاك أتالي وتنبؤاته حتميات لا يمكن تجاوزها.
وإنما كل ذلك يمكن تجاوزه.. فكل اجتهاد وجهد ونشاط إنساني، يمكن تغييره والتأثير فيه، باجتهاد وجهد ونشاط إنساني مماثل له، أو أفضل منه.. فلا الأقدار خادمة للغرب.. ولا المآسي ضرورة لغيره من شعوب العالم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
7
  • شخص

    هذه الصورة تعبّر عن أحلام 99 % من الشعب الجزائري، أمّا الواقع فمازال بعيداً جداً، على الأقل حتى يموت آخر من يدّعي أنه جاهد !

  • واحد برك

    الى اخي صالح بوقدير. اولا مر نصف قرن عن استقلال الجزائر ولكن ياترى هل طبقت فيه التصفية والتربية على سنة خير البرية؟ الجواب طبعا لا. ثم لا يعتد بطول المدة فمادام ان الصحابة ومعلمهم عليه السلام احتاجو مايزيد عن 13 سنة فنحن بحاجة الى اطول من ذلك بكثير. ثم افتراضك لكون ان هناك خللا في الاتباع فهل لك بالتفصيل والبينة عسى ان نتدارك الخلل؟ اما كون ان هنالك تعصب للمشيخة فهذا موجود حقا ومرفوض كون الاتباع يكون محصورا للنبي عليه السلام ولمن يتبعه فقط لكن طبعا بالدليل والحجة. هداني الله واياك

  • صالح بوقدير

    إلى رقم2كلام جميل لكن قدمرماينيف عن نصف قرن من الزمن عن استقلال الجزائر وهي تراوح مكانهافهل تحتاج التربية والتصفية إلى قرون لتأتي أكلها؟ أم أن خللا ماحدث في الاتباع حال دون تحقيق الهدف المنشود يجب تداركه وإعلان حالة الطوارئ على القصور الفكري والتعصب الاعمى للمشيخة التي لم تعرف ليلها من نهارها ونصبت نفسها وصية على الاسلام؟

  • من المغرب السلام عليكم

    مجددا اقرا تقييم عن الاحدات التي شهدتها المنطقة فيه تقزيم للامور ..بضع سنوات..
    نحن ننظر الى النتاءج الانية ولكن لا نرى التغيرات الجدرية التي حلت..
    الحريات الفردية وعدم امكانيات الرجوع الى الوراء..
    المطالبات بالمحاسبة ونسب الوعي المعتبرة في النقاش والتحليل..ولو لم تكن متمرة بعد..
    تغير النخب وظهور فرص يمكن استغلالها مع الوقت..
    من جانب اخر ولو سلبي كثرة المشاكل والزامية ايجاد الحل والا ظهور العجز..
    اما من ناحية الخارج فالامر طبيعي ان كل واحد يبحت له على فرصة ان استطاع اليها سبيلا.. ولكنها مسؤولية من هم في الداخل لقيادة السفينة وتحديد الركاب ..واخيرا يذهب الجميع ويبقى الشعب.

  • الطيب

    مرحلة " و لا أحد يقنع الآخر ! "
    خطورة المرحلة : الجسد يخبط خبط عشواء يا أستاذ التهامي بغير عقل و يبقى يتخبط ....العقل معتقل !

  • واحد برك

    باختصار شديد واخيرا تبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود هه لا الثورات ولا النتخابات ولا الديمقراطية تفيد ولا يمكنها تحقيق التغيير. وتلك الايام نداولها لين الناس.... فاعتبروا يا اولي الالباب. احسن طريقة للتغيير والاصلاح هي طريقة نبينا عليه الصلاة والسلام ... اعتنى بالفرد (الصحارة) ورباه على تقوى الله مدة مايزيد على 13 سنة وهم خير الخلق بعد الانبياء والرسل ومعلمهم خير الأنام واحتاجو هذه المدة الطويلة ثم اعدو العدة وبنو الدولة وانطلقو فاتحين محررين لا يبتغون سلطة ولا ملكا انما كانت الدنيا في ايديهم لا في قلوبهم. والله المستعان

  • صالح بوقدير

    نظرية المآمرة تختفي وراء ها الانظمة الفاسدة المتسلطة وهي من اختراعهاوتوظف فيها بعض ممن هم محسوبون على النخبة وهم في الحقيقة مرتزقة همهم جمع الاموال واقتناص المناصب وقضاء مآربهم الضيقة أما من يؤمنون بالتغيير فقد داهمهم السيل على حين غفلة فارتطموا بالفوضى ولم تمهلهم لرص صفوفهم فغرتهم أنفسهم وانخدعوا بالأمواج الثائرة فثملوا نشوى ولم يشعرواإلا وهم مكبلين وللحديث بقية