-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل القراءات معجزة قرآنية؟

هل القراءات معجزة قرآنية؟
ح.م

برق عنوان هذه المقالة في ذهني لما كنت جالسا في مدرج جامعي أتابع مناقشة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة والأدب العربي نسج خيوط مادتها نسجا فريدا ومحكما أحد الطلبة النبهاء الذين يشرفون الجامعة الجزائرية، وهو الطالب النجيب عبد العزيز شوحة.

اجتمع حول عجينة إنشاء هذه الأطروحة جهدان طيبان أثمرا ثمرة لذيذة يانعة، وهما جهد الطالب الباحث عبد العزيز شوحة، الحافظ لكتاب الله، والموسوعي في مكتسباته العلمية والثقافية، والذي أطلق عليه زملاؤه الذين عاشروه بجامعة باتنة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي كنية مستعارة هي: “مالك بن نبي”. وهو من استطاع قهر عاديات الزمن، ورفض أن تكسر إرادته، وأن تذل عبقريته وعقيرته. وجهد مؤطره الدكتور بلقاسم ليبارير الذي لا يقرأ من يقابله في وجهه البشوش إلا ملامح عالم طيب السريرة وخلوق ومسرف في التواضع. وقد استطاع بهدوئه وحنوه وصبره ومهارته المدهشة وطول باعه العلمي أن يكون خير معين لطالبه، وأن يبني معه، بعد أن سبر أغوار نفسيته، علاقة أبوية ملأت قلبه برجحان الاطمئنان والثقة. وظل واضعا يده في يده حتى قبل سويعة من انطلاق جلسة المناقشة، يحدثه في همس، ويرشده في هدوء. وعندما يثني الطالب على أستاذه الوفي الودود، يقول: (… ومع ذلك، صبر عليّ الأستاذ الكريم، وشجعني على عدم الاستسلام للظروف الخاصة).

لم يسابق الطالب عبد العزيز شوحة الزمن في إتمام منجزه الذي طوى حمله عقدا ونصف عقد من الزمن؛ لأنه لم يكن واقعا تحت غواية الحصول على الشهادة التي يرضى كثيرون قطفها وهي في طور نموها الحِصْرِميأو أكلها حشفا. وإنما فضل أن يسير فيه سيرا هينا بطيئا. وكما فعل مع أطروحة الماجستير، فقد اختار دربا شائكا، ندر المشاة فيه لفاقة في الزاد وعوز في المؤونةوقصور في الاستعداد، وفضل أن يواجه قضية علمية لا يجرؤ الكثيرون على الاقتراب من سورها، ودق بابها.

لمع موضوع الأطروحة أمام عيني صاحبها قبل أن يحل آوان اختياره بزمن طويل. ويقر أنه لما كان يشتغل لإعداد رسالة الماجستير عن منهج ضبط الألفاظ في سفر “ابن عطية الغرناطي” المعنون بـ: “المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز” لفت نظره إلى أهمية علم القراءات. ولم يخف حُزونة الموضوع، إذ يقول: (لمااخترت هذا الموضوع للدراسة علمت أنه موضوع صعب يحتاج إلى إلمام شامل بكافة علوم اللغة والقرآن الكريم، وهو ليس بالأمر الهيّن).

يرفع الباحث عبد العزيز شوحة من سقف أهمية الموضوع الذي اختاره عن دراية وتبصر، إذ يقول في مقدمته: (قد لا أبالغ إن قلت: إن القراءات القرآنية هي أهم علوم اللسان العربي، بل إنها تمثل في نظري اللسانيات التطبيقية للغة العربية خصوصا علم الأصوات). ويردف قائلا: (… وأن هذه الأحرف السبعة، وما تولد عنها من قراءات صحيحة أو شاذة هي إحدى مظاهر الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم). ويستطرد في القول: ( وهو معجزة ـ يقصد القرآن الكريم ـ كلامية في نظرنا نحن المسلمين، يستدعي كشف أسراره تضافر جميع العلوم، وعلى رأسها اللغة. كما أن المصادر المحققة التي عنيت بتدريس تلك القراءات وتوجيهها والاحتجاج لها وإعرابها لهي من أهم الوثائق التي تمكننا من دراسة الظواهر اللغوية للعربية في الميدان التطبيقي الأمثل، وهو القرآن الكريم بجميع قراءاته الصحيحة والشاذة، وبما يمكن أن يرفد الدرس اللغوي العربي الحديث بمادة مهمة يمكنه أن يركز عليها خصوصا فيما يتعلق بقواعد النحو وأصول الاحتجاج).

قارب الباحث عبد العزيز شوحة موضوع رسالته الذي تعتبر سنداته المسخرة تراثية بأدوات منهجية حداثية، ولم تقو المفاهيم العتيقةعلى الوقوف عقبة في طريقه بعد أن قتلها شرحا وأشبعها توضيحا بما في ذلك المفاهيم المفتاحية التي شيد بها العنوان، وأبرز الخيوط الرابطة بين نسقها البنائي ونظامها الذي ألفته في الفهم وفي التأويل. وكان مسهبا في إيراد الأمثلة التوضيحية التي تجعل هذه المفاهيم تكتسي حلل معانيها القديمة التي قد لا تتفق مع معانيها المتداولة حاليا. فالتوجيه، على سبيل المثال وكما عرّفه، هو رد الاختلافات اللغوية واللّهَجية التي برزت مع أداء النص القرآني وتلاوته إلى أصولها والقبائل التي نطقت بها.

أثناء المناقشة، احتج الطالب الباحث أمام لجنة المناقشة عن مسايرة الآخر فيما يصكه من مفاهيم جديدة، والأخذ بها تجاوبا وتبنيا رغم محدوديتها في الدلالة، وذكر على سبيل المثال مفهوم: “الإشكالية” الذي يراه مفهوما تعليميا موقوفا على هدف/ أهداف قريب(ة) محدد(ة)، والتخلي عن مفهوم: “الموضوع” الذي لم يبله الزمن، ولم يسلمه للنسيان؟؟.

لو لم يكن لبحث الطالب عبد العزيز شوحة من فائدة سوى بعث اسمي اثنين من علماء المغرب الإسلامي، وهما عالمان جليلان مرموقان عاشا في القرن الرابع الهجري لكفاه شر الردبعد أن أثيرت قضية الفائدة المصرومة من عمله. وفي إحياء شطر من عصارة فكريهما تذكير للمساهمة المغربية (المغاربية بمصطلح أيامنا) في الثقافة العربية الإسلامية وسط نزاعات مع الإخوة المشارقة لا تخلو من الافتخار وإدعاء قصب السبق والركض قبل الآخر في أي ميدان من الميادين.

وُسمت الأطروحة بعنوان مفصل يؤطر موضوعها تأطيرا كاملا هو: (منهج الاحتجاج اللغوي للقراءات القرآنية ـ “موازنة بين كتابي: الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لمكي بن أبي طالب القيسي وشرح الهداية في توجيه القراءات للمهدوي”). وأتبع المنهج الوصفي في جمع مادتها العلمية، وفي استصدارها من متني الكتابين، والمقابلة بينهما، وتحليلها لتبيان مواضع الإتفاق ومواطن الاختلافبينهما.

رغم أن القرآن الكريم نزل على نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلغة قريش، واللهجات قديما كانت تسمى لغات، إلا أنه أحاط بجميع اللهجات العربية الأخرى في قراءاته السبع أو أحرفه السبعة الشائعة على وجه الخصوص حتى تسهل قراءته وفهمه، ويسري تداوله على نطاق أوسع وأعم. بما يعني تمتيع أداء النص القرآني بالتنوع حتى يستجيب مع اللهجات العربية الفصيحة.ولذلك كانت رسم (أي كتابة) المصحف العُثماني رسمًا مجردًا متحللا من إرفاق النقاط بحروفه وعاريا من علامات التشكيل ليُقرأ على وجوه متعددة ومتنوعة، لأن الأساس في تعلُّم القرآن هو المشافهة والتلقي من الأفواه مباشرة. ونظرا لما يحمله هذا الرسم، رغم أنه بدائي، من مضامين إعجازية مبهرة فقد ضم هذا الإعجاز البليغ إلى القراءات المترتبة عنه حتى بعد ظهور قواعد الإملاء والنحو والصرف…

فارقت المناقشات التي لاحقت أطروحة الباحث عبد العزيز شوحة، وانفصلت عن جوهرها، ولم تكن ثرية وغنية وحبلى بالإضافات التي تصوّب أو تخالف ما طرحه من آراء وما توصل إليه من نتائجانفرد بها أو عزز بها نتائج من سبقوه. ولم يغربل متن أطروحته كما فعل هو مع مظان الشيخين مكي بن أبي طالب الأندلسي القيسي (ت. 1045م) وأحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي التميمي (توفي نحو 1048م) ومع بقية المصادر والمراجع التي استند إليها. ولم يكن التخفي خلف عدم الاختصاص بالعذر المنجي الذي يحفظ ماء الوجه.وتوقفت أغلب الملاحظات عند الجوانب الشكلية الهينة،وجعلت حتى من الأخطاء المطبعية وزلات راقن الأطروحة عللا ونقائص مشينة بعد تضخيمها. ولعله سيجد هذا العمل بعد نشره في كتاب في جمهور المتخصصين الأكفاء والمتمرسين المؤهلين من يعيد قراءته قراءة استكشافية تشبعها نقدا وتوجيها وتقويما.

تعود مع مناقشة كل رسالة أو أطروحة جامعية قضية تقويمها التي لا يجوز أن تنزل منزلة متأخرة؛ لأن التقويم جزء أصيل في البحث العلمي باعتباره يفرز بين جيده وهزيله، وحسنه ورديئه. ولا يمكن تحقيق الجودة المنشودة في البحوث إلا إذا سنت عناصر التقويم على أدق المسنات، وشحذت شحذ السيوف البواتر. وأرى في تبني شبكة معايير موضوعية ووجيهة في صورة عرْضية تتجاوب مع كل التخصصات العلمية الجامعية مع توفير هامش للخصوصية المادوية سيكفل التحرر من أغلال الأساليب التقليدية التي يضيع معها الجهد ويهدر الوقت من دون عائد بالنوافع، والتي جعلت أعضاء لجان المناقشات لا يتورعون من الحديث بالدارجة حتى في رحاب أقسام اللغة العربية وآدابها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!