-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل للحَراك مشروع؟

بن يغزر أحمد
  • 254
  • 0
هل للحَراك مشروع؟
ح.م

مع حلول الذكرى الثانية للحَراك الشعبي عادت من جديدة أسئلة ضاغطة رافقت الحراك منذ يومه الأول من قبيل: هل يحتاج الحراك إلى قيادة تمثله؟ وهل يمكن صياغة رؤية تعبّر عن أهداف الحَراك وغاياته؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فكيف يكون ذلك عمليا؟

لابد من الإقرار ابتداء بصعوبة تقديم إجابة معبرة وحقيقية عن هذه الأسئلة وذلك لسببين اثنين على الأقل:

أولا: طبيعة الحراك الشعبية؛ فهو لم يكن من ترتيب مباشر من جهة محددة، ولم يكن تطورا منتظرا أو متوقعا لمسار سياسي أو اجتماعي معين، ويبدو أنه فاجأ الجميع على الأقل في زخمه وقوته وعفويته وسلميته، صحيحٌ أن البعض كان يتوقع انفجارا شعبيا تكون دوافعه مطالب اجتماعية ويكون احتمال تحوله إلى احتجاجات عنيفة واردا، وقد وجدنا أثرا لهذا في تصريحات ومواقف الكثير من السياسين والمراقبين قبل 22 فيفري، لكن الحراك بالشكل الذي ظهر به تجاوز كل هذه التوقعات، وهذا يعني أنه لا يمكن لأي جهة أن تتبناه أو تدَّعي أنها تملك تفويضا للحديث باسمه أو تمثيله أو حصرية الحق في صياغة مضامينه.

ثانيا: نجح الحَراك في أسابيعه وأشهره الأولى أن يجمع كل الجزائريين بمختلف توجهاتهم الفكرية، ومستوياتهم الاجتماعية والجيلية، وميولهم السياسية وتمركزانهم المناطقية، وهي حالة غير مسبوقة باستثناء الوحدة الشعورية التي أسست لها الثورة الجزائرية (1962-1954) والتي مكنت الجزائريين من توجيه كل طاقتهم نحو هدف مشترك واحد وهو الاستقلال، وأمارة ذلك أن المسيرات الأسبوعية كانت تجمع بين “الإسلامي” و”العلماني” و”اللامنتمي” جنبا إلى جنب، وأن الحَراك كما مس المدن الكبرى في الشمال امتد إلى المناطق الداخلية ومدن الجنوب، وكان له صداه في الحواضر وفي الأرياف، فهو حالة من الوعي والفعل الجماعي المتجاوِز لكل الانتماءات.

وبقدر ما كانت الخاصّيتان السابقتان من نقاط قوة الحَراك، وهي التي أعطته الزخم والهيبة التي جعلته غير قابل لا للتوجيه ولا للاحتواء ولا للاختراق وهي المخاطر التي تهدد عادة الحركات الشعبية العفوية، فإنها بالمقابل وبنفس القدر جعلت من مهمة تشكيل بؤرة قيادية له شبه مستحيلة، ومن صياغة رؤية ومضامين فكرية أو سياسية تقوده وتعبِّر عنه من الصعوبة بمكان.

وإن كان غياب القيادة التمثيلية وضبابية الرؤية المشتركة في بداية الحَراك مفهوما وغير مؤثر بشكل كبير لأن الحراك كان يفرض صوته بشعاراته ومطالبه في مسيراته الأسبوعية، وبهدير الجماهير التي تسير فيه بإصرار، فإن استمرار الوضع لمدة طويلة من شأنه أن يحوِّل الثغرتين إلى نقطتي ضعف بل وإلى تهديد لكل الرصيد الذي راكمه الحراك إلى حد الآن.

ربما يكون موضوع تمثيل الحَراك متجاوزاً الآن؛ فقد آلت كل المحاولات أو بالأحرى الدعوات في هذا الاتجاه إلى الفشل، بل إن قطاعا واسعا من الحراكيين أصبح مقتنعا أن مسألة التمثيل قد لا تكون باليسر المرغوب، وهي لا تشكل بالضرورة في حال تحققها إضافة لقوة الحراك، فانتصاب قيادات للحراك فضلا عن صعوبتها لأسباب كثيرة، فهي قد تشكل ثغرة تتوغل منها سياسات الاحتواء والضغط والمساومة وتشتيت الحراك، كما قد يفتح المجال لصراعات ومماحكات لا تنتهي.

ولهذا فإن الحل الأفضل أن تنبثق من الحَراك أفكارٌ تتطور تدريجيا إلى هياكل تنظيمية ذات صبغة سياسية أو جمعوية أو نقابية تعمل على تأطير ما أمكنها من المكونات البشرية للحراك، وتعمل على تحقيق ما يمكنها من أهدافه، وقد تشترك في هذه المساحة مع بعض ما هو موجود وقائم من هياكل وقفت مع الحراك لتستفيد من خبرتها وتجربتها، وفي هذا المجال فإن المطلوب هو تأمين وتوسيع وتجذير المكتسبات التي فرضها الحَراك على السلطة، وقد يكون مفيدا أن يتهيكل جزءٌ من الحراك في فضاءات مستقلة تحتاجها جزائر الغد كهيئات الرقابة الشعبية “رقابة على نزاهة الانتخابات، رقابة على صرف المال العام، رقابة على احترام حقوق الإنسان…”، لتتحول إلى أدوات راسخة ذات مصداقية لفرض الإرادة الشعبية لا يمكن تجاوزها مستقبلا.

الأهم من هذا في رأيي هو تحدي الرؤية التي تكون بمثابة العقل العميق للحَراك، ونقطة التقاطع التي تجتمع حولها كل مكونات الحراك، وتكون هي الممثل الفعلي له، وتتضمن كل المطالب والأشواق والتطلعات التي أخرجت الملايين من الجزائريين باختلاف توجهاتهم إلى الشارع لأشهر بداية من 22 فيفري 2019، وهي المتضمنة في الشعارات والهتافات الأساسية التي تم ترديدُها في المسيرات المليونية بشكل يقترب من الإجماع، ومنها “ما كاش الخامسة يا بوتفليقة، يتنحاو قاع، كليتو لبلاد يا السرّاقين، الجيش الشعب خاوة خاوة…”.

رغم الأسلوب البسيط الذي صيغت به هذه الشعارات، لكنها تمثل بالمجمل عناوين فاقعة لمشروع الجزائر المنشودة التي يتوق إليها الحراك في عمقه، ويمكن أن تكون الكلمات المفتاحية في مشروع رؤية الحَراك، أما ما دونها من الشعارات فهي قد تكون مطالب لبعض مكونات الحراك لكنها لا تحضى بالإجماع، ولذلك فإنها تترك لنضال من يؤمن بها، ويبقى الفيصل في شأنها متروكا للإرادة الشعبية الحرة السيدة.

الأكيد أنه لا يمكن تجاهل الصعوبة التي ستواجه مثل هذا المسعى، فرغم الحرص على التجانس والخطاب التوافقي، ورغم سيادة صوت الحكمة والتسامح والبحث عن المشترَك خاصة في الأسابيع الأولى للحَراك، إلا أنه لا يخفى على أحد أن الحراك يستبطن بداخله توجهاتٍ وإيديولوجيات ورؤى وانتماءات متعددة وحتى متناقضة أحيانا، وأنه في أول فرصة تتاح سيطفو ذلك كله على السطح، وليس في هذا أي مشكل إذا حرص الجميع على إدارة هذا الاختلاف بالشكل السليم.

وفي هذا الشأن ينبغي استثمار الخبرة التاريخية المتمثلة في البيان التأسيسي للثورة الجزائرية؛ أي بيان أول نوفمبر الذي كان موفقا بشكل هائل في صياغة روح الثورة، لقد جاءت صياغة هذا البيان بشكل يجعل كل جزائري مهما كان انتمائه وتوجهه يشعر بذاته فيه، وأنه يعبر عما يريده وعما يطمح إليه، وهو ما ساهم إلى حد كبير في ضمان التفاف الأغلبية الساحقة من الجزائريين حول الثورة وأهدافها.

كما يُفترض أن الجزائريين من خلال تجربتهم غير البعيدة التي أعقبت حراكهم السابق في أكتوبر 1988 قد أدركوا أن الانسياق وراء الاصطفافات الإيديولوجية بشكل شوفيني، وبنزعة إقصائية، سيحرم الجميع من قطف ثمار مسعاهم نحو جزائر أفضل، بل ويدفعهم إلى أسوء وأخطر السيناريوهات، ويعطي الفرصة لكل نزعات الاستبداد والفساد لتلتفَّ على الموقف، وبالمقابل علّمهم الحَراك الحالي أنهم عندما يقدِّمون المشترَك، ويؤخِّرون الانتصار لتوجهاتهم الحزبية والمصلحية، فإنهم يحققون الكثير.

ولذلك فإن التوافق على الرؤية القائدة للحَراك وغاياته السياسية يقتضي هذه القابلية لحسن إدارة الأولويات، وأن يحرص الجميع على القدوم باكرا وبحماس لمساحة المشترك والجامع والأولوي، وأن يستصحب نية التنازل والتأجيل والتفهم، وأن الجزائر القوية المستقرة التي يشعر فيها كل مواطن بكرامته وحريته وراحته وثقته في نفسه وفي مستقبله ومستقبل أولاده هي الهدف الذي يستحق من الجميع أن يبذل جهده في اتجاهه.

الجزائر بهذه المواصفات فقط هي التي تضمن لكل صاحب مشروع أو فكرة أو طموح كل الفرص وبكل حرية ليعرض ما يريد على الإرادة الجماعية للأمة، وهي التي يحتكم إليها الجميع عندما يستبد بهم اختلاف الرأي، أو يتجاذبهم تنوع التقدير، واعتقد أن هذه هي قمة غاية حراكنا الكبير.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!