-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مِصْـر : هل مَضَى عهد مصطفى؟!

مِصْـر : هل مَضَى عهد مصطفى؟!
ح.م

لا أحد ينكر أن مصر تُعتبر من أبرز البلاد العربية في الماضي البعيد والقريب. وفي عصرنا الحديث، إذا غضضنا الطرف عن معضلة الشرق الأوسط وعن دور كل ناشط فيها فإن ما كان يشدّ انتباه المواطن العربي خلال القرن الماضي، سيما خلال نصفه الثاني، هم رجال ونساء ذاع صيتهم في الأدب والدين والفن، أمثال طه حسين والشعراوي وأم كلثوم. ومن المؤسف أن يتجاهل القوم ما تفرّدت به مصر في محاولات النهضة العلمية التي سبقت تلك الحقبة.

جيل صالح مجدي

في مطلع القرن التاسع عشر عرفت مصر بداية نهضة علمية حقيقية عندما تبنّت ابتعاث ألمع أبنائها للدراسة في الخارج. وهكذا انطلقت هذه البعثات عام 1813 فاتجه الطلاب نحو إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والنمسا إذ بلغ عددهم حتى عام 1847 نحو 320 طالبا. وقد أدى هذا النشاط إلى انطلاق عملية ترجمة لعديد الكتب العلمية. وكان أحد رواد هذه الحركة رفاعة الطهطاوي (18011873).

كان الطهطاوي يرمي إلى تكوين نخبة من المثقفين القادرين على ربط الصلة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية عبر تعريب أمهات الكتب الأجنبية في بداية المشوار. وفي هذا السياق افتتح الطهطاوي مؤسسة بالقاهرة سنة 1835 تُعنَى بإعداد المترجمين، سمّيت “مدرسة الألسن”. وكانت تدرّس الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والتركية والفارسية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والشريعة، فتخرجت منها أول دفعة سنة 1839.

وممن انتسبوا إلى هذه المدرسة صالح مجدي (1827-1881) الذي ترك بصماته في مجال ترجمة كتب الرياضيات وغيرها. ومن المعلوم أنه انبثقت عن “مدرسة الألسن” مؤسسة سميت “قلم الترجمة” تشكلت من ثلاثة أقسام : الرياضيات، الطبيات، الأدبيات.

وقد عرّب صالح مَجدي كتبا في الرياضيات والفيزياء والفنون العسكرية (الموجهة إلى الجيش) والميكانيكا، والآلات، والخرائط، والجيولوجيا، وحفر الآبار، والأرصاد الفلكية، والأحجار والأخشاب. وظلت هذه المؤلفات متداولة في المدارس بعد وفاته. وبلغ عدد الكتب التي ترجمها عن الفرنسية إلى العربية 65 مؤلَّفا.

ولم يكن مَجدي المترجم الوحيد بل كانت هناك كوكبة من الشباب الغيور، فكانوا يؤلفون ويعربون العلوم، منهم، في الطب : محمد البقلي (1813- 1876) ومحمد الشافعي (ت. 1877) ومحمد باشا (1841- 1900)؛ وفي الرياضيات والفلك : محمود الفلكي (18151885) ومحمد أفندي (1809- 1852). وبعد أن قطعت اللغة العربية العلمية شوطا معتبرا في إطار هذه النهضة رأى الاستعمار الأنكليزي وقف تقدمها في بداية القرن العشرين وكسر مسيرتها.

جيل مصطفى مُشرّفة

وإثر ذلك جاء جيل مصري آخر من العلميين الوطنيين، وأحسن من مثّله مصطفى مُشرّفة (1898-1950) الذي تخرّج بتفوّق عام 1917 من كلية المعلمين بالقاهرة فاختير لبعثة إلى إنكلترا. وتحصل هناك عام 1923 على الدكتوراه في الفيزياء. رجع مشرّفة إلى القاهرة وعُيّن أستاذًا للرياضيات التطبيقية في كلية العلوم. وفي عام 1926 رُقّي إلى رتبة أستاذ رغم أن القانون يمنع ذلك لمن لم يبلغ عمره ثلاثين سنة.

كان مشرّفة شديد الاعتناء بالمدّ الثقافي العربي الإسلامي الأصيل إذ يرى أنه لا يزدهر حاضر أمة تهمل دراسة ماضيها. ومن هذا المنطلق ساهم في إحياء وتحقيق كتاب الخوارزمي الشهير “الجبر والمقابلة” بعد أن عثر عليه في مكتبة بـأكسفورد، ونشره عام 1937. وقد انتعشت جامعة القاهرة في عهد مشرّفة حين عمل على تحويل تدريس الرياضيات من الإنكليزية إلى اللغة العربية ووضع مُعجما للمصطلحات وأشرف على تعريب المؤلفات، ونادى بضرورة تبسيط كل جديد في المجال العلمي للمواطن.

وكان رأي مشرّفة في اللغة العربية العلمية واضحا، فهو يراها “لا تزال في طور التكوين”. وكان يؤمن بأنه من الأفضل أن تخرّج الجامعة “عالمًا واحدًا كاملاً” بدل تخريج “الكثير من أنصاف العلماء”. وما يُعيبه مشرفّة على العلماء “أنهم لا يحسنون صناعة الكلام”؛ ويرى الأستاذَ مُوجِّهًا للرأي العام في أمهات الأحداث ومحافظا على حرية الرأي.

ومن أجمل أفكاره ذلك الرأي القائل إنه كلما ارتفع المستوى الخلقي لقادة الفكر في الأمة واقتربت القيم في نظرهم من القيم المثالية الروحية سمت الأخلاق وعلا مستوى العلم والفضيلة وتحققت السعادة الإنسانية بين الأفراد.

أما عن المنجزات العلمية لمشرّفة فيكفي أن نشير إلى أن بعض المصادر ذكرت أن أينشتاين كتب عنه عند رحيله : “لا يمكن أن أصدّق بأن مشرّفة مات. إنه حيّ من خلال أبحاثه. نحن بحاجة إلى قدراته. إنها خسارة جسيمة … كان عبقريا. لقد اعتدْت على تتبع أبحاثه في الطاقة الذرية. إنه حقًا واحد من أكبر علماء الفيزياء”. كما نعاه طه حسين بالقول : ” … فارقنا مشرّفة … وشرّ المحن التي لا سبيل إلى تعويضها … فأمثال مشرّفة من النابغين النابهين الذين يرفعون ذكر أوطانهم، إذا خسرهم الوطن فلا بدّ من صبر طويل … قبل أن يظفر بمن يخلفهم …”!

جيل سميرة موسى

ومن تلاميذ مُشرّفة سميرة موسى (1917 -1952) التي تحصلت عام 1939 على البكلوريوس من القاهرة. كان مشرّفة أباها الروحي. وعندما تخرجت بتميّز كان من حقها تولّي التدريس بالكلية إلا أن الأجواء كانت مناوئة لالتحاق فتاة بهيئة التدريس الجامعية فضلا عن صغر سنها، وكان ذلك رأي عدد من الأساتذة الأنكليز بالجامعة. وهنا برز مُشرّفة بمراسلته وزير المعارف مهددا بالاستقالة إذا لم يسمح لسميرة بالتدريس! ويُذكر أن الوزير تعذر عليه البت فأحال القضية إلى رئيس الوزراء الذي وافق على الطلب.

أرسلت سميرة إلى لندن لتحضير دكتوراه في الأشعة السينية فنالتها في وقت وجيز. والجميل هو ما كتبه عنها المشرف حين شبهها بالعالمة الفرنسية ماري كوري Curie، مضيفا أنه عندما تعود سميرة إلى مصر ستكون “نافعة جدا في إعطاء التعليمات الخاصة بالعلاج بالإشعاع ومراعاة تطبيق الفيزياء في الطب الإشعاعي”.

كانت سميرة تردد قولها: “سوف أجعل العلاج النووي رخيصا مثل الأسبرين”. وعادت إلى القاهرة بعد إجراء أبحاث حول مكافحة مرض السرطان بالأشعة. ولم تمرّ فترة طويلة حتى نالت منحة أمريكية خاصة بالأبحاث النووية والتحقت بهذا البلد في مطلع 1952، وزارت مخابر كتبت عنها مخاطبة أباها : “أنا المصرية الوحيدة التي سمحوا لها بزيارة المعامل الأمريكية المتخصصة في أرقى وأحدث الأبحاث النووية والتي تحتفظ بها أمريكا في سرية تامة”. ومما جاء في هذه الرسالة : “… وسوف أعود قريبا لأقدم كل ما تعلمته لبلدي”. وفي رسالة أخرى قالت : “وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة … وسأستطيع أن أخدم قضية السلام”.

وعندما حان وقت العودة إلى مصر عُرضت عليها نزهة في جبال كاليفورنيا. غير أن السيارة التي كانت تقلّها هَوت من فوق المرتفعات فكانت نهاية حياة سميرة موسى يوم 15 أوت 1952!!

خلال عمرها الوجيز (35 سنة) أسست سميرة هيئة الطاقة الذرية عام 1948، ونظمت بالقاهرة مؤتمرا دوليا شعاره “الذرة من أجل السلام” من بين محاوره “كيفية حماية الشعوب من السلاح النووي”. كما كانت تعمل كمتطوّعة في المستشفيات وتنشط في جمعية النهضة الاجتماعية التي تُعنى بالفقراء والطفولة المتشردة!

أين مصر بصفة خاصة، والبلاد العربية بصفة عامة، من هذه الشخصيات العلمية الفذّة والمدركة لهموم شعوبها؟ لقد كانت تلك الشخصيات تحلم بمستقبل زاهر، وتعمل بإخلاص لأنها تؤمن بالعِلم وبالوطن معًا؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • دكتور وجدي عبد الفتاح سواحل

    جزاكم الله خيرا .....فكرتنا بالزمن الجميل .....أذكركم بمقولة لحكيم ياباني قالها بعد إلقاء قنبلة هيروشيما وناجازاكي "لقد هزمنا بسلام صنع في المعمل وعلينا أن نعود إلي المعامل من جديد".....................إلي كل من يهمة الأمر بالعالم العربي والإسلامي ...... هل من خطة عمل حقيقية لعودة الأمجاد العلمية والتقنية لإحداث ثورة في الأقتصاد المعرفي من أجل التنمية الشاملة........من خلال تعليم جيد ورعاية للعقول العربية والإسلامية.......... عسي أن يكون قريبا

  • روحو محمد

    الغرب إلى أطلال برسبوليس لإهانتهم باستعراض ضخم يمجد عظمة الحضارة الإيرانية الضاربة في أعماق التاريخ، رغم أنه من صنع هذا الغرب الذي فضله على مُصدق؟ الإجابة: عدم إدراك سذاجة وسفاهة البدوي المحمدي وقلة فهمه الأمور وعدم إدراكه حساسية الغربيين إزاء المحمديين. قد يرى البعض أني خارج الموضوع لكني متأكد أني في صلبه.
    الأجناس الراقية المتحضرة الناجحة أبناؤها يتصفون بالحساسية والفطنة والذكاء وعمق الفهم و حدة الوعي و بعد الإدراك.

  • روحو محمد

    المحمديون هذرون قليلو الهدوء والصمت والاستماع والتفكير والتدبّر والغوص في الأمور وإدراك الحقائق. المحمديون غلاظ مبتذلون لأن العائلة عندهم مؤسسة بيولوجية لا تنشيء إنسانا راقيا متحضرا حساسا ظريفا لبقا رقيقا مرهفا حاد الذكاء والإدراك. المحمديون لا يعرفون أنفسهم ومن لا يعرف نفسه ولا يفهمها لا يستطيع معرفة وفهم غيره.
    ما العلاقة بين ــ من جهةــ إعراض سميرة موسى وسامية الميمني عن الجنسية الأمريكية التي عرضت عليهما ورفض مريم مرزخاني لأي تصريح (و لو شكلي) ضد النظام الإيراني رغم استفادة الثلاثة من حسنات الغرب وــ من جهة أخرى ــ انتقادات وسخرية شاه إيران من الديموقراطية الغربية الكاذبة ثم دعوته كل قادة

  • الطيب / الجزائر

    هؤلاء يا أستاذ كُثر و في جميع التخصصات و من جميع الأقطار بما في ذلك الألاف من الجزائريين ، هؤلاء مثلهم كمثل البذور النافعة و لكنها تبقى في " سباتها " و كأنها ميتة بالنسبة لنا لأنها لم تجد في أوطانها التربة الخصبة التي تحتضنها و الظروف اللازمة لها لكي تنتش و تمدنا بالثمار التي نتطلع إليها و أكسجين العلم الذي نفتقره و قد خنقتنا رداءة الرداءة و جهل الجهل !

  • تقي الدين.

    الشيء الذي يمكن ملاحظته بسهولة، هو انك في المشرق يمكن بسهولة ان تكتب تاريخ تطور العلوم و من ساهم في تطويرها من العلماء و اامفكربن .. و كثير من اامناصب العلمية او الادارية في المراكز العلمية تمنح للعلماء الاكفاء الذين لهم باع طويل في الميدان، و لهم كذلك بحوثهم التي تشهد علي ذلك .. خذ مثلا منصب رءيس المجمع اللغوي، لا يمكن ان يمنح لغير العالم اامتمكن، كما يحدث عندنا في الجزاءر!!! . لذلك ينجد صعوبة كبيرة في كتابة التاريخ العلمي عندنا، لان السياسة و الادارة غلبت العلم ... لكن الحمد لله فالغرب سيتكفل بذلك، لان كل المعلومات في هذا المجال لديه، و لا مجال التزوير و تشويه ااحقاءق، كما يحدث في ثورتنا

  • جزائري - الجزائر

    أكيد أن حملة نابليون على مصر أيقضت النبهاء من أمثال الطهطاوي لما رأوه من تفوق لدى الغرب فرسموا خطة الترجمة والابتعاث كأقصر طريق لتدارك التأخر الحاصل عندهم. الملفت في مقاربتهم هو كما قال إقبال الجمع بين روح الشرق وعقل الغرب فكانت النتيجة بعض الأفذاذ الذين ذكرتهم...لكن بعد ذلك توالت النكسات وعادت الأمور إلى نقطة الصفر أو دون ذلك لأن معاول الهدم والردم (الداخلية والخارجية) أقوى من محاولة بعض السواعد للبناء ! السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف السبيل إلى النهوض مجدداً علماً أن الوسائل التكنولوجية الحديثة عوامل جد مواتية لبعث نهظة مبنية على أسس متينة لا تعيقها المثبطات مهما كانت ؟

  • تقي الدين

    تلك نماذج بشرية راءدة، كانت تجمع ببن العلم الغزير و الاخلاق الحميدة، مع عدم نسيان اصولها العرببة العريقة .. فهم يدركون جيدا البون الشاسع الذي يفصل ببن البلدان اامتقدمة و بلدانهم، لذلك تجدهم يعملون بجد و نشاط من غير كلل، لردم تلك الهوة، و ذلك من خلال ما تعلموه و اتقنوه من علم و تقنية .. ففكرهم كان منصب حول خدمة امتهم و شعبها علي حساب صحتهم و اوقاتهم، و خير دلبل وفاة مشرفة بازمة قلبية، طبعا اذا استبعدنا عامل الاغتيال .. و الشيء الملاحظ ان ااترجمة من الفرنسية الي العرببة تكفل بها المشارقة ، و كان اامغاربة يعيشون في علم اخر، ربما الاستعمار اثر بجيناته علي عقول النخبة المغارببة، التي انعزلت المجتمع

  • روحو محمد

    نظرة ساذجة، ساذجة جدا للأمور. هل من الصدفة أن يموت مصطفى مشرفة وسميرة موسى وسامية الميمني ومريم مرزخاني كلهم ــ وربما آخرون لم نسمع عنهم ــ مبكرا؟ الغرب لم ينس ما أصابه على يد المحمديين بينما أحفاد الملتحين المتعممين جهلاء متخلفون حمقى فظاظ, كما كان أجدادهم, لا ذاكرة لهم لا يعلمون أن من ظلم وأثم لا ينبغي أن يغمض له جفن أو ينسى ما فعل . هناك حرب حضارية محمومة ضد شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للحيلولة دون أخذها بأسباب القوة والازدهار و إبقائها في القرون الوسطى تصارع من أجل البيولوجيا و تتقاتل لدواع طائفية و ظلامية.