-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مواجهة العدوى مقدِّمةٌ على صناعة الفتوى

محمد بوالروايح
  • 1063
  • 10
مواجهة العدوى مقدِّمةٌ على صناعة الفتوى
رويترز
باحثة في شركة RNA للأدوية خلال عمليات البحث للتوصل إلى لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد في مختبر في سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأمريكية يوم 17 مارس 2020

يواجه العالم أجمع جائحة فتاكة عصيّة على العلاج إلى حد الآن وهي جائحة كورونا التي امتدت عدواها إلى أكثر دول العالم، برّها وفاجرها، وهذه الجائحة تصنف فقهيا على أنها نازلة، والنازلة في الفقه الإسلامي لها بحكم طبيعتها الخاصة أحكامٌ خاصة، ومن ذلك أن يُفتى فيها على عجل ولكنه عجل لا يغفر الزلل ولا يسمح بالشطط الذي ينتج منه نازلة أخرى أشد فتكا، تبدد الجهود وتؤخر القضاء عليها في زمن محدود.

وقعت جائحة كورونا ووقع كل العالم في حيص بيص، اشتركنا نحن المسلمين مع العالم في النازلة ولكننا اختلفنا عنه في التعامل معها، فأمّة “فإذا عزمت فتوكل على الله” و”أعقلها وتوكل” لم تُحسن العزم ولم تُحسن التوكل واجتهدت في التكييف الفقهي وتخلفت عن ركب الباحثين عن لقاح للتخلص من جائحة كورونا التي تحوّلت إلى كابوس حقيقي يهدد حياة الإنسان.

من السُّنة أن نرفع أكفنا إلى السماء ونتضرع إلى الله بالدعاء ليرفع عنا هذا البلاء، ومن السُّنة أن نُكثر من القنوت والصلوات في البيوت، ولكن من السُّنة أيضا أن نقدِّم الأسباب ونساهم في الجهود العالمية للقضاء على هذه الجائحة ولا ننتظر زوال الداء ونحن لا نحرّك ساكنا فيكون حالنا كحال الذي تحدث عنه القرآن الكريم: “كباسط يديه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه”.

لسنا أفضل عند الله من مريم الصدِّيقة التي كان يطعمها ويسقيها في محرابها ولكنه مع ذلك خاطبها قائلا: “وهُزِّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقرِّي عينا”، ولسنا أفضل من ذي القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سببا ومع ذلك قال عنه: “إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا”، ولسنا أفضل من سيد الخلق الذي عصمه الله بعصمته فقال “والله يعصمك من الناس” ومع ذلك خاطبه وجمع المسلمين بقوله: “ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة”.

أفتى أحدُهم بجواز القنوت في الصلاة لصرف جائحة كورونا وأفتى بكونها نازلة من النوازل ونحن نتفق معه في ذلك، ولكن يجب علينا أن نشفع سُنة القنوت بسُنة النظر في الملكوت وإعمال العقل جنبا إلى جنب مع إعمال النقل وألا نبقى على الهامش، يتنافس غيرُنا في ميدان العلوم ونتنافس نحن في حكاية دم البعوض. أصدر أحد الأزهريين هذه الفتوى: “إنه يجوز شرعا القنوت في الصلاة لصرف مرض كورونا لكونه نازلة من النوازل، ومصيبة من المصائب حلت بكثير من بلدان العالم سواء كان القنوت لرفعه أو دفعه، من عموم المسلمين الموبوئين وغيرهم”. هذا في جانب صناعة الفتوى فماذا عن مواجهة العدوى؟ ماذا عن  العقول الإسلامية التي لا تزال تقدِّس الجهل وتنشر الأضاليل والأباطيل في العالم الإسلامي طولا وعرضا؟ وأين من المفتين من يحيي في الأمة تاريخا طبيا كنا رواده؟ متى ننهض من كبوتنا ونثوب إلى رشدنا ونعود إلى المعين الصافي لشريعتنا فنفعّل النقل ونحفّز العقل ونبعث أمجاد ابن الهيثم والرازي وابن سينا؟.

في عز انتشار جائحة كورونا، آوينا نحن المسلمين إلى ديننا الذي هو عصمة أمرنا وإلى سُنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وواظبنا على قراءة القرآن والأدعية النبوية والأذكار، فتذوقنا حلاوة الإيمان وربما بكى بعضُنا حتى ابتلت لحيته، وواظبنا على قراءة الحديث النبوي الشريف: “اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيِّء الأسقام”. كل هذا مطلوبٌ ومرغوب وخاصة عند نزول النوازل، ولكن هل فكر المستعيذون من البرص والجنون والجذام وسيِّء الأسقام في إكمال مسيرة الأطباء المسلمين الذين يُحتفى بهم في الغرب ويهال على ذكراهم الثرى في العالم العربي والإسلامي؟ أليس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي استعاذ من البرص والجنون والجذام وسيء الأسقام هو الذي أوصى أمته بالتداوي، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما خلق الله من داء إلا وجعل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام والسام الموت”. وقال الإمام الشافعي: “صنعتان لا غنى للناس عنهما: العلماء لأديانهم والأطباء لأبدانهم”؟ وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “علمه من علمه وجهله من جهله” حث على الاجتهاد في مجال الطب فأجر الطبيب المؤمن المحتسب في إنقاذ النفوس كأجر من أحيا نفسا ومن “أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.

قرأت لبعضهم أن فيروس كورونا هو انتقامٌ إلهي من الصين التي أمعنت في تعذيب أقلية “الإيغور” ومن البوذيين الذين فتنوا الهنود المسلمين، فقلت إن الله سبحانه لا يستأذن أحدا منا في صبِّ سوط عذابه على الظالمين فقد يعجِّل لهم ذلك إذا شاء وقد يؤخِّره إذا شاء لا ينازعه في مشيئته أحد “و لا تحسبنَّ الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخِّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتدُّ إليهم طرفُهم وأفئدتهم هواء”. أرسل الله على المكذبين القمل والضفادع والدم، وهو قادرٌ على أن يعذب من شاء بما شاء كيفما يشاء ومتى شاء، أما المرض فإنه يجري على سائر الخلق مؤمنهم وكافرهم وهذا خليل الرحمن يقول: “وإذا مرضت فهو يشفين”، وهذا أيُّوب عليه السلام ينال منه المرض نيلا عظيما فيتضرع إلى الله سبحانه وتعالى: “وأيوب إذ نادى ربَّه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين”، وهذا  سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم يوعك من مرضه وعكا شديدا كما جاء في قول ابن مسعود رضي الله عنه: “دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا، قال: أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم”.

أتمنى أن نجتهد نحن المسلمين في مواجهة العدوى كما اجتهدنا في صناعة الفتوى؛ فمحاربة العدوى واجبٌ مؤكد لا يُستثنى ولا يُعفى منه أحدٌ ولو بأقل الجهد، وأما صناعة الفتوى فواجبٌ كفائي إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وهي واجبة على العالم دون الجاهل وعلى الفقيه دون غيره، قال الله تعالى: “وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”، وقال تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • البروفيسور عبد الرحمن قحموص

    أنا أستاذ جامعي متقاعد مختص في علوم التكنولوجيا أقرأ لك وللأساتذة الآخرين منذ مدة طويلة وجدت نفسي مدفوعا لأبلغك رايي هذا كون مقالك غير متزن تماما ..فإنك تحمل مجموعة صغيرة جدا وهي مجموعة الإفتاء مسؤولية عدم المشاركة في البحث عن دواء لفيروس كرونة . وهذا ظلم كبير في حقهم كونهم لا علاقة لهم بهذا الميدان كما هو حالك ولو كانوا ملايين.
    فكان عليك أن توجه لومك هذا إلى مجموعة أخرى تماما من البيولوجيين والأطباء الباحثين في عالم الفيروسات وأمثالهم في العالم الإسلامي. وحتى إن فعلت هذا فأجدك مخطئا لأسباب متعددة : -- المساهمة الفعالة لعلماء المسلمين في كل الإختصاصات في كل العالم الغربي -تابع بعده ...

  • بلادي

    فيروس كورونا يساعد الدجالين والمشعوذين وأشباه المثقفين على تجهيل ضعفاء النفوس الذين يفكرون بأقدامهم بدلا من عقولهم

  • جلال

    تجارة الفتوى هذه يجب أن يوضع لها حد بقوة القانون لأن من ورائها كهنوت يقوم عليها وإذا كان لابد منها فيجب أن تنحصر في الأمور المتعلقة بالدين كالشعائر ا (السهو في الصلاة مثلا ,الزكاة,لمن لا يعرف ذلك)والمعاملات كالكذب والنميمة والغش وعقوق الوالدين والحنث باليمين وأكل أموال الناس بالباطل ونقص المواصفات وغيرها وهي من الدين بالضرورة أما أمور الدنيا فهناك من هو أدرى بها .إن نظرية المؤامرة “الربانية” التي ترجع سبب الوباء مثلا إلى عقاب رباني بسبب انتشار المعاصي هراء وكذب وبهتان على الله سبحانه (وما قدروا الله حق قدره)وهو القائل (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة)

  • جمال الجزائري

    يوجد ظاهره و كأنها مبرمجه على مواقع التواصل مثل الفيسبوك و اليوتيوب تتمثل في تفسير كل حادث و كل ظاهره او نظريه علميه تفسيرا دينيا ...هذه الظاهره اشبه ما تكون بفترة سيطرة الكنيسه على العقول في القرون الوسطى..اذا لم توجه البوصله الى التفسير و التدبير العلمي بعيدا عن غوغائيات بعض الدعاة و المشائخ سيضيع هذا الشباب فكريا الا القليل ..

  • عميروش جابو

    مقال في المستو ى من حيت التدليل والتوضيح زادك الله علما وفهما

  • بن مداني عبد الحكيم

    سيدي صناعة الفتوى أمر واجب ولكن المشكلة فيمن يتصدرون للفتوي في زمن انفصل الفكر عن الفقه بين العلماء والفقهاء والقائمين على الخطاب المسجدي عارقون في الروتين والنمطية بعيدون عن واقع الناس والطواهر الاجتماعية اسقالت الخطب عن المجتمع خطب أسيرة ماضي فلا تجديد وكأن الثبات سنة الحياة وع اهمال في ترتيب الأولويات وفقه الوازنة وكثرة التغني بالماضي والأسراف فيه وأصبح من يظن ان التاريخ دين لا ينقد واسلوب الوعظ الطي طغى وأصبح العقل لا يخاطب لا بد من نقد الذات للأنطلاق

  • بن مداني عبد الحكيم

    الخطاب المسجدي اليوم اقصد المنتسبين اليه والمحسوبون عليه غارق في الروتين والنمطية والجمود لا تجديد لا مسايرة الواقع وبعد الخطب عن الظواهر الاجتماعية الخطاب بعيد عن الشباب ومشكلاته والاعتماد على الوعظ وعجم مخاطبة العقل اسير الماضي ويهمل حتى ترتيب الاولويات واصبح التاريخ عند بعض الخطباء دين لا ينقد وعمت البلوى وتكاثرت الضباء على خراش ولم يدر خراشي ما يصيد

  • محمد

    يا اخي ما تطرحه يعد نوع من الخيال ، فالتكفير والرمي بالإلحاد تهمة مارسها بعض “فقهاء” المسلمين منذ ظهور الإسلام… كل من حكم عقله وقدمه عن النقل، قالوا إنه كافر… كل من رفض التخلف والجهل وخالف رأي الحكام والسائد من الفكر، قالوا إنه كافر… وليتهم اكتفوا، بل الأدهى من ذلك أنهم استباحوا دماءهم!
    نذكر : ابن سينا، الفارابي، ابن الهيثم ، ابن رشد، الكندي ، الرازي، ابن حيان و غيرهم من علماء المسلمين الذين عانوا ويلات فتاوى من يتقدم المشهد الديني اليوم.

  • محمد

    بانتشار هذا الوباء عبر العالم كله زدت ايمانا بأن الله قادر على تنبيه الخلق المؤمن والعاصي على قصور علمهم وضعف إمكانياتهم حتى المادية منها وأن طغيانهم محدود أمام إرادته العليا.لذلك يجب على الجميع في نفس الوقت الذي نحس بضعفنا أمام الأقدار أن نوجه جهدنا للاطلاع عما خفي عنا من جهل حتى لحماية صحتنا من أتفه المخلوقات.فالبحث العلمي والنفوذ من أقطار السماوات والأرض باستعمال كل الوسائل المادية لا يجب أن يمنع العاقل من التذكر بأن الله قادر أن ينزل آية تدفعنا إلى الإيمان به والاعتماد عليه حين تغيب عنا الوسائل البشرية أو لما تستتر عنا الحلول والمبتكرات الإنسانية.الإيمان بالخالق لا ينفي الاجتهاد المعرفي.

  • يوسف الجزائري

    للأسف ! هذا المقال فيه إسفاف بالمتدينين وأهل الفتوى وتحقير لهم واستخفاف بعقولهم، فإن هؤلاء الذين يدعون إلى التوبة والرجوع إلى الله لم ينهوا الأمة عن استعمال الدواء والمسابقة إلى اختراع العلاج، إنما فعلوا ما بوسعهم، فكيف يكلفهم الكاتب بشيء لا يحسنونه وليس من شأنهم، فهل يقبل هذا الكاتب أن يوجه إليه اللوم كونه لم يسع في صنع الدواء ولم يقم بإرشاد الناس إلى ما يعالجون به؟! كيف وهو يرى دول العالم عاجزة أمام هذا الوباء لم يغن عنها علمها شيئا !
    فأهل الفتوى والفقه أمروا بالتزام توجيهات الجهات الوصية الموكول إليها هذا الشأن، فهي أعلم، والمسلمون يكمل بعضهم بعضا، كل قائم على ثغر من الثغور. أما أن تكلف ا