-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يومُ… حَـراك الرياضيات!

يومُ… حَـراك الرياضيات!

في عام 2019، قرّرت منظمة اليونسكو بعد مساعٍ طويلة النفَس لبعض الرياضياتيين، اعتماد يوم 14 مارس من كل سنة “اليوم الدولي للرياضيات”. وقد اختير هذا اليوم لتشابه تاريخه بالعدد 3.14 (اليوم 14 من الشهر 3 في السنة). والعدد 3.14 له تاريخ طويل زاخر بالألغاز، ولازال يحيّر الباحثين في الرياضيات، كبارهم وصغارهم، إلى اليوم. ولعلّ أبسط ميزة لهذا العدد اللغز أنه يساوي حاصل قسمة محيط أي دائرة على قطرها. أليس غريبا أن تكون هذه النتيجة قائمة مهما كبرت مساحة الدائرة أو صغرت؟!

“من أجل عالَم أفضل”

وقد اختارت اليونسكو هذه السنة شعار “الرياضيات من أجل عالَم أفضل”. ولا ندري سبب اختيار هذا الشعار. لكنه من الواضح أن اليونسكو تريد من الرياضيات أن تسهم بقسط أوفر في تحسين وضع العالم بشكل عام، لا سيما وضعه الصحي. ولعلها تركز، بعد سنة قضيناها مع كورونا، على ضرورة تطوير الرياضيات الحيوية (biomathematics).
والباحثون في الرياضيات لم ينتظروا صيحة اليونسكو للانكباب على هذا الموضوع، إذ نشروا مئات الأبحاث حول كورونا خلال السنة الفارطة بصفة خاصة، وآلاف الأبحاث حول الفيروسات بصفة عامة. أما في الرياضيات الحيوية التي أصبحت الآن من الفروع البارزة في الرياضيات، فعدد الأبحاث الأصيلة المنشورة فيها يناهز 10 آلاف بحث!
ويشير المؤرخون إلى إن أول ظهور للرياضيات الحيوية كان خلال القرن 13 الميلادي على يدي الرياضياتي الإيطالي فيبوناتشي Fibonacci (1170-1250) عندما استخدم متتاليته الشهيرة لوصف كيفية تكاثر الأرانب. ومن المعلوم أن والد فيبوناتشي كان تاجرًا ومسؤولا بالجمارك الإيطالية وأدار مركزًا تجاريًا في مدينة بجاية الجزائرية. ولذا أقام فيبوناتشي الابن في هذه المدينة عندما كان نور علمها يشعّ في كل اتجاه، فنهل منه ما نهل، ونقل منه ما نقل إلى بلاد الإفرنج. وهكذا، يحقّ اليوم لبجاية أن تفاخر بأرانب فيبوناتشي!
تميل الأبحاث في الرياضيات الحيوية اليوم إلى استغلال النمذجة والبرمجة. غير أن لدى الرياضياتيين توجهات أخرى نظرية تخصّ علم الأحياء. ومهما يكن من أمر، فيخطئ من يتصوّر أن الرياضيات البحتة منفصلة عن الرياضيات الأكثر تطبيقا، مثل الرياضيات الحيوية أو المعلوماتية أو الذكاء الاصطناعي الذي يغزو الآن العالم.

حَراك غروتنديك

ما من شك أن تطبيقات الرياضيات ليست كلها في صالح الإنسان والعالَم. علينا أن نتذكّر مسألة أثارت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي الكثير من الجدل، وهي العلاقة بين الرياضيات البحتة وتطبيقاتها : “لماذا صارت بعض النظريات الرياضياتية المعقّدة أداة ضرورية للفيزيائي ولصانع القنبلة الذرية وآلات الدمار”؟ هناك من الرياضياتيين من لا يرى نفسه مسؤولا عن ذلك عكس البعض الآخر منهم. وفي هذا السياق، نشر الرياضياتي الفرنسي الشهير روجي غودمان Roger Godement (1921-2016) عام 1970 في جريدة “لوموند” الفرنسية رسالة يبدي فيها اعتزازه بكونه يمارس رياضيات غير مفيدة لأنها “على الأقل لا تجلب ضررا لأي مخلوق”!
ثمّ، ألم ينتفض ذلك العبقري المسمى ألكسندر غروتنديك Grothendieck Alexandre (1928-2014) في ذلك الوقت عندما فوجئ بأن المعهد الفرنسي الذي كان ينتسب إليه يتلقّى دعما ماليا من وزارة الدفاع الفرنسية؟ وتعبيرًا عن انتفاضته قدّم استقالته من المعهد بوصف باحثا في الرياضيات البحتة!
ولم يكتف غروتنديك بالاستقالة، بل اتخذ قرارًا حاسمًا يتمثل في الكّف عن البحث في حقل الرياضيات… وهو الحائز عام 1966 على أعلى وسام في الرياضيات (المسمى “ميدالية فيلدز”)! وأسّس حركة من شأنها تأكيد المسؤولية الأخلاقية للعلماء إزاء هذا الوضع. وصار غروتنديك ينادي بضرورة التوقّف عن إجراء أي بحوث في الرياضيات لأنها تؤدي لا محالة إلى تطبيقات عسكرية ليست في صالح العالَم.
وعندما دخل غروتنديك القاعة التي اكتظّ بين جدرانها أكبر تجمع للرياضياتيين عام 1970 أثناء مؤتمرهم الدولي الدوري، وراح يوزع المناشير الداعية إلى وقف نشر البحوث الرياضياتية، اضطر أستاذه جون ديودونيه Jean Dieudonné (1906-1992) الذي كان يدير المؤتمر، إلى إخراجه من القاعة بالقوة. وكانت القطيعة بين الأستاذ والتلميذ… ورحل غروتنديك قبل 6 سنوات حزينًا على حال الرياضيات وحال أهلها!

وزارة التربية على قدم وساق!

وعلى كل حال، فالرياضيات تُعَدّ سلسلة واحدة، كل حلقة منها تخدم الحلقة التي قبلها والتي بعدها. غير أنه عندما تبتعد حلقات السلسلة عن بعضها البعض، يفشل المتتبع في ربط هذه الحلقة بتلك التي بعدت عنها أشواطا. وهذا عيب من عيوب تدريس الرياضيات : في غالب الأحيان يعجز المدرّس عن ربط موضوع درسه (الذي يبدو نظريا للمتعلم) بتطبيقاته لأن هذا الربط يستدعي التطرّق إلى الحلقات المتعاقبة الواصلة بين هذا الدرس وتطبيقاته. وذلك ما لا تسمح به المدة المخصصة للدرس، حتى إن كان الأستاذ على دراية بها. كما أن ضآلة زاد التلميذ من الرياضيات لا يسمح بصفة عامة باستيعاب تلك الإضافات.
إنها معضلة تدريس الرياضيات لتلاميذ وطلبة اليوم بعد التطوّر الهائل الذي عرفه هذا العلم… تضاف إليها معضلة أخرى تتمثل في أن المتعلّم أصبح لا يخصص مدة كافية لاستيعاب دروسه، ويفضل تلقّي الدروس الخصوصية المضلِّلة التي تجعله يتصوّر أن الجاهز من الحلول سيمكّنه من استيعاب الرياضيات… لكن، هيهات، فما هكذا تُؤكل كتف هذا العلم!
في السنة الماضية التي كان من المفترض أن يُنظم فيها أول احتفال باليوم الدولي للرياضيات، حلّ بنا فيروس كورونا، وعكّر جو الاحتفالات… بل ألغاها في كثير من البلدان. وقد عاودت وزارة التربية هذه السنة تسطير برنامج ثريّ لإحياء المناسبة. نذكر من بين نشاطات هذه التظاهرة أنه أجريت في الأسبوع الثاني من هذا الشهر مسابقة في الرياضيات لأحسن التلاميذ في الأطوار الثلاثة في كل ولاية.
وفي المرحلة القادمة سوف تجرى لهؤلاء الفائزين ولائيًا، مسابقة وطنية عن بعد في آخر هذا الشهر. وستعرفنا هذه المرحلة بأسماء التلاميذ الثلاثة الأوائل من كل طور. وتعتزم وزارة التربية تكريم هؤلاء التلاميذ التسعة يوم 14 مارس. وفي جعبة الوزارة نشاطات أخرى، قيد الدراسة والإنجاز.
ووزارة التربية ليست وحدها في مجال إحياء ذكرى الرياضيات، إذ إن جمعية الرياضيات الجزائرية استيقظت بعد سبات عميق لتعلن أن لها برنامجا حافلا بهذه المناسبة ينطلق يوم 18 فبراير الجاري تتخلله محاضرات يلقيها بعض الرياضياتيين في البلاد. وقد عوّدتنا هذه الجمعية في عديد اجتماعاتها على الكثير من الوعود، لكننا ألفنا سماع جعجعة دون أن نرى طِحنا. نتمنى أن تكون هذه المناسبة انطلاقة جادة تدعم تدريس الرياضيات وتطورها في بلادنا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • جبريل اللمعي

    - الرياضيات ليست علما، إنها أداة نمذجة تُعَدّ معيار العلم. ما لا يمكن نمذجته بالرياضيات ليس علما، في نظر غاستون باشلار وكارل بوبر، على الأقل.
    - كان علماء فيزياء الكون يقولون إن الكون المادي يمكن نمذجته رياضيا. منذ بضع سنوات أصبحوا يقولون إن الكون مصنوع بالرياضيات. سبحان ربنا رب العرش العظيم؛ "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا". (الفرقان - 2)

  • جمال انس

    الرياضيات نظام حياة وترتيب ، لامعنى لها بدونها .. للأسف طريقة تدريسها للتلاميذ ةالطلبةجعلتها جامدة ومنبوذة من طرفهم ، والنتائج في الامتحانات خير دليل على ذلك باعتراف الوزيرة السابقة بن غبريط ..!!

  • يوغرطة

    الرياضيات هي ام العلوم جميعها بحق
    علم الرياضيات هو من سهل حيياة البشر علي هذا الكوكب وساهم في تقدم الانسان علي جميع الاصعدة

  • هشام

    أي رياضيات نظرية لها تطبيق في الواقع حتى وإن لم نعرفه اليوم سنعرفه غدا إن شاء الله.

  • استاذ

    شكرا لك على الافادات